q
اليوم هي مصارحة مع الشاب العراقي، فقد كتبت مئات المقالات الناقدة لاداء الحكومة والجهات الرسمية، وجاء دور الشباب الذين تقع عليهم مسؤولية بناء الدولة، كما يريدون حقوقيا فعليهم واجبات، بالطبع، هذا التوصيف للشاب الذي ذكرته في بداية المقال لا ينطبق على جميع الشباب...

شاب عراقي في اقصى حدود طاقته، عمره في منتصف العشرينيات، حصل حديثا على شهادة الجامعة، وهو الان يمارس اعمالا حرة ريثما يحصل على الوظيفة التي يبحث عنها باختصاصه، كما يقوم بمشاركة بعض المنشورات في الفيس بوك، منها على سبيل المثال تلك العبارة المتداولة التي تقول: أحلام الشاب العربي يعيشها كلب في أوروبا.

انه يبحث عن كل شيء مثالي، رغم قلة مرتبه في الوظيفة الحالية لكنه يصر على شراء احدث هاتف ذكي، ثم يفعل اشتراك الانترنت، ويتجول بالمقاهي، ويصور قصصه اليومية وينشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، انه ذلك الشاب المثالي كما يصور نفسه للاخرين.

يرتدي احدث موديلات الملابس، وله علاقات مع فتيات يبحثن عن شباب مثله، يتواصل معهن يوميا ويروي لهن بطولاته، ولا ينسى ابدا مثاليته في الحياة.

انه يريد ان يكون مثل الصورة التي يرسمها للشاب الأوروبي في ذهنه رغم كل ظروفه، تجاوز الضائقة المالية، واشترى الهاتف والملابس وذهب للمقهى واشترك بالانترنت.

لكن الحقيقة ليست كذلك هو يمارس عملية تقمص أدوار غيره، وهو فاشل في هذا المجال، فقد بقي شيء واحد حتى يصبح شابا غربيا مثاليا، كتاب يتأبطه يوميا يقرأه عند ركوب سيارة "الكيا" ويتحدث عن نظريات العقد الاجتماعي، وروح السياسة والقوانين، ومباديء علم الاجتماع ليكون مساهما فعليا في بناء بلده وشابا اوروبيا مثاليا.

اليوم هي مصارحة مع الشاب العراقي، فقد كتبت مئات المقالات الناقدة لاداء الحكومة والجهات الرسمية، وجاء دور الشباب الذين تقع عليهم مسؤولية بناء الدولة، كما يريدون حقوقيا فعليهم واجبات.

بالطبع، هذا التوصيف للشاب الذي ذكرته في بداية المقال لا ينطبق على جميع الشباب، لكنني على دراية تامة بانه يمثل شريحة واسعة ومؤثرة، كما انني لا اتبنى رواية ان شباب أوروبا يعيشون في حالة مثالية بل هكذا يتم تصويرهم، وهكذا يحاول فريق كبير من الشباب العراقي اللحاق بهذا المسار.

انا مارست الدراسة الجامعية لمدة عشر سنوات، من البكلوريوس وحتى الدكتوراه، وبشكل متواصل، ما جعلني على احتكاك مباشر بشريحة الشباب، لا سيما وانني كنت في نفس الفترة امارس التدريس في اكثر من جامعة حكومية واهلية.

الشباب الجامعي الذي يمثل الشريحة الكبيرة، والمؤثرة في المجتمع، وجدتها خالية من أي مشروع، هذه الشريحة تعيش حالة استسلام مطلق، لا يعرفون من الجامعة سوى بناء شبكة من العلاقات والتقاط الصور ونشر البطولات اليومية في جميع اركان الجامعة.

البطل الجامعي الذي يحصل على التقدير هو ذلك الشاب المتمرد على جدول المحاضرات، حتى انني أتذكر حوادث كثيرة عندما يقمعون الطالب الذي يقوم بمناقشة الأستاذ في الموضوعات التي يطرحها في سياق المحاضرة، ويتهمونه بتهم مختلفة.

هل هذا تعميم؟ ليس تعميما لكنني اتحدث عن الغاليبة من الشباب الجامعي الذين شاهدهم بعيني وعشت معهم حينما كنت طالبا وحينما مارست التدريس.

اروي شاهدين لاختم المقال، فقد كنا نعيش في القسم الداخلي، فكان احد الطلاب يقوم بتمارين عملية في اختصاصه لكن بدون تكليف من قبل الأستاذ، الا انه كان يتعرض لاشد عبارات الاستهزاء والاستهجان، لانه انحرف عن مسار الشباب الجامعيين الذين يجب ان يرتدوا اجمل الملابس، ولا يكررون الملابس على طور الأسبوع، كما انه عليهم عدم الاهتمام بالدراسة لان هذه صفة "السجاجين" المعقدين.

الحادثة الثانية عندما كنت أستاذا في الجامعة، فقد عملت محاضرة عن أهمية مطالعة الكتب للاستزادة العلمية واكتساب التجارب من الاخرين، فسألت الطلبة عن عدد الكتب التي اطلعوا عليها خلال العام المنصرم، فلم يجبني سوى عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة وما قرأه كل واحد من الذين رفعوا أيديهم لا يتجاوز كتابا واحدا خلال سنة كاملة، وبينما كنت اتحدث قفز احد الطلاب وقال أستاذ: الكتب لا تفيد نحن جئنا الى الجامعة من اجل التقاط الصور وبناء العلاقات واستعراض الاناقة.

انهم يهتمون بالملابس والاناقة والموضة اكثر من اهتمامهم بالتعلم، والشاب الذي لا يسير بركبهم "معقد" و"سجاج" ولا يريد الاستمتاع بحياة الشباب، اليست هذه هي الجملة المشهورة؟

قد أكون قاسيا مع الشباب، لكن من يريد الاناقة وتبديل ملابسه يوميا، وركوب افضل السيارات واقتناء افضل الهواتف الذكية عليه ان يعمل في اختصاصه ويطور مهاراته، ولا سيما المهارات التقنية، يثقف نفسه عبر المطالعة اليومية او الأسبوعية، يتعمق في واقعه الاجتماعي والسياسي، أو على اقل تقدير يتعمق في اختصاصه.

لكن اذا كنا نعيش في دولة مثل العراق، على الشاب وبشكل الزامي الاطلاع على المبادئ العامة لمسيرة مجتمعه السياسية، ولهذا تكون مسؤولية الشباب مضاعفة على المسؤولية الملقات على الشباب في الدول المستقرة، لان وظيفتهم هنا اصلاح ما افسده غيرهم، او الوقوف على التل ومشاهدة عملية السقوط الحر للدولة والمجتمع.

جرت ست عمليات اقتراع ديمقراطي في العراق، لكن غالبية الشباب الجامعي (الطالب والخريج) لا يعرف حتى هذه اللحظة التي اكتب فيها المقال طريقة اجراء الانتخابات وكيف تم تشريع قانون لانتخابات وما هي الثغرات فيه، بل ان الغالبية من الشباب الجامعي لم يقرؤوا حتى اللحظة قانون الانتخابات الذي خرجوا بتظاهرات حاشدة من اجل المطالبة به.

نعي جيدا ان مهمة الطالب هي التعلم في الاختصاص، لكن في المجتمعات المتأزمة، يجب على كل طالب تثقيف نفسه في المجال السياسي حتى لا تسيطر الجهات غير الكفوءة على مقاليد الحكم، كما ان ثقافته الواسعة ستمنع أي محاولة لاستغفال المجتمع بقوانين وإجراءات تقييد من حريته وتسهم في حماية الفاسدين والمستبدين.

الثقافة السياسية واجبة على كل شاب يريد ان يرى بلده مستقرا منعما بالخير يشبه البلدان الغربية، (وهذا لا يعني انني مؤيد للتغريب، لكنني اتحدث عن لسان حال الشباب)، ونظرتهم عن مثالية الشاب الأوروبي.

ولان السياسة تتدخل في كل شيء في العراق، فالثقافة السياسية للشاب العراقي تعطيه اناقة في مجالسه وحواراته، وربما يتحول الى احد المؤثرين بين اقرانه او حتى دائرته الاجتماعية الاوسع.

اضف تعليق