q
بات نظام أردوغان واستمراره رهينة حالة تشاد ما بين رافعة روسية لها تمددات جيوسياسية واقتصادية، تشد به إلى أعلى، وأخرى تشد به إلى أسفل قوامها داخلي أمريكي، وهكذا تكونإس400 من حديث النهايات للبدايات. في هذا الوضع وقياساً بالضغوط الأمريكية المستمرة لن يكون نظام أردوغان مرتاحاً...

من المتوقع أن تدخل العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، وهما الحليفان في حلف شمال الأطلسي "الناتو" منعطفاً جديداً من التوتر والتصعيد بعد قرار وزارة الخزانة الأمريكية، فرض عقوبات على إدارة الصناعات الدفاعية التركية، لحيازة أنقرة منظومة الدفاع الجوي الروسية من طراز "إس 400 الدفاعية" وفق ما أعلن وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو الاثنين 14 كانون الأول/ديسمبر 2020.

وقال بومبيو في بيان إن "الإجراءات التي اتخذت اليوم تبعث برسالة واضحة مفادها أن الولايات المتحدة ستطبّق (القانون الأمريكي) بشكل كامل ولن تتساهل حيال أي صفقات كبيرة تتم مع قطاعي الدفاع والاستخبارات الروسيين". وأضاف بومبيو أن "الولايات المتحدة أوضحت لتركيا على أعلى المستويات في مناسبات عديدة، أن شراءها لمنظومة "إس 400 الدفاعية" سيشكّل خطراً على أمن التكنولوجيا العسكرية الأمريكية والعاملين فيها وسيوفر تمويلاً كبيراً لقطاع الدفاع الروسي، ولوصول الروس إلى القوات المسلحة التركية وقطاعها الدفاعي". وجدير بالذكر، أنّ العقوبات ضد تركيا سيتم فرضها وفق قانون معاقبة الدول المتعاونة مع خصوم الولايات المتحدة الأمريكية المعروفة بـ"كاتسا CAATSA"، والذي جرى تمريره في تموز/يوليو 2017، ووقعه الرئيس دونالد ترامب، ليدخل حيز التنفيذ في 2018.

وللإشارة، فقد عملت مؤسسات الولايات المتحدة الأمريكية بكل طاقاتها الأمنية والسياسية في السر والعلن لثني تركيا عن شراء منظومة "إس 400 الدفاعية" من روسيا، مستخدمة أحياناً الورقة الاقتصادية بوجه أنقرة، وسبق للإدارة الأمريكية أن اتخذت في الآونة الأخيرة مجموعة من الخطوات لتضييق الخناق على أنقرة لإلغاء الصفقة، من بينها مشروع القانون الذي قدمه في 29 آذار الماضي أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، بهدف منع بيع مقاتلات F-35 من إنتاج شركة لوكهيد مارتن، إلى تركيا رداً على الصفقة الروسية.

وانصرفت خطوة أخرى إلى فرض عقوبات اقتصادية غير مباشرة، وذلك برفع تركيا من نظام الأفضليات التجارية، وتضمن القرار وقف امتيازات تجارية بقيمة 1.7 مليار دولار في إطار نظام "الأفضليات" التجاري، الذي يسمح بإعفاء تركيا من الرسوم الجمركية فيما يتعلق بنحو ألفي منتج من المنتجات الصناعية، والمنسوجات الواردة إلى الولايات المتحدة... لكن يبدو أن تركيا ضربت بعرض الحائط بإجراءات واشنطن لإتمام شراء المنظومة الروسية.

بدا واضحاً، أنّ الهواجس الأمنية لدى واشنطن تزايدت عقب إعلان الصفقة، ويبرر ذلك حسرة ترامب وهو يتحدث في تصريحات تليفزيونية سابقة ـ نقلتها شبكة سي إن إن ـ بقوله "لأنهم يملكون منظومة صواريخ صنعت في روسيا، فهم محرومون من شراء أكثر من 100 طائرة، أود أن أقول إن شركة Lookheed ليست سعيدة، فهذا يعني خسارة الكثير من الوظائف، وبكل صدق، لطالما كانت علاقتنا جيدة جدا"، وأضاف: "ما نقوله لتركيا الآن هو: لأنكم أجبرتم على شراء منظومة صواريخ أخرى، لن نبيعكم مقاتلات F-35، وتابع قائلا: "إنه وضع صعب بالنسبة لهم وقد وُضعنا في وضع صعب..."

وبعيدا عن الحسابات الجيوسياسية ومحاولات أنقرة إثبات قدراتها الاستراتيجية في المنطقة، فإن قراءة المشهد يمكن منها استنباط وازع الخوف الأمريكي، وثمة قلق أمريكي من أن يتم توظيف المنظومة الدفاعية الروسية، بحسب مسؤولين أمريكيين، في كشف أسرار تكنولوجيا الأسلحة الأمريكية الموجودة في نطاق دول حلف الناتو، ويضاف إلى ذلك طبعاً القلق الأمريكي المتزايد من تغلغل موسكو في منطقة الشرق الأوسط. وفنياً تعتبر واشنطن منظومة الـ "إس400" تهديداً غير مقبول لمقاتلاتها الاستراتيجية المعروفة F-35، فهذه المقاتلات صُممت للعمل بشكل متوافق مع الأنظمة العسكرية لحلف الناتو، بما في ذلك الدفاعات المضادة للصواريخ، وهذا ما يثير مخاوف إدارة ترامب من أن روسيا قد تضبط قدرات منظومتها ضد التحالف الغربي من خلال المعلومات التي تحصل عليها في تركيا.

ويزداد الرفض الأمريكي لمنظومة "إس400" في ظل اتساع نطاق الخلافات بين موسكو وواشنطن، على خلفية اتهام الأخيرة لموسكو بخرق اتفاقية الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية "ستارت3"، و"اتفاقية الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى" ناهيك عن التباين في التعامل مع بعض الملفات الأخرى، في الصدارة منها الخلاف بشأن إدارة الأزمة في سورية ناهيك عن قلق واشنطن مما تعده انتهاكاً روسياً لسيادة دول غربية، وتطبيق أساليب عدائية ضد الدول الأوروبية، وهو ما ينقل التوتر في العلاقات الثنائية الأمريكية - التركية إلى مستوى آخر أكثر تعقيداً يتعلق بالسياسات الدفاعية المتعارضة للأطراف المختلفة.

والأرجح أن هذه المزايا عالية التقنية لمنظومة"إس400" بالإضافة إلى المخاوف الأميركية من تمدد النفوذ الروسي في دول الناتو، يقف وراء عقوبات ترامب على تركيا، ومن المتوقع أن تشهد العلاقات التركية الأمريكية تأزماً كبيراً، ليس فقط فيما يخص عدم تسليم طائرات مقاتلات F-35إلى تركيا، ولكن أيضاً في العديد من مجالات الدفاع الأخرى، وقد يمتد التأزم ليطال العلاقات السياسية والاقتصادية كذلك.

وثمة من يتساءل ما هي تبعات العقوبات الأمريكية؟

تبعات الحدث وفق المعطيات الأولية التي تبدت عبر قرار واشنطن باستبعاد أنقرة عن مشروع تطوير المقاتلة الأميركية الأهم F-35 قد يدفع بانزلاقة تركية جديدة نحو موسكو لاستبدال هذه الأخيرة بالمقاتلة "سوخوي57"، وتلك حالة لو حدثت لن تكون بأقل أهمية من الخطوة السابقة سواء أكان في رمزيتها أم في النتائج التي ستترتب عليها. ربما كانت نظرة أردوغان أحادية أو هي تقتصر على لحظ المكاسب المتأتية جراء السير قدماً في صفقة "إس400" إلى نهايتها، ويبدو جليا أنّ أردوغان، قد أخطأ الحسابات في ردود الأفعال الأمريكية على إتمام صفقة "إس400" مما يمكن لحظه في تصريحه الذي أطلقه غداة لقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب على هامش قمة العشرين في أوساكا أواخر حزيران 2019، وفيه أكد أن لا مؤشرات على إمكان فرض واشنطن لعقوبات جديدة على بلاده على خلفية إتمام صفقة الصواريخ الروسية، فواشنطن لم تتأخر في فرض العقوبات، والراجح هو أن هذا كله لن يكون إلا أول الغيث على حين القادم سيأتي على هيئة تهاطل يتسارع تبعاً لحالة الاحتياج التي تفرضها ظروف عدة، إذ لطالما كانت ردود الأفعال على هكذا نوع من الأفعال تسكن بعيداً عن السلطة القابعة في البيت الأبيض.

رغم كل ما ذكر في السابق يمكن التساؤل: هل يوجد كمين تركي-أطلسي لروسيا؟ لا يمكن استبعاد أي شيء في خضم الصراع الدائر بين الطرفين وأن تكون هناك حرب من نوع آخر لقرصنة الأسرار العسكرية الروسية وهذا وارد، وبخاصة أنه يوجد تاريخ أمريكي طويل يذكر بمحاولات واشنطن الحصول على مقاتلات "ميغ" الروسية وتفكيكها وكشف أسرارها، إذ أن امتلاك تركيا للمنظومة قد ينقل أسرارها لأمريكا، لكن بالمقابل فإن روسيا من المؤكد أنها احتاطت للأمر وهي تعلم أن حصول أمريكا على أسرار بعض الأسلحة الروسية لم يغير بالمعادلات التقنية العسكرية شيئاً. لهذا فإننا نرى أنّ الاعتراض الأمريكي على ضم تركيا لمنظومة "إس 400" الروسية لقواتها قد يكون جزء منه حقيقياً وقد يكون نوعاً جديداً من الألاعيب الأطلسية لقرصنة المنظومة الروسية، وبخاصة أن أنقرة لا تزال تحلم بالانضمام للاتحاد الأوروبي واقتصادها مرتبط بالغرب والأهم أن عقيدة الجيش التركي وأسلحته أطلسية.

خلاصة الكلام: بات نظام أردوغان واستمراره رهينة حالة تشاد ما بين رافعة روسية لها تمددات جيوسياسية واقتصادية، تشد به إلى أعلى، وأخرى تشد به إلى أسفل قوامها داخلي أمريكي، وهكذا تكون"إس400" من حديث النهايات للبدايات... في هذا الوضع وقياساً بالضغوط الأمريكية المستمرة لن يكون نظام أردوغان مرتاحاً وعليه البحث عن مخارج وحلول للورطة التي دخلها بسبب منظومة الدفاع الجوي الروسية من طراز "إس 400 الدفاعية"، وسيكون مطالباً بالانخراط أكثر في التحالف مع روسيا وشرقاً باتجاه الصين على حساب العلاقات الأمريكية التركية، وثمة من يرى أن على أردوغان أن يسعى لاحتواء الأزمة مع الأمريكيين... وبالتالي توفير مسعى لتقديم ضمانات تركية لاحتواء المخاوف الأمريكية من تسرب المعلومات الفنية الخاصة بأسرار تكنولوجيا الأسلحة الأمريكية الموجودة في نطاق دول حلف الناتو، وهو أمر وإن كان مرفوضا من جانب واشنطن، إلا أنه يكشف عن سعي أنقرة لتهدئة التوتر مع واشنطن، وتجنب عقوبات جديدة ستكون أكثر إيلاماً على أعصاب تركيا. والأهم كيف سترتسم التحالفات المستقبلية وتتشكّل الأقطاب بعد حصول تركيا على منظومة الدفاع الجوي الروسية "إس 400 الدفاعية"؟ وهل تفرّق المنظومات ما جمعته السنون؟

* كاتب صحفي من المغرب

اضف تعليق