q
بينما بدأت نيران مستشفى ابن الخطيب المخصص لمعالجة مرضى كورونا تهدأ وانتشرت رائحة الجثث المتفحمة لـ82 مريضاً في ردهات الإنعاش الرئوي بالطابق الأوسط في المستشفى هدد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بمحاسبة أي تهاون من قبل الموظفين والمسؤولين على حد سواء...

بينما بدأت نيران مستشفى ابن الخطيب المخصص لمعالجة مرضى كورونا تهدأ وانتشرت رائحة الجثث المتفحمة لـ82 مريضاً في ردهات الإنعاش الرئوي بالطابق الأوسط في المستشفى هدد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بمحاسبة أي تهاون من قبل الموظفين والمسؤولين على حد سواء.

يقول الكاظمي: اليوم نتيجة التهاون سقط شهداء أبرياء، غداً إذا تقاعسنا سيسقط آخرون.. يجب أن لا يقول لي أحد تماس كهربائي .. هذا أمر معيب، أفحصوا كل سلك في كل دائرة عامة أو مستشفى، وأي دائرة تتحجج بالتماس الكهربائي ساحاسب الجميع فيها.

هل كلام الكاظمي يعني أن مؤسسات الدولة لا تخضع للفحص؟ ومن هو المسؤول عن الفحص الدوري؟ وإذا ما فشل المسؤولون على الفحص فمن يحاسبهم؟ وإذا ما فشل المحاسبون فمن يحاسب الجميع؟

مهما كانت أجهزة الدولة قوية فإنها عاجزة عن إدارة جميع مفاصلها المهمة، ستبقى هناك ثغرات أمنية وإدارية وتقنية لا يكشفها إلا أناس لهم حس فضولي، يضعون أنفهم في كل مشكلة، وظيفتهم الأساسية الكشف عن الأخطاء وإعلانها إلى عامة الناس دون خوف من مسؤول أو جهة متنفذة.

هؤلاء الناس يعملون ليلاً نهاراً لتتبع مسارات العمل الحكومي والأهلي وفي كل قطاعات المجتمع، يتعرفون على قواعد العمل الصحيح، ثم يقارنون بين ما موجود على الورق من واجبات وما تم تنفيذه في العقود والأعمال الموكلة إلى أصحابها، عملهم متعب ولا يطيقه أي أحد، مهنتم تسمى مهنة المتاعب، إنهم الصحافيون الذين يراقبون ويدققون وينتشرون، ويفضحون كل مفسدة اجتماعية أو سياسية أو إدارية.

رجال ونساء المتاعب كشفوا قبل أيام من حريق مستشفى ابن الخطيب عن حريق الغاز المصاحب الذي تقوم به الحكومة العراقية رسمياً وأمام أعين الجميع وعلى بعد بضع مئات من الأمتار من قصر رئيس الجمهورية حيث يتصاعد الدخان من مصفى الدورة.

نزيف الغاز المصاحب

قد يكون القطاع النفطي هو الأكثر قابية للإشتعال، وهو ما يتطلب الكثير من أجهزة استشعار الحرائق، وأجهزة استشعار الفساد أيضا، وقد وضعت صحيفة اندبندنت البريطانية مستشعراتها قرب حقول النفط والمصافي المنتشرة في العراق وخرجت بتقرير لها نشرته يوم 16 نيسان أبريل 2021 أي قبل سبعة أيام من حريق المستشفى، حمل التقرير عنوان "الغيوم المسمومة التي تخنق أبناء العراق"، تنقل الصحيفة عن خبراء قولهم إن ممارسة الحرق المثيرة للجدل - حرق الغاز الزائد المنتج أثناء استخراج النفط - هي مساهم رئيسي في أزمة المناخ، ولكنها أيضًا تشكل تهديدًا مميتًا لأولئك الذين يعيشون في الجوار، تم ربط الملوثات المنبعثة بالربو وأمراض الرئة والجلد والسرطان.

التقرير قال إن العراق من أكثر البلدان في العالم التي ترتكب عمليات حرق الغاز المصاحب بحرقه ما يزيد قليلاً عن 17 مليار متر مكعب من الغاز سنويًا، ووفقًا لأحدث بيانات البنك الدولي يأتي العراق في المرتبة الثانية بعد روسيا باعتبارها الدولة التي تشعل معظم الغاز على كوكب الأرض.

ووصف وكيل وزير البيئة والصحة جاسم عبد العزيز حمادي تلوث الهواء "كواحدة من أكبر الأزمات التي يواجهها العراق، حتى أن دراسة العبء العالمي للأمراض، وهي أكبر مسح للصحة العامة في العالم، وجدت أن عدد الأشخاص الذين لقوا حتفهم بسبب تلوث الهواء يفوق عدد الوفيات منذ الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق عام 2003".

علي الصفار من وكالة الطاقة الدولية قال إن "هناك دراسات أكاديمية تشير إلى أن متوسط درجة حرارة العراق يرتفع بمقدار ضعفين إلى سبعة أضعاف المتوسط العالمي، هذه القضية ليست نظرية فارتفاع درجات الحرارة سيؤدي إلى زيادة الجفاف وندرة المياه وقدر كبير من البؤس، لذا فإن العراق بحاجة إلى أن يكون على دراية بالتهديد الذي قد يواجهه وأن ثرواته الغازية بحاجة إلى الاستخدام الأفضل".

أما ويم زويغننبرغ، الباحث في منظمة السلام الهولندية (PAX) والمساهم في موقع الصحافة الاستقصائية "بيلنغكات"، فيقول إن البصرة (جنوبي العراق) وحدها تحرق غازا أكثر من السعودية والصين والهند وكندا، لأنها موطن حقل الرميلة النفطي -ثالث أكبر حقل نفط في العالم- محذراً من أن البصرة ستكون غير صالحة للعيش في السنوات العشر المقبلة.

ولفت تقرير صحيفة اندبندنت إلى أن المفارقة القاسية تكمن في أن الكثير من الناس يعانون من احتراق الغاز المصاحب لاستخراج النفط، بينما يعاني العراق من انقطاعات كبيرة للتيار الكهربائي، ويستورد الغاز من الخارج لتشغيل محطاته الكهربائية.

محارق الفساد

لا يمكن للغاز المصاحب أن يتم التفريط به بهذه الطريقة، ويتحول من مادة مفيدة إلى مادة تنشر الأمراض لولا وجود الإدارة غير المهنية وانتشار الفساد في مفاصل الدولة، ومن أهمها طبعاً تلك التي تحتوي على المال الوفير، إنها وزارة النفط وحقولها التي تسيطر على أكثر من 90% من خزينة الدولة العراقية.

فبينما كشفت اندبندنت عن محارق الغاز كان موقعا "فيرفاكس ميديا" و"هافنتغون بوست"، قد كشفا عن فضائح الفساد بعد وضعهما أجهزة استشعار الحرائق في وزارة النفط وكشفا عن عمليات هدر للمال العام، مفادها قيام مسؤولين في شركة اونا اويل بدفع رشاوى بملايين الدولارات لمسؤولين عراقيين لتسهيل عقود نفطية بأسعار تفاضلية.

هذا الإنذار الصحفي دفع رئيس الوزراء في حينها حيدر العبادي إلى توجيه هيأة النزاهة العراقية لفتح تحقيقات مفصلة وفيما بعد استصدرت الهيأة في نيسان 2016 أمراً من القضاء لتفتيش مقر شركة اونا اويل المذكورة في قضية العقود النفطية، ولم تنتهي القضية حتى الآن، إلا أن الصحافة أدت دورها وكشفت حريق الفساد، وتلطخ أيدي نائب رئيس الوزراء السابق حسين الشهرستاني بالنفط العراقي.

تحذيرات مستقبلية

نعود الى بداية المقال، فقد علق الكاظمي على حريق مستشفى ابن الخطيب بقوله: اليوم نتيجة التهاون سقط شهداء أبرياء، غداً إذا تقاعسنا سيسقط آخرون.

هل يعرف الكاظمي بحرائق الغاز؟ هل يعرف الكاظمي بعمليات سرقة النفط بعقود يشوبها الفساد؟ هل يعلم بعمليات التهريب؟

نعم يعرف جيداً، وكل زعماء الكتل السياسية، والمسؤولين من أعلى المستويات إلى أدناها، وبسبب الحديث الدائم عن هذه الملفات بات العراق يشبه ردهة العناية المركزة التي لا تسكت فيها أجراس التنبيه، والفارق بين الحالتين أن لا أحد يستجيب للأجراس المحذرة من مخاطر الفساد التدميرية على البلد.

كل هذا يحرق جسد الدولة العراقية وأمام أنظار كل المسؤولين وليس الكاظمي وحده، ولا نعتقد أنهم سيحركون ساكانا، كل ما يعلنونه هي خطابات فارغة لا أمل بتحولها ألى واقع يحاسبون به المقصرين، لان الحساب يبدأ بهم أولاً، هم أول من قصر تجاه الدولة والشعب.

وإذا كانت الصحافة قد أخذت جزءاً من دورها للكشف عن الأخطاء، فالحكومة اليوم لا تخاف من الصحفيين لسبب بسيط، لأن قوة الصحافة تكمن في الرأي العام الذي يقرأ ما تكتبه الصحافة ثم يحول الأفكار والمعلومات الصحفية إلى سلوك سياسي رافض للأخطاء ومطالب بالتصحيح.

لكن الشعب هو المقصر، هو لا يقرأ التقارير الصحفية التي تتحدث عن مخاطر الفساد وحرائق الغاز وغيرها مئات القضايا، ومن ثم فهو لا يعلم ما يجري حوله، الشعب العراقي هو أول من يشن الحرب ضد الصحافة الملتزمة بمقاطقته لها منذ سنوات وحتى الآن، يشجعون صحافة الإثارة والإضحاك، فتجد المقالب والضحك غير المجدي هو الشائع والعمل الصحفي والإعلامي الجدي بدون قراءة أو مشاهدة.

على الشعب العراقي دعم الصحافة الملتزمة لأنها لا تستطيع مواجهة الفساد بدون هذا الدعم، لكي نستفيد من التحذيرات التي يطلقها الصحفيون ونقلل من مخاطر الحرائق المشتعلة في كل مكان من هذا البلد.

اضف تعليق