q
دأبت الولايات المتحدة، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى وضع قواعد لنظام دولي جديد، يمكنه توجيه بوصلة العلاقات الدولية نحو التوازن، تحاشيا لتكرار كوارث الحربين الأولى والثانية، لكن ذلك الدأب الأمريكي أظهر ميولا لفرض هذه القواعد أولا، وتم وضعها بما يكفل المصالح القومية للولايات المتحدة...

دأبت الولايات المتحدة، مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى وضع قواعد لنظام دولي جديد، يمكنه توجيه بوصلة العلاقات الدولية نحو التوازن، تحاشيا لتكرار كوارث الحربين الأولى والثانية، لكن ذلك الدأب الأمريكي أظهر ميولا لفرض هذه القواعد أولا، وتم وضعها بما يكفل المصالح القومية للولايات المتحدة، في هذا الملَّخص يسعى كتاب سياسيون ومحلّلون كشف ماهية تلك القواعد وبيان الأهداف الأمريكية في سعيها لبلورة نظام دولي جديد.

وكما هو الحال في أي خيار متعلّق بالسياسة الخارجية، يجب أن تحرّك سياسات الولايات المتحدة تجاه النظام إستراتيجيتها الكبرى، أي مجموعة الأهداف القومية والمنطق حول كيفية تحقيقها. بعبارات أشمل، لقد حرّكت الإستراتيجية الأمريكية الكبرى في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية رغبة ضمان أمن الولايات المتحدة وحلفائها وازدهارها. وكما تمّت المناقشة في وثيقة سابقة، نظرت الولايات المتحدة تاريخيا إلى النظام الدولي كوسيلة لخدمة الأهداف القومية لها، وكما في الماضي، تشمل النقاشات حول الإستراتيجية الكبرى اليوم خلافات في وجهات النظر حول الأولوية التي يجب أن تعطيها الولايات المتحدة لمختلف الأهداف التي تسعة وراءها نظرا للقيوم المالية والإستراتيجية والسياسية القومية التي ستواجهها خلال العقود المقبلة. غير أن الأوجه الأكثر تباينا للنقاش تحيط بسبل تحقيق هذه الأهداف.

يتم تعريف النظام الدولي بالقواعد التي تحكم سلوك الدولة. لذلك تختلف الرؤى البديلة للنظام في خصائص هذه القواعد. قضى منهجنا في تحديد رؤى بديلة للنظام جمع حجج قائمة حول كيف تكون قواعد النظام المستقبلية أو يجب عليها أن تكون. ولقد استقينا من الدراسات الأكاديمية وتلك المتعلقة بالسياسات الموجودة حول النظام الدولي، إلى جانب التحليل التاريخي للأنظمة الدولية السابقة. غير أننا لم نحدّ أنفسنا بهذه الدراسات.

وكشف تحليلنا للدراسات أن النقاشات حول قواعد النظام تتمحور حول سؤالين: من يجب أن يضع القواعد؟... وإلى أي مدى تُعدّ هذه القواعد ملزمة بالنسبة للذين يضعونها؟.

لقد قمنا بالاستخلاص من الدراسات الموجودة لتكوين منطق وافتراضات وراء أربع رؤى بديلة للنظام تختلف في أجوبتها على هذين السؤالين.

في النهاية، تعتمد الأجوبة على الافتراضات حول كل من سياسات القوى العظمى ودور المؤسسات في إدارة العلاقات بين الدول. ويقدم الجزء التالي نقاشا أكثر حول أهداف النظام التي تساعد على تفسير المقاييس التي يمكن على أساسها الحكم على الرؤى المستقبلية.

وغالبا ما أشار صنّاع السياسة الأمريكيون إلى طموحاتهم ببناء نظام دولي يرتكز على القواعد تتمتع فيه كل الدول بالتأثير على القواعد ومن المتوقع منها أن تتبعها كل الوقت. غير أنه على أرض الواقع، تمتعت الولايات المتحدة وحلفاؤها الديمقراطيون بتأثير على تحديد القواعد أكثر من الدول الأخرى. وبالإضافة إلى ذلك، توقعت الولايات المتحدة بشكل عام من معظم الدول أن تتبع القواعد في أغلب الأحيان، فرضه في معظم الأوقات هذه القواعد من خلال القوة الأمريكية. غير أن الولايات المتحدة قد وجدت نفسها تتمتع بوضع خاص داخل النظام محتفظة بحق انتهاك القواعد عندما ارتأت أنه من الضروري التصرّف بشكل حاسم للدفاع عن النظام أو مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.

من المفترض أن يتضح كل من الأنظمة البديلة التي يتم وصفها هنا على مر الوقت (على الرغم من أن كلا منها هو نوع نظام مثالي ولا نفترض أن أيا من هذه النماذج قد يتجسد على أرض الواقع كما هو موصوف بالتحديد). وخلال الفترة نفسها، قد يتبدل أيضا طابع الدول الرائدة أو العلاقات بينها أو وضع الاقتصاد الدولي أو العديد من المتغيرات الأخرى. فإن تولّت قيادة جديدة الحكم في روسيا وتوقفت عن التصرف بعدائية وسعت إلى علاقة وثيقة أكثر مع الغرب، قد تتغير أوجه عدة من كل بديل، مثل الإيجابيات والسلبيات وعناصر الجدوى. لم نستطع تفسير عشرات المتغيرات المتقاطعة والمتبادلة. لذلك، وبالرغم من أن هذه الأنظمة البديلة ليست أكيدة، نفترض أن معظم الأوجه الحالية للبيئة الدولية، مثل الطابع السياسي والمجموعة التفضيلية للصين وروسيا، تبقى ثابتة.

ما هي الأهداف الأمريكية للنظام الدولي؟

على مهندسي نظام مستقبلي، سواء كان نسخة عن المقاربة الحالية أو شيئا جديدا كليا، أن يكونوا صريحين بالنسبة إلى الأهداف التي يسعون إليها. يوحي تقييمنا لوثائق الاستراتيجية الأمريكية بعد الحرب أنّ صنّاع السياسات الأمريكيين قد أملوا بأن يحقق النظام الأهداف التالية:

1- الحؤول دون نشوب نزاع بين القوى الرئيسية وإدارة المنافسة.

شكّل السلام بين القوى العظمى هدفا رئيسا للإستراتيجية الأمريكية خلال عصرنا الحديث. ومع تحول العالم إلى عالم متعدد الأقطاب، ستشكل إدارة التوترات والمصالح المتضاربة بين القوى الرائدة تحديا أكبر. على النظام أن يؤمّن آلية إما لإدارة النزاعات بين القوى العظمى وإما لردع الاعتداء.

2- تعزيز الاستقرار والنمو الاقتصاديين.

صُمّمت مكونات النظام الجغرافية السياسية، لاسيما مؤسساته الاقتصادية، لتشجيع ازدهار الدول المشاركة من خلال تعزيز الاندماج التجاري وتحقيق استقرار الأسواق المالية. ويعتبر هدف الاستقرار الاقتصادي غاية بحد ذاتها لكنه أيضا طريقة لخدمة الهدف الأول من خلال تخفيف مصادر الصراع بين الدول.

3- تسهيل العمل الجماعي لمواجهة التحديات المشتركة.

اعتبرت الولايات المتحدة المؤسسات وسيلة لمساعدة الدول على حلّ التحديات المشتركة. لقد ساهم نظام ما بعد الحرب في تحفيز العمل بطرق متعددة تشمل تأمين مؤسسات تخفف من تكاليف معاملات التعاون، وتشجيع بروز شبكات عمل غير حكومية، وتأمين دعم معياري شامل للعمل الجماعي.

4- تعزيز القيم الليبرالية والديمقراطية.

بالرغم من أن التركيز الأمريكي على هدف النظام هذا قد تغيّر، أظهرت الولايات المتحدة بشكل ثابت انحرافا حيال تعزيز القيم الليبرالية سواء كغاية بحد ذاتها أو كطريقة لدعم أهداف أخرى مثل السلام والازدهار. وتشكل المعاهدات والمواثيق حول حقوق الإنسان والدعم للمؤسسات الديمقراطية والتدخل الإنساني أمثلة عن الطابع الليبرالي لنظام ما بعد الحرب.

الأرجح أن أي نظام مستقبلي تروّج له الولايات المتحدة سيسعى إلى تحقيق كل من هذه الأهداف الأربعة الأساسية. وتتمحور النقاشات بشأن الرؤى البديلة حول أولويتها النسبية، إلى جانب طرق تحقيقها. ويتمتع النقاش حول الطرق بمقاييس عدة، إلا أن السؤالين الأساسيين آنفي الذكر حول طبيعة القواعد، أي من سيضعها وإلى أي مدى يجب أن تكون ملزمة، يحرّكان العديد من الانقسامات حول أي نوع من الأنظمة على الولايات المتحدة اعتماده.

من يحدد القواعد؟

كما تم الحديث آنفا. إن القواعد هي مجموعة الاتفاقات والمبادئ والعمليات التي تحكم سلوك دولة ما. وتحدد مؤسسات رسمية العديد من هذه القواعد. وتضم الاتفاقات التي تُعقد من خلال الأمم المتحدة ومنظمات التجارة الدولية والبنك الدولي ومنظمات متخصصة في مجالات مثل العمل والاتصالات والاتحادات التجارية التي تضع المعايير في مجالات تكنولوجية أو مهنية معينة. كما قد تحدد القواعد من خلال معاهدات فردية تغطي أشكالا معينة من الأنشطة مثل اللوائح البيئية. وهناك قواعد أخرى غير رسمية تعكس اتفاقات أو قواعد سلوكية ضمنية تؤثر بالرغم من ذلك على طريقة تفاعل الدول مع بعضها البعض.

بعد الحرب العالمية الثانية، أنشأت الولايات المتحدة مؤسسات عكست مصالحها وقيمها الخاصة وتلك العائدة لحلفائها الأقرب، وقد قادت عملية إنشاء مؤسسات منحتها تأثيرا غير متكافئ من خلال آليات مثل حصص تصويت أكبر. وبالرغم من أن التأثير الأمريكي الرسمي وغير الرسمي على تحديد القواعد يختلف من مؤسسة إلى أخرى، يُجمع الكثيرون على أن الولايات المتحدة كانت الجهة المُحددة للقواعد المسيطرة في نظام ما بعد الحرب.

عند نهاية الحرب الباردة، انضم عدد أكبر من الدول إلى هذه المؤسسات، إلا أن القواعد الأساسية وعمليات صنع القرار بقيت على حالها بشكل كبير. ومع توسّع العضوية وتغيّر ميزان القوى، دعت بعض الدول إلى إصلاحات في الحوكمة لضمان عكس قواعد وقرارات المنظمة مصالح مجموعة أكبر من الدول. وينقسم صنّاع السياسات الأمريكيون حول كيفية الرد على هكذا دعوات لإصلاح الحوكمة. في مطلع العالم 2010 مثلا، دعمت إدارة باراك أوباما اقتراحات صندوق النقد الدولي لإصلاح الحوكمة والتي تمنح حصص تصويت اكبر للاقتصادات الناشئة. وبالرغم من أنها وافقت عليها في النهاية، إلا أن الكونغرس الأمريكي قد قاوم هكذا إصلاحات لسنوات لأنها عنت نهاية الفيتو الأمريكي على قرارات صندوق النقد الدولي. وفي مثل آخر، كان جزء من محفّز الولايات المتحدة للسعي إلى الشراكة العابرة للمحيط الهادئ الحفاظ على التأثير الأمريكي على قواعد التجارة الدولية.

وكما حاجج الرئيس السابق باراك أوباما بشكل مشهور، على الولايات المتحدة تحديد القواعد. على أمريكا اتخاذ القرارات. على الدول الأخرى إتّباع القواعد التي وضعتها أمريكا وشركاؤنا، وليس العكس.

وكما تُظهر الأمثلة، إن أحد أهم الأسئلة بشأن النظام هو: من يحدد القواعد؟ بعبارة أخرى، مصالح من على القواعد أن تعكس؟ قد تعكس القواعد أولا مصالح الولايات المتحدة وحلفائها أو قد تعكس مصالح مجموعة أوسع من البلدان، بما في ذلك قوى عظمى أخرى. وعمّا إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع أو عليها الاستمرار في الدفاع عن موقع تفضيل في النظام الحالي أو منح تأثير أكبر لدول أخرى فالأمر وقف جزئيا على افتراضات صنّاع السياسات حول سياسات القوى العظمى. وتقع هذه الافتراضات في فئتين: تركّز الأولى على توزيع السلطة المستقبلي، فيما تتمحور الثانية حول مصادر الصراعات والسلام بين القوى العظمى.

.........................................................................................................................................................
*هذا المقال ملخَّص مقتبس من كتاب خيارات بديلة للسياسة الأمريكية نحو النظام الدولي، تأليف مايكل جاي مازار/ ميرندا بريب/ أندرو رادين/ أستريد ستوث سيفالوس.

اضف تعليق