q
ان احترام التعدديات المذهبية والاجتماعية والفكرية والسياسية، هي من اسس الاستقرار الاجتماعي والسياسي. صحيح انه ليس مطلوباً أن تتطابق وجهات النظر في كل شيء.. ولكن من المهم أن يتم الاحترام العميق لأسس العيش المشترك، بحيث يمتنع كل طرف من الاساءة الى الطرف الآخر...

نشرت الصحف المحلية والعربية قبل أيام خبراً صغيراً مفاده: انه تم اعتقال عالم الدين الإيراني يعسوب الدين رستكاري جويباري في مدينة قم الايرانية، لأنه اهان مصادر التشريع وآثار شكوكاً جدية في أسس المعتقدات لدى اخواننا اهل السنة على حد تعبير نص الخبر.

ولكن وللاسف الشديد، لم يأخذ هذا الخبر بمضمونه وآفاقه، حيزاً مهماً من التفكير والنقاش والحوار.. حيث ان احترام التعدديات المذهبية والاجتماعية والفكرية والسياسية، هي من اسس الاستقرار الاجتماعي والسياسي. صحيح انه ليس مطلوباً أن تتطابق وجهات النظر في كل شيء.. ولكن من المهم أن يتم الاحترام العميق لأسس العيش المشترك، بحيث يمتنع كل طرف من الاساءة الى الطرف الآخر.

ولاشك ان ظاهرة التنوع الاجتماعي والتعدد المذهبي والفكري والسياسي، تثير العديد من الأسئلة والتحديات، ولابد من بلورة اجابات حقيقية وواقعية لهذه الأسئلة والتحديات. فليس صحيحاً ان نهرب من اسئلة التنوع وتحديات التعدد برفضهما والركون الى الفكر الأحادي والرؤية الأحادية.

لذلك فإننا ينبغي ان نتعامل مع هذه الظاهرة الانسانية باعتبارها من الظواهر التي تثير الكثير من الاسئلة، وتطلق جملة من التحديات، وواجبنا الفكري والاخلاقي يقتضي احترام هذا التنوع والتعدد، والبحث عن اجابات عن الاسئلة والتحديات التي تطلقها هذه الظاهرة الانسانية الثابتة.

فإقامة الجدار العازل بيننا وبين حقيقة التعدد المذهبي والفكري والسياسي، يمنعنا من الاستفادة من بركات هذه الحقيقة الانسانية، ويحول دون بلورة اجابات دقيقة وعميقة لجملة التحديات التي تطلقها هذه الحقيقة.

لذلك كله فإننا باستمرار بحاجة الى مبادرات فكرية وخطوات قانونية وسياسية وجهد ثقافي متواصل، لتأصيل هذه الحقيقة في فكرنا وواقعنا الاجتماعي اولاً، ومن ثم العمل على بلورة حلول عملية وممكنة لكل التحديات التي تبرز في واقعنا من جراء التزامنا بخيار الاعتراف الكامل بحقوق كل التعدديات التقليدية والحديثة في ممارسة دورها ووظيفتها في الحياة الوطنية العامة.

واننا بحاجة الى مواطنة مبنية على انتماء متكافئ بين متطلبات الخصوصيات وضرورات العيش والانتماء الوطني المشترك. فالتنوع بكل مستوياته، ينبغي ان لا يقود الى الانقسام والتشظي، بل ووفق الرؤية القرآنية ينبغي ان يقود الى التعارف والوحدة..اذ يقول تبارك وتعالى {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير}..(الحجرات، الآية 13(.

والتعارف في الآية القرآنية الكريمة، يختزن كل أبعاد وشروط التواصل الحقيقي بين مختلف التنوعات الانسانية. كما أن هذه المقولة (التعارف) تشمل جميع الشرائح والفئات الاجتماعية. فالنظرة القرآنية تؤكد ان الاختلاف ينبغي ان يقود الى التعارف والاحترام لا الى الخصومة والتباغض.

فالتنوع وسيلة من وسائل التعارف باعتبار حاجة كل فريق من هذه الدائرة الى ما يملكه الفريق الآخر في الدائرة الاخرى، من خصوصياته الفكرية والعملية ليتكاملوا في الصيغة الانسانية المتنوعة ليكون التعارف غاية للتنوع، بدلاً من التحاقد والتناحر والتنازع.

ويبقى التعارف غاية انسانية من اجل اغناء التجربة الحية المنفتحة على المعرفة المتنوعة، والتجربة المختلفة للوصول الى النتائج الايجابية في مستوى التكامل الانساني.

وإن الغاء الخصوصية لا يمثل نهجاً واقعياً في التعاطي مع الواقع الاجتماعي والثقافي، لأن الالغاء من قبل أي طرف لا يغير شيئاً من المسألة في طبيعتها الذاتية، او من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار انها تمثل بعداً في عمق الذات، لا مجرد حالة طارئة، على الهامش مما يجعل من مسألة الالغاء مشكلة غير قابلة للحل، بل ربما تضيف الى المشكلة مشكلة اخرى على صعيد الحالة النفسية والعملية.

وعلى ضوء ذلك فإن الدين الاسلامي يشجع على تحرك الخصوصية في دائرتها الداخلية في الجانب الايجابي الذي يدفع الانسان للتفاعل عاطفياً وعملياً مع الذين يشاركونه هذه الخصوصية في القضايا المشتركة.. ولكن بشرط ألا تتحول الى عقدة عصبية ذات بعد عدواني تجاه الآخرين. لذلك فإن العصبية التي يأثم عليها صاحبها ان يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين. وليس من العصبية ان يحب الرجل قومه ولكن ان يعين قومه على الظلم.. فإلغاء خصوصيات الانسان الذاتية والدينية والمذهبية، لا يعد نهجاً صحيحاً وواقعياً، لانه لا يزيد الانسان إلا تمسكاً وتشبثاً بهذه الخصوصيات، وذلك لأنها ليست حالة طارئة وهامشية، وانما من صميم الذات الانسانية.

لذلك نجد انه على المستوى التاريخي لم يكن التعدد الفقهي والمذهبي في التجربة التاريخية الاسلامية مظهراً من مظاهر الانقسام والتشظي في الدائرة الاسلامية، بل دليل حيوية عقلية وفكرية ومناخ اجتماعي حر ومنفتح أدى الى تطوير عملية الاجتهاد ونشوء الاتجاهات الفكرية والسياسية في الدائرة الاسلامية.

لذلك فإن احترام هذا التعدد والتنوع، يعني فيما يعني حماية لانه نتاج الحوار والبحث المضني والمتواصل عن الحقيقة. وحينما نقول بضرورة حماية التعدد في الدائرة الوطنية، فإننا نقصد حماية تلك القيم والمبادئ التي انتجت ثراءً فقهياً وفكرياً وعلمياً في التجربة التاريخية الاسلامية. فلا يمكن ان نفصل ظاهرة تعدد المدارس الاجتهادية والفقهية في تجربتنا التاريخية عن قيم الحوار والاعتراف بالآخر وجوداً ورأياً، وتوفر المناخ الاجتماعي المواتي للاجتهاد بعيداً عن ضغوطات السياسة او مسبقات التاريخ.

وان دعوتنا الراهنة الى حماية هذا المنجز التاريخي، يستدعي احياء هذه القيم والمبادئ واطلاقها على مستوى حياتنا كلها، حتى نتمكن من انجاز فرادتنا التاريخية والحضارية.

وهذا بطبيعة الحال، يقتضي انفتاح المدارس الاسلامية على بعضها في مختلف المستويات، وازالة كل الحواجز والعوامل التي تحول دون التواصل الفعال بين مختلف المدارس الفقهية والمذهبية.

لهذا كله نحن بحاجة اليوم، الى اعادة بناء وصوغ العلاقة بين اتباع المدارس والمذاهب الاسلامية على اسس الاحترام المتبادل، وذلك حتى يصاغ من التعدد الفقهي والمذهبي واقع للاثراء وتعزيز الوحدة والاندماج، وليس سبباً للفرقة والتشظي. فالتعدد الفقهي والتنوع الاجتماعي، ينبغي ألا يقودا الى بناء كانتونات اجتماعية متحاجزة وبعيدة عن بعضها البعض، وانما لابد ان يقودنا هذا التنوع الى بناء وطني جديد على اسس لا تحارب التعدد ومقتضياته، ولا ترذل التنوع وحاجاته بل تتعاطى بوعي وحكمة مع هذا التنوع.. الوعي الذي يؤسس لحالة حضارية من التعايش السلمي على اسس الفهم والتفاهم والحوار والتلاقي وتنمية الجوامع المشتركة وصيانة حقوق الانسان.

والحكمة التي تمنع اندفاع أي طرف للقيام بأي تصرف يضر بمفهوم المواطنة او يؤسس لخيارات اجتماعية لا تنسجم ومقتضيات الوحدة.

اننا نتطلع الى مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، لا تبنى على انقاض خصوصياتنا التاريخية والفكرية، وانما تبنى على اساس احترام هذه الخصوصيات والاعتراف بمتطلباتها والعمل على حمايتها من كل التهديدات والمخاطر.

لذلك فإن المنهج الصحيح الذي ينبغي ان نتبعه في التعامل مع حقائق التنوع الانساني والخصوصيات الثقافية للمجتمعات هو تشجيع هذه الخصوصيات للعمل في الفضاء الاجتماعي والوطني في الجوانب الايجابية التي تدفع الانسان عاطفياً وفكرياً، نفسياً وعملياً، الى المشاركة الايجابية في شؤون الوطن والمجتمع المختلفة.

وبهذه الطريقة ننزع عن كل الخصوصيات كل العقد، التي تفضي الى الانكفاء او التعصب الاعمى للذات. فالتعدد الفقهي في إطار سياق ثقافي واجتماعي يحترم التعدد ويضمن حق الاختلاف وحقوق الانسان الجوهرية، هو من الروافد الأساسية لبناء مواطنة غنية في ثقافتها وخياراتها المجتمعية.

لهذا كله فإننا مع المعاقبة القانونية، لكل شخص او طرف يمارس الاساءة بكل مستوياتها الى الأطراف الاخرى.

وذلك لانه لا يمكن ان يبنى السلم الاجتماعي والعيش المشترك على أسس صلبة ومتينة، إلا بالاحترام المتبادل والعميق بين مختلف المكونات والتعبيرات. صحيح انه ليس ممكناً ان تتطابق وجهات النظر في كل شيء، ولكن من الضرورات القصوى لاستقرارنا ووحدتنا ان نصونهما بالاحترام المتبادل.

لذلك فإننا نقف ضد كل الأقوال والممارسات التي تسئ الى رموز ومقدسات الآخرين.

كما نطالب الآخرين ان يحترموا رموزنا ومقدساتنا.

إننا مع الاحترام المتبادل بكل متطلباته ومقتضياته، وذلك لأن تسفيه مشاعر الآخرين، لا يقود الى التضامن والوحدة، بل الى الشقاء والمحنة.

ولنا في التجربة النبوية في المدينة المنورة خير مثال ونموذج. اذ ان المواطنة التي شكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تلغ التعدديات والتنوعات، وانما صاغ قانوناً يوضح نظام الحقوق والواجبات ويحدد وظائف كل شريحة وفئة، ويؤكد على نظام التضامن والعيش المشترك.. اذ جاء في صحيفة المدينة: "وانه لا يحل لمؤمن اقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر، ان ينصر محدثاً، ولا يؤويه، وانه من نصره وآواه فإن عليه لعنة الله وغضبه الى يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل".

فسبيل المواطنة الصادقة، ليس تسفيه مشاعر الآخرين والحط من رموزهم وتاريخهم، وانما بالاحترام المتبادل الذي يصون الحقوق والحرمات، ويحول دون التطاول المتبادل.

وإننا وفي هذه اللحظة الزمنية الحساسة والخطيرة، أحوج ما نكون الى سيادة نهج الاحترام العميق والمتبادل بين مختلف مكونات المجتمع. وذلك لانه سبيلنا لتعزيز تلاحمنا الداخلي وصون وحدتنا الوطنية.

اضف تعليق