q
منذ بدأتُ مهنتي في استطلاعات الرأي العام قبل حوالي العقدين وأنا اتتبع التغيرات الحاصلة في المجتمع العراقي سواءً على صعيد القيم الفردية أو المعايير المجتمعية. واذا كانت دراسات كبار الباحثين والمهتمين في المجتمع العراقي تعتمد الملاحظة الشخصية، فقد أتاح التطور العلمي في مجال القياس النفسي والاجتماعي...

منذ بدأتُ مهنتي في استطلاعات الرأي العام قبل حوالي العقدين وأنا اتتبع التغيرات الحاصلة في المجتمع العراقي سواءً على صعيد القيم الفردية أو المعايير المجتمعية. واذا كانت دراسات كبار الباحثين والمهتمين في المجتمع العراقي تعتمد الملاحظة الشخصية، فقد أتاح التطور العلمي في مجال القياس النفسي والاجتماعي، وفسحة الحرية بعد 2003 ان نسند تحليل الظواهر المجتمعية على أرقام علمية مأخوذة من أستطلاعات الرأي العام الممثِلة علمياً واحصائياً للمجتمع العراقي بكل شرائحه والتي برع فريق المجموعة المستقلة للابحاث في أجرائها طوال السنوات العشرين الماضية حتى باتت مرجعاً علمياً عالمياً يرجع له كثير من الباحثين المهتمين بالشأن العراقي.

هذه الارقام المجتمعية والتعاون مع كبار الباحثين والاساتذة في العالم اتاح للكاتب تشريح المجتمع من منظور مختلف والوصول لنظرية جديدة في فهم المجتمع العراقي سيتم عرضها في كتاب قادم ان شاء الله.

مع ذلك أرى من المهم مشاركة القارىء العزيز ببعض الارقام التي قد يراها الكثيرون صادمة، لكني أعتقد أنها تمثل وضعاً متوقعاً في ظل المشاكل التي عانى منها العراقيون طوال عقود كثيرة. أعلم تماماً ان البعض، بخاصة من المحافظين أو الرافضين لفكرة التغيير، أو من يظنون أنهم يحمون الفضيلة والاخلاق والثقافة المجتمعية من خلال أنكار التغيير، سيهاجمون ما أكتب ويشككون في المنهجية والارقام، كما فعلوا مع آخرين كتبوا في نفس الاتجاه، الا اني ادرك أن اثارة النقاش المجتمعي والنخبوي مهم لتشخيص ما يجري ومحاولة التوافق معه أو تصحيحه.

سأحاول في سلسلة المقالات هذه تشخيص التغيرات الحاصلة في بعض القيم الفردية نحو الدولة أولاً ونحو الآخرين من ابناء المجتمع ايضاً. وساترك تناول الكثير من القيم والمعايير للكتاب الذي أنوي الشروع به قريباً بخاصة وأن آخر الارقام التي حصلتُ عليها أستناداً الى دراسة مقارنة مماثلة أجريت في كثير من دول العالم أظهرت الطبيعة (المتفردة) للمجتمع العراقي.

هنا وفي هذه الحلقة، سأبدأ بعرض ومناقشة التغير الكبير الحاصل في اتجاهات وقيم المواطن العراقي نحو دولته. وعلى الرغم من ان فرق البحث أختبرت كثير من تلك القيم الا اني سأكتفي بعرض التغير الحاصل لدى العراقيين نحو فكرة المطالبة بمنافع شخصية لا تحق له قانوناً، وفرضية التهرب الضريبي، واستخدام وسائل النقل العام مع التهرب من دفع الاجرة، وأخيراً فرضية قبول الرشوة لأداء خدمة عامة. تاريخياً، كان العراق محتلاً لفترات طويلة من قبل قوى استعمارية أقليمية ودولية.

لا بل ان الدولة العراقية الحديثة وبرغم ما بذله الجيل المؤسس لها فأنها نشأت في أحضان الاستعمار الانكليزي وعلى أنقاض قرون من الاستعمار العثماني. هذه التركة الاستعمارية الثقيلة والممتدة تاريخياً، جعلت كثير من المواطنين كما يقول علماء الاجتماع، لا يرون في الدولة والحكومة التي تمثلها الا كياناً غريباً يريد نهبهم واستغلالهم.

لذا كان كثير من العراقيين لا يجد حرجاً في سرقة الدولة او استثمار اي ثغرة للانتفاع منها حتى ولو بطريقة غير مشروعة، ولعل كثير من الاحداث والشواهد التاريخية، ليس آخرها الحواسم، تدلل بوضوح على ما أقول. ضمن هذا السياق كان يفترض بالتحول في شكل نظام الحكم وجعله قائما على الانتخابات واختيار المواطن ان يقلل ولو جزئياً من نزعة عداء المواطن للدولة، فهل حصل ذلك حقاً؟

منذ اشتراكي لاول مرة في مشروع مسح القيم العالمي world values survey في عام 2004 أختبرتُ أتجاهات المواطن العراقي نحو الدولة وبخاصة في المجالات الاربعة الآنفة الذكر وسأعرض لكم في المقال التالي ماهي نسبة العراقيين الذين يقبلون باستلام رشوة لاداء خدمة عامة، ونســـبة من يــــــــعتقد ان التهرب من دفع أجرة وسائل النقل العام، أو التهرب من الضريبة مقبول؟ وماهي نسبة من يرضون بالحصول على امتيازات لا تحق لهم قانوناً؟

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق