q
لم نعد في عالم يتسم باللاتضخم والتوسع المُستمر. يتطلب عالم اليوم تغييرات جذرية في السلوك، وآلية الأسعار هي أقوى أداة لدينا لتحديد كيفية استجابة الشركات والأفراد. وقد أدت هذه الجائحة إلى تسريع وتيرة تبني تكنولوجيات المعلومات والاتصالات بشكل كبير، مما أوجد الحاجة إلى استثمارات أكبر لإقامة روابط...
بقلم: هارولد جيمس

برينستون ـ ردًاً على المخاوف الأخيرة بشأن ارتفاع معدلات التضخم مُجددًا، ينكر صناع السياسة في الولايات المتحدة وجود أي تهديد ويُصرون على أن التوقعات المُتعلقة بالتضخم "راسخة تمامًا". كما يجادلون بأن أي ارتفاع في الأسعار حدث في الآونة الأخيرة سيكون مؤقتًا، وهو ناجم عن نقص لمرة واحدة ستتم معالجته عندما تعود الحياة إلى طبيعتها بعد نهاية الجائحة. ومع ذلك، يشعر المشاركون في السوق والمستثمرين بقلق متزايد بشأن هذه المسألة، كما أن النقاد مُنقسمون بشدة، حيث يصف البعض من يختلفون معهم ب "الصراصير".

تُعزز خطابات مُماثلة الحاجة إلى التراجع خطوة إلى الوراء والتفكير في المقصود بالتضخم ونقيضه، الانكماش. ليست كل مشاكل التضخم أو الانكماش مُتشابهة. يمكن أن يكون انخفاض الأسعار (الانكماش) الناتج عن التحسينات التقنية أمرًا جيدًا، كما حدث في حالة المحركات الكهربائية أو الأصباغ الكيميائية في أواخر القرن التاسع عشر، أو أجهزة الكمبيوتر (والعديد من السلع الاستهلاكية الإلكترونية الأخرى) على مدار الخمسين عامًا الماضية. لا يؤدي هذا النوع من التغييرات في الأسعار إلى حالات العجز عن سداد الديون على غرار الكساد العظيم وأزمات الديون.

ينطبق نفس التمييز على التضخم. يمكن أن تكون هناك زيادات "حميدة" في الأسعار، كما هو الحال في الحالات التي تحتاج فيها الأسواق إلى إشارة لإحداث استجابة مُعينة. ويعكس الارتفاع الحالي في أسعار رقائق الكمبيوتر نقصًا في الإمدادات، مما يؤدي بدوره إلى تقليص إنتاج السيارات والثلاجات وغيرها من المنتجات التي تعتمد على هذه المكونات. لكن "ارتفاع أسعار الرقاقات" ليس نهاية العالم. بدلاً من ذلك، يعطي ارتفاع الأسعار الشركات المُنتجة للشرائح الإلكترونية إشارة واضحة لرفع معدل الإنتاج وزيادة العرض. ولهذا السبب، تلعب زيادات الأسعار دورًا مفيدًا، ويمكننا أن نتوقع أن تنخفض أسعار الرقاقات في المستقبل.

أو يجب النظر في سيناريو يتطلب استجابة مُختلفة للسوق. وقد أدى الانتعاش السريع الحالي إلى زيادة الطلب على نقل البضائع، مما أدى بدوره إلى ارتفاع أسعار الوقود والطاقة. علاوة على ذلك، أدى النقص بين سائقي الشاحنات وهجمات برامج الفدية الإلكترونية التي استهدفت خط أنابيب رئيسي في الساحل الشرقي إلى ترك محطات الوقود فارغة. لكن هذه الندرة هي نتيجة خلل مُؤقت. كما أنها لا تُبشر بتكرار أزمة النفط في السبعينيات.

إن ما سيُحققه ارتفاع أسعار البنزين هو الإشارة إلى المستهلكين بأنها تدفع من أجل الحد من استهلاك المرء للوقود والاعتماد على الوقود الأحفوري. تتوافق هذه الرسالة بشكل جيد مع إدراك أوسع نطاقًا بأن الاقتصاد بحاجة ماسة إلى التحول بعيدًا عن مصادر الطاقة كثيفة الكربون. ومرة أخرى، يجب أن نسمح للأسعار بأداء وظيفتها الفعلية المُتمثلة في توجيه سلوك المستهلكين وخطط الاستهلاك المُستقبلية.

لا تُمثل هذه الظواهر الحديثة نوع التضخم الذي من شأنه أن يبرر عرقلة الانتعاش. تعكس أسعار الشرائح الإلكترونية والوقود المرتفعة ببساطة ما يتعين على المنتجين والمستهلكين القيام به. وباعتبارها أداة تخطيط فعّالة بشكل مثير للإعجاب، فإن إشارة ارتفاع الأسعار ليست مؤشرًا يجب قمعه، تمامًا كما لا ينبغي إخبار المرضى المصابين بالحمى بوضع موازين الحرارة الخاصة بهم في الثلاجة. توفر قراءة درجات الحرارة المرتفعة المعلومات الضرورية لاستعادة الفرد صحته.

من الناحية التاريخية، كثيرًا ما ترافق التسارع الكبير للعولمة مع ارتفاع في معدلات التضخم، وقد دفع ذلك السياسيين والمستهلكين إلى البحث عن الجناة. في الخمسينيات والستينيات من القرن التاسع عشر، تم تفسير ارتفاع الأسعار على أنه استجابة لاكتشاف الذهب أو الابتكار المالي بعد تطوير أنواع جديدة من الخدمات المصرفية. وفي السبعينيات، تحملت السياسة النقدية الأمريكية قدرًا كبيرًا من اللوم، على الرغم من أن البعض أشار أيضًا إلى الابتكار المالي (ارتفاع في حجم القروض من المصارف الدولية) ودور كارتلات الدول المُنتجة.

ولكن الحقيقة هي أن تأثيرات الأسعار ساعدت في كلتا الحالتين على إحداث تغييرات سلوكية أدت في النهاية إلى تحقيق مكاسب الكفاءة وانخفاض الأسعار ("الانكماش المُفيد"). ومن ثم، قد يكون من المفيد التفكير في الزيادات الحديثة في الأسعار كأمثلة على "التضخم المُفيد "، بقدر ما تمثل الخطوة الأولى في عملية مُفيدة.

إن مثل هذا التغيير في العقلية سيتطلب خروجًا عن الإجماع الذي شهدته تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما أصبح استهداف التضخم السلاح الرئيسي للبنوك المركزية في السعي إلى تحقيق استقرار الأسعار. وفي مختلف أنحاء العالم، توصلت الحكومات والبنوك المركزية إلى وجهة نظر مشتركة مفادها أن معدل التضخم بنسبة 2٪ - أو ربما 2.5٪ - (القائم على مؤشر أسعار المستهلك) أمر مرغوب فيه. ووفقًا لذلك، بدأت تشعر بالقلق كلما تحرك المعدل حتى بضع نقاط عشرية أسفل (أو أعلى) هذا الخط، عادةً على أساس قصص الرعب السابقة حول الانكماش الضار (الكساد العظيم) أو التضخم غير الحميد (كما حدث في أعقاب الحروب العالمية في القرن العشرين).

كان إجماع السياسة النقدية هذا مناسبًا لعالم مستقر لم يشهد أزمات حادة لسنوات عديدة. وقد وصف محافظ بنك إنجلترا آنذاك ميرفين كينج، أحد المدافعين الرئيسيين عن هذا الإجماع، العقد بشكل جيد حين صاغ مُختصر "NICE": اللاتضخم والتوسع المستمر.

لكننا لم نعد في عالم يتسم باللاتضخم والتوسع المُستمر. يتطلب عالم اليوم تغييرات جذرية في السلوك، وآلية الأسعار هي أقوى أداة لدينا لتحديد كيفية استجابة الشركات والأفراد. وقد أدت هذه الجائحة إلى تسريع وتيرة تبني تكنولوجيات المعلومات والاتصالات بشكل كبير، مما أوجد الحاجة إلى استثمارات أكبر لإقامة روابط عالمية جديدة ولضمان الكفاءة والمساواة. كما أظهرت مدى أهمية العمل الجماعي في التغلب على المشاكل العالمية حقًا - وبالتحديد، تغير المناخ.

عندما يكون من المتوقع والمطلوب حدوث تحولات جذرية على مستوى المجتمع في أنماط الاستهلاك، لم يعد من المناسب بناء استجابات سياسية على مؤشر واحد بسيط للأسعار. نحن بحاجة إلى تصنيف الأسعار بطريقة تتماشى مع مبادئنا وأولوياتنا المشتركة. على سبيل المثال، يجب أن نفكر في استبعاد أسعار السلع المعادية للمجتمع أو السلع غير المرغوب فيها من القائمة، مثل الوقود الأحفوري ومنتجات التبغ. كما يجب أن نفكر في مقاييس أخرى للمساعدة في توجيهنا في قياس مدى كفاءة المجتمعات والبلدان في الاستجابة للتحديات المحددة القائمة.

* هارولد جيمس، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وهو زميل أقدم في مركز الابتكار الدولي للحكم ومتخصص في التاريخ الاقتصادي الألماني والعولمة، ومؤلف مشارك للكتاب: اليورو ومعركة الأفكار ومؤلف كتاب إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق