q
سياسة - الحكم الرشيد

تعميم الفساد

ونظرا لعدم قدرة الأحزاب التقليدية على هزيمة الشعبويين بالأساليب المعتادة، فقد بدأت في محاكاة أساليب خصومها، ولم تترك للناخبين خيارا سوى تبني نظرة تشاؤمية. في العديد من البلدان، بدأ حتى مؤيدو الأحزاب المناهضة للشعبوية بصورة واعية في تقبل السلوكيات المرضية، والمخالفات، وحتى الأعمال...
بقلم: شواومير سيراكوفسكي

وارسو ــ كما رأينا في السنوات الأخيرة، فإن هيمنة حزب شعبوي على المشهد السياسي من شأنها أن تتسبب في حالة استقطاب عميقة بين الناخبين. بل وتؤدي كذلك إلى تآكل النسيج الأخلاقي للحياة السياسية. ونظرا لعدم قدرة الأحزاب التقليدية على هزيمة الشعبويين بالأساليب المعتادة، فقد بدأت في محاكاة أساليب خصومها، ولم تترك للناخبين خيارا سوى تبني نظرة تشاؤمية.

في العديد من البلدان، بدأ حتى مؤيدو الأحزاب المناهضة للشعبوية - بصورة واعية - في تقبل السلوكيات المرضية، والمخالفات، وحتى الأعمال غير القانونية من جانب ممثليهم السياسيين المنتخبين. ومن ناحية أخرى، تشعر قوى المعارضة بشكل متزايد بأنها مضطرة إلى استخدام المكيدة والخداع من أجل الفوز، اتباعا لقانون جريشام، الذي ينص على أن العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من السوق.

نتيجة لذلك، سيجد السياسيون ذوو الضمائر اليقظة أنفسهم في وضع غير مؤات. ومع توصل عدد متزايد من الناخبين إلى قناعة مفادها أنه يجب هزيمة الشعبويين بنفس أساليبهم، يتعين على أحزاب المعارضة الاختيار بين التمسك بالمعايير الأخلاقية أو إنقاذ الديمقراطية الليبرالية.

في ظل هذه الظروف، ليس لدى السياسيين ما يدعو للقلق حيال فقدان ثقة مؤيديهم إذا خالفوا القانون لخدمة الحزب. لكن هذا الوضع يصب في صالح الشعبويين الموجودين بالفعل في السلطة. لذلك، يتمتع حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا وحزب فيدس في المجر بدرجة غير مسبوقة من الحصانة ضد الفضائح السياسية.

الأمر الأساسي هنا هو التمييز بين الفساد الموجه لصالح الحزب والفساد لتحقيق مصلحة فردية. ففي بولندا، يتغاضى زعيم حزب القانون العدالة ياروسواف كاتشينسكي عن أوجه المحسوبية والفساد المؤسسي الصريح، لكنه يدين أشكالا أخرى من التعامل ذاتي المنفعة. حيث يجري تعيين مسؤولي الحزب بشكل روتيني من قبل شركات مملوكة للدولة، على أن يكون مفهوما أنهم سوف يتبرعون بحصة من أرباحهم للحزب. وبحسب ما ورد، فقد سعى كاتشينسكي نفسه إلى إبرام صفقة مع رجل أعمال نمساوي لبناء ناطحات سحاب على أرض مملوكة لشركة مرتبطة بحزب القانون والعدالة.

على النقيض من ذلك، عندما كُشف أن رئيسة الوزراء البولندية باتا شيدلو دفعت مكافآت لوزرائها تعادل راتب عشرة أشهر، طالب كاتشينسكي بالتبرع بهذا المال للجمعيات الخيرية ودفع بتشريعات لخفض الرواتب البرلمانية والحكومية العليا. والآن، يجني البرلمانيون البولنديون نحو 1800 يورو (2000 دولار أميركي) راتبا صافيا شهريا (يجني أعضاء البرلمان الأوروبي حوالي 8800 يورو)، وهذا أمر جيد بالنسبة لصورة الحزب، ولكنه ليس جيدا لمنع الفساد. وفي الآونة الأخيرة، أجبر كاتشينسكي حليفا سياسيا قديما، رئيس مجلس النواب ماريك كوتشينسكي، على الاستقالة بعد الكشف عن استخدامه طائرة حكومية في تنقلاته الشخصية.

يدرك كاتشينسكي أن أنصار حزب القانون والعدالة سيتقبلون أوجه الفساد "المؤسسي" الذي يفيد الحزب، ولكن ليس الفساد الذي يفيد شخصا بعينه. فعندما يختلس سياسي أموالا أو يسيء استخدام الموارد الحكومية (كما فعل كوتشينسكي)، بإمكان الناخبين معرفة أن مثل هذه الأعمال لا تفيدهم. لكن عندما يتبين أن أحد السياسيين قدم رشاوي أو منح وظائف يسيرة في مقابل الحصول على تبرعات للحزب، فمن الممكن أن يرى الناخبون كيف يمكن لهذه المعاملات الفاسدة أن تخدم "الصالح العام".

منذ فترة قصيرة، نشرتُ بحثا بالاشتراك مع برزيميسلاف سادورا، الأستاذ بجامعة وارسو، تناول مواقف الناخبين البولنديين قبل شهر واحد من الانتخابات البرلمانية التي جرت في بولندا في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول. تكشف النتائج التي توصلنا إليها عن مدى سيطرة النظرة التشاؤمية على الناخبين البولنديين. على سبيل المثال، تأمل الردود النموذجية الآتية من قبل أحد ناخبي حزب القانون والعدالة:

هل يجب أن نسامح سياسيين مثل كاتشينسكي على مشاركتهم بدرجة ما في الفساد؟

- ليس بالضرورة. إذا كنا نتحدث عن منفعة مادية فردية، الإجابة لا، فقد انتهى أمره.

ماذا لو لم يكن هو المستفيد من المشاركة في الفساد، بل والدته؟

- إذا كان الأمر من أجل الحزب، ومن أجل الصالح العام، فالإجابة هي أجل، سأميل إلى مسامحته.

من أجل الحزب، وليس لنفسه؟

- أجل.

في الواقع، قد يكون الفساد الفردي أمرا سيئا ليس فقط لأنه ينتهك المعايير الأخلاقية، ولكن أيضا لأنه يضر بصورة الحزب.

ومن السهل تصوُّر أن المؤيدين المتشددين للرئيس الأميركي دونالد ترمب أو رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون سيقدمون ردودا مماثلة. ففي جميع أنحاء الغرب، يقلب التشاؤم السياسي قواعد السياسة رأسا على عقب، ويخلق مجالين أخلاقيين منفصلين. حيث تصبح الأفعال التي يعتبرها الناخبون غير مقبولة في معظم مجالات الحياة فجأة أفعالا حميدة في سياق سياسي حزبي.

بدأ سياسيون مثل رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان وكاتشينسكي مسيرتهم المهنية في التيار العام ثم اتخذوا من الشعبوية أداة لتحقيق طموحاتهم السياسية. لكن السياسيين الذين اعتنقوا الشعبوية منذ بداياتهم أثبتوا أن لديهم حصانة أقوى ضد الفضائح. على سبيل المثال، من الواضح أن كلا من ترمب وزعيم حزب رابطة الشمال في إيطاليا، ماتيو سالفيني، يستمد شرعيته من الفضائح. حيث التحفا بعباءة "المصداقية" من خلال استعداء النخب ووسائل الإعلام والمؤسسات الأجنبية (ولا سيما الأوروبية)، والسلطة القضائية، وانتهاك المعايير بالتخلي عنها. والحق أن الفضائح السياسية، بغض النظر عن عددها، لا تضر بمثل هذه الشخصيات؛ بل على العكس، فهي تصنع منهم شهداء.

قليلة هي الفرص التي تتاح أمام أحزاب المعارضة للانخراط في الفساد في المؤسسات العامة، وذلك بحكم طبيعتها لأنها ليست في السلطة. لكن إذا تمكنت هذه الأحزاب من إيجاد طريقة للإطاحة بالحكام الشعبويين باتباع الدرب المتدني أخلاقيا، فإن الأدلة تشير إلى أن مؤيديها لن يقسوا في الحكم عليها.

* شواومير سيراكوفسكي، مؤسس حركة كريتيكا بوليتزنا، مدير معهد الدراسات المتقدمة في وارسو وزميل أقدم في المجلس الألماني للعلاقات الخارجية
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق