q
اقتحام العقبات والتحديات ربما تقتضي تضحيات جمّة، وهذا يتطلب بالدرجة الاولى إيمان عميق وراسخ بالأفق المشرق لطلب العلم، أو بالجدوائية الاقتصادية للمشروع، او بعدالة القضية؛ سواءً كانت سياسية في مسيرة مكافحة الفساد، والتحقق من المشاركة السياسية الصحيحة، او كانت اجتماعية في الإصلاح والتغيير...

إنها لحظات سعيدة حينما يتسلم طالب الجامعة شهادة التخرج فيعرف نفسه، طبيباً، او محامياً، مهندساً، او خبيراً في الحاسوب، ولحظات أسعد في حفلات التكريم، او الفوز في مسابقة علمية، او إنجاز عمل كبير في شتى الاختصاصات، فهي تغمر صاحبه بالسرور والبهجة، وتبعث في نفسه الفخر والاعتزاز والثقة، وربما هي قرينة لمشاعر عامل البناء عندما ينتهي من عمله ويقبض أجره لقاء ما أنجزه من بناء البيت، فيعرف أن جهوده لم تذهب سدىً.

هذا الوجه الأول للنجاح، أما الوجه الآخر فنجده خافياً عن الانظار، ولا يبديه صاحبه على طول الخط، لانه يعطي صورة مغايرة تماماً وغير محبذة، فهي مشحونة بالمنغّصات والصدمات من فشل في الدراسة أو العمل، وفشل في العلاقات مع الآخرين، مع موجات من التسقيط والتهميش، وهؤلاء الآخرين يكونوا زملاء الدراسة، و \ربما يكونوا شركاء في العمل، وربما يكونوا موظفون في الدولة، بل وحتى في المحيط الأسري.

ويعتقد الكثير أن الوراثة، والظروف المساعدة، والتشجيع، من جملة العوامل المحفّزة للوصول الى قمم النجاح، وهم في ذلك لا يجانبون الحقيقة في بعض الاحيان، فالعالم، والكاتب، والخطيب والأديب، ربما يتركون بصماتهم على أولادهم فيكونوا نسخة منهم، بشكل او بآخر، كما إن توفر البيت بكل مستلزمات الراحة، وأجواء الأمن والاستقرار، وايضاً تشجيع الأبوين والاصدقاء، كل ذلك له تأثير بالغ في خلق دوافع نفسية لتحقيق النجاح، بيد أن العامل الداخلي له تأثيره الى جانب العوامل الخارجية، والطالب أو المبدع تحركه الدوافع الذاتية الملازمة له، بخلاف العوامل الخارجية التي ربما تغيب عنه بشكل غير متوقع وتتركه وحيداً في الساحة مما يشعره بالحاجة الى الانسحاب قبل تعرضه للفشل امام الآخرين.

النجاح تحت ظلال التحديات

يتفق علماء النفس الاجتماعي، ومن كتب ونظّر في "التنمية البشرية" وفي قواعد النجاح والتفوق على أن بذل الجهود لمقارعة التحديات وإزالة العقبات، يسبق أي توقع أو أمل بالنجاح، بمعنى القبول بالامكانات القليلة، وتجرّع مرارة المحيط الاجتماعي (أسرة- اصدقاء-زملاء)، مع ذلك، نجد اليوم من يطالب، وبشدّة بتوفّر المكتب والكرسي من مناشئ رصينة! وغرف مُكيّفة ومُدفأة! وأي نقص في هذه الامكانات يُعد فوراً من اسباب فشل الاعمال ليكون صاحبه مبرءاً من هذا الفشل!

وقبل الحديث عن التحديات والعقبات التي كتب عنه الكثير، ينبغي الإقرار بحقيقة وجودها أولاً؛ وأنها ليست من علامات الحظ السيئ، او ربما يفسرها البعض بـ "المؤامرة" من المحيط الاجتماعي القريب أو المحيط البعيد، وإلا كيف نعالج مشكلة لا نعترف بوجودها؟!

نعم؛ هنالك من يعتقد بقدرته على تحقيق النجاح دون المرور باختبار التحدي، و دون تكليف نفسه عناء تحمّل الصعاب في طريق النجاح، هذا النوع من الطامحين لهم وجودهم في الساحة، ويحققون نجاحات كبيرة في بعض الاحيان، بيد أن نجاحاتهم تنتهي بالفشل، ولا تثمر عما يفترض ان يكون خدمة للانسانية، كما فعل العلماء والمكتشفون والمصلحون في التاريخ، فقد وصل الى قمة النجاح بهذه الطريقة اشخاص مثل؛ هتلر، وستالين، وصدام، وأشباههم، بيد أن هذه القمة لم تكن نقطة ضوء تهتدي اليها شعوبهم، فيتعلموا سبل الخير والصلاح، ويسترشدوا الى الحياة الطيبة والآمنة، وإنما تحولت الى صخرة جاثمة على الصدور، ومصدر قلق، و رعب، وموت بالملايين، ومن ثمّ السقوط المريع، ولا تستذكره الأجيال إلا بذكريات سيئة لا مكان للنجاح فيها.

وإن كنّا عازمين على النجاح فثمة خطوتان –من جملة خطوات- تمكن صاحبها من تجاوز التحديات مهما كانت:

الخطوة الاولى: الايمان

اقتحام العقبات والتحديات ربما تقتضي تضحيات جمّة، وهذا يتطلب بالدرجة الاولى إيمان عميق وراسخ بالأفق المشرق لطلب العلم، أو بالجدوائية الاقتصادية للمشروع، او بعدالة القضية؛ سواءً كانت سياسية في مسيرة مكافحة الفساد، والتحقق من المشاركة السياسية الصحيحة، او كانت اجتماعية في الإصلاح والتغيير، وهذا يتأكد ايضاً ويتجلّى بأروع صوره في جبهات القتال ضد العدوان الخارجي، كما حصل في العراق الذي واجه اجتياحاً عسكرياً مباغتاً من عناصر داعش عام 2014، وتمكن من إيقاف الزحف الارهابي على تخوم العاصمة بغداد، ومن ثم تحقيق الانتصارات المتتالية وإلحاق الهزيمة بهذه الجماعة وطردها من الاراضي العراقية وتحرير جميع المدن والمناطق المحتلة، وهذا لم يتم إلا بعد تقديم عشرات الشهداء والجرحى والمعوقين.

الخطوة الثانية: العمل

المصداقية العملية لأي فكرة أو عمل ما بحد ذاته يسهم في التقدم نحو قمة النجاح، يكفي أن نلقي نظرة على عيادة طبيب يتسابق عليه المرضى طلباً للشفاء، فيما عيادة طبيب آخر بنفس الاختصاص، وربما قريب منه لا يكاد يزوره أحد في اليوم إلا بعدد أصابع اليد، وهكذا في سائر الاعمال والمشاريع.

وهذا يفسّر تأكيد العلماء ممن كتبوا في النجاح والفشل، على أهمية ومحورية "العمل الصالح"، ثم السلوك الحسن، والاسلوب الصحيح ليضمن العمل نجاحه القاطع مهما كانت التحديات والعقبات، والناس من حيث الفطرة تبحث عن المتواضع، والنزيه، والصادق، والأمين، كما أشار الى ذلك سماحة الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابه السبيل الى إنهاض المسلمين.

إن طالب الجامعة، و صاحب المشروع التجاري، و الخطيب، و الأديب، عندما تكون اعمالهم ونتاجاتهم عبارة عن مرآة تنعكس فيها صورتهم وذواتهم فقط، هم الأكثر معاناة في مواجهة الصعاب والتحديات لان ببساطة؛ يقفون لوحدهم في الساحة، وينتظرون من الاخرين الانضمام اليهم، واحترامهم، وتكريمهم، بل واستشعار الحاجة اليهم! بينما يغفل هؤلاء أن الآخرين لهم طموحاتهم ايضاً، ويتطلعون الى نجاحاتهم بقدر قدراتهم وامكاناتهم في الحياة.

القرآن الكريم ومفاتيح النجاح

العامل الغيبي له دوره المباشر في الوصول الى قمة النجاح الى جانب العوامل المادية والظاهرية، وفي كلمة لسماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي -طاب ثراه- يصف العامل الغيبي بأنه "من العوامل الواقعية"، فان "الارتباط بالله تعالى، والتقوى وتجنب ارتكاب الذنب والتوسل بأولياء الله تعالى، كلها عوامل مهمة في نجاح الانسان وفي توفيقه"، كما يشير الى أهمية قراءة القرآن الكريم، وينفي مقولة البعض بأن مجرد القراءة لا فائدة منها: "كلا؛ ان القراءة مهمة"، فالمعروف عن القرآن الكريم انه مثل الشمس تشرق على كل يوم جديد، فهو يشع أنوار العلم والمعرفة على مدى الأزمان والدهور.

وينقل سماحته تجارب من علماء كبار توقفوا عند مسائل علمية معقدة، لم يتمكنوا من حلّها إلا من خلال مداومتهم على قراءة القرآن، بختمة أولى، وثانية، وثالثة، يقول العالم: "وبمجرد أن بدأت بقراءة القرآن الكريم، وإذا بآفاق من الحقائق تُفتح عليّ، وأنا أقرأ الآية، وهي التي ربما قرأتها خمسين مرة قبل هذا، ولكن هذه المرة عندما أقرأ هذه الآية، مثلاً {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْب}، وإذا بي أرى آفاق المعرفة تفُتح عليّ بشكل عجيب، من هذه الآية التي حلّت شبهة عجز فطاحل العلماء عن حلّها".

إن الواقعية التي أشار اليها سماحة الفقيه الشيرازي تتجسد في واقعية الحقائق العلمية والمعرفية الزاخرة في القرآن الكريم، وايضاً الموجودة عند المعصومين، عليهم السلام، والأولياء الصالحين الذين يتوسل اليهم العلماء والمفكرون والمصلحون من الطامحين الى التغيير في مجتمعاتهم وأمتهم.

ولا أجدني بحاجة الى ذكر أقوال علماء وحكماء، ليس من المسلمين، بل ومن غير المسلمين في العالم بوجود القوانين والسنن الكفيلة بنشر الخير، وقيم الحق، والفضيلة في الحياة، سواءً في آيات الكتاب المجيد، أو في سيرة النبي الأكرم، أو في كلمات وسيرة أمير المؤمينن، وايضاً سائر الأئمة الهداة، وما أحسن وأروع أن يقتفي الطامحين للنجاح والتألق، أثر أولئك العِظام الذين "ينحدر منهم السيل ولا يرقى اليهم الطير"، ربما حتى يصل بعضنا الى ما يتطلع اليه من قمم النجاح.

اضف تعليق