q
من ساحة الحرب والقتال في صحراء كربلاء الى جانب جدّه الامام الحسين، الى محراب العبادة الى جانب أبيه الامام السجاد، ثم الى حلقات العلم والعلماء "ليبقر العلم بقراً" كما وعد جدّه المصطفى؛ ثلاث مراحل تأسيسية لبناء الأمة مرّ بها الامام الباقر، عليه السلام...

"عالم ينتفع بعلمه افضل من سبعين الف عابد"

الإمام محمد بن علي الباقر، عليه السلام

من ساحة الحرب والقتال في صحراء كربلاء الى جانب جدّه الامام الحسين، الى محراب العبادة الى جانب أبيه الامام السجاد، ثم الى حلقات العلم والعلماء "ليبقر العلم بقراً" كما وعد جدّه المصطفى؛ ثلاث مراحل تأسيسية لبناء الأمة مرّ بها الامام الباقر، عليه السلام، الذي تمر هذه الايام ذكرى استشهاده الأليمة، فقد شهد فاجعة الطف ونهضة جدّه الحسين الإصلاحية وهو ابن ثلاث سنين، وما صاحبها من تضحيات وبطولات خالدة حفرت اخدوداً ممتداً في ضمير الأمة تذكرهم دائماً بوجوب الثورة على الظلم والانحراف أينما وجد، ومهما كلف الثمن، مؤسساً معادلة جديدة في تاريخ العالم: "الدم ينتصر على السيف".

ثم شهد الامام الباقر، مرحلة جديدة في قيادة الأمة وجد فيها أباه الامام زين العابدين، عليه السلام، منهج الدعاء والبكاء، العلاج الأنجع للقلوب القاسية التي دفعت اصحابها الى التجرؤ على استباحة دم الامام الحسين وأهل بيته، و ارتكاب الفضائع؛ من سلب ونهب وسبي وانتهاك لحرمات النبي الأكرم، ثم السكوت أمام السلطان الجائر، و ربما كان هذا المنهج هو ما انتظره المسلمون، وبعض الكوفيين تحديداً بعد إظهار ندمهم على خذلان الامام الحسين والمشاركة في جريمة قتله.

الدعاء والبكاء ليس على طول الخط

انه جانب معنوي وحيوي في حياة الانسان المستقيم في علاقته مع ربه ومع الناس في آن، بيد أنه لا يكون كل حياة الانسان، فثمة الحياة الاجتماعية، والسلوك الفردي، والتربية الذاتية والنمو في ميادين العلم والعمل والأدب، فكما مطلوب منه تعزيز علاقته بالسماء بالاستعانة بمنظومة عبادية متكاملة، فان المطلوب منه ايضاً؛ تعزيز علاقته بالأرض؛ الانسان والطبيعة من خلال منظومة أخلاقية متكاملة تحدد مسار العلم والمعرفة والآداب والسلوك لتكون حياته طيبة لنفسه ومع الآخرين.

وبما أنه عاش مع أبيه زين العابدين تسعة وثلاثين سنة تكفي –على ما يبدو- لنجاح مهمة الإصلاح الروحي والنفسي لأفراد الأمة، فقد انطلق الامام الباقر في سنوات إمامته في رحاب العلم والمعرفة لينشر من علوم جدّه المصطفى ما استعصى على الامة حلّه من المسائل المختلفة، فأشار المفيد في كتابه "الارشاد" الى علوم الباقر بأنه روي أبو جعفر، عليه السلام، أخبار المبتدأ (بدء الخليقة)، وأخبار الانبياء، وكتب عنه الناس المغازي، وأثروا عنه السنن، واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول الله، صلى الله عليه وآله، وكتبوا عنه تفسير القرآن، و روت عنه الخاصة والعامة الاخبار، وناظر من كان يَرِدُ عليه من اهل الآراء، وحفظ عنه الناس الكثير من علم الكلام". ولكن! لا يعني هذا أن الدعاء والتضرع تهمّش في حياة الامام الباقر، فهو حلقة الوصل بين الامة والسماء، إنما لم يكن بمنزلة المنهج الذي يربي الأمة، فقد نقلت الروايات عنه قوله: "ندعو الله فيما نحب، فاذا وقع الذي نكره لم نخالف الله، عزوجل، فيما أحب"، وبها يكشف لنا، عليه السلام، جانباً من فلسفة الدعاء بهذا الشكل البلاغي الرائع، ونقل عنه ايضاً أنه كان يصلي في جوف الليل ويقول: "أمرتني فلم أئتمر، و زجرتني فلم أزدجر، هذا عبدك بين يديك، ولا اعتذر".

وفي عهد الامام الباقر، عليه السلام، بدأت ملامح التيارات الفكرية تظهر في الساحة من خلال التشكيك والجدل في العقيدة، كما استفحل التصوّف في صفوف بعض المتقمّصين للتديّن، كل هذا بسبب تشجيع الأمويين على التشتت في الدين والعقيدة، وهو ما ابتكره معاوية أول مرة ليواجه به أئمة أهل البيت وما يمثلوه من الحبل المتين المتصل بالسماء، "فسأله أحدهم: هل رأيت الله حين عبدته؟ فقال الباقر: ما كنت لأعبد رباً لم أره! قال: كيف رأيته؟ قال: لم تره الابصار مشاهدة العيان، ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان، لا يُدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، معروفٌ بالآيات، منعوتٌ بالعلامات، لا يجور في حكمه، هو الله الذي لا إله إلا هو".

ومن الصوفية روي محمد بن المنكدر: "رأيت الباقر وهو متكئ على غلامين فسلّمت عليه فردّ عليّ، على بُهر –انقطاع النفس من الاعياء- وقد تصبّب عرقاً، فقلت: أصلحك الله! لو جاءك الموت وأنت على هذه الحالة في طلب الدنيا! فخلّى الغلامين من يده وقال: لو جاءني وانا في طاعة من طاعات الله، أكفّ بها نفسي عنك، وعن الناس، وإنما كنت أخاف الله لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله، فقلت: رحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني".

إن أجوبة الامام الباقر على مختلف المسائل في القرآن الكريم وفي الوجود، وفي الاخلاق والسلوك، كانت متميزة كونها تنبع من مصدر خاص لا يشترك معه أحد من الناس، بيد أنه، عليه السلام، يشقّ لنا طريقاً عبر الزمن لمن يريد الاجابة الدقيقة والصائبة على مختلف الاسئلة في قادم الأيام بالاعتماد على القرآن الكريم و الروايات عن رسول الله والأئمة المعصومين من بعده، عليهم السلام، فمثلاً سُئل؛ لماذا صارت الشمس أشدّ حرارة من القمر؟

أجاب: إن الله -تعالى- خلق الشمس من نور النار، وصفو الماء طبقاً من هذا، وطبقاً من هذا، حتى اذا كانت سبعة أطباق ألبسها لباساً من نار، فمن ثم كانت أشدّ حرارة، وخلق القمر من نور النار، وصفو الماء، طبقاً من هذا وطبقاً من هذا، حتى صارت سبعة أطباق، وألبسها لباساً من ماء، فمن ثم صار القمر أبرد من الشمس"، (المناقب- ابن شهر آشوب-ج4/201).

و نُقل عن محمد بن مسلم، أحد أبرز تلاميذ الامام الباقر قوله: سألته عن ثلاثين ألف حديث.

كيف يكون العالِم؟

نسمع ونقرأ عن الجامعة التي شيّدها الامام الصادق، عليه السلام، وتطور العلوم في عهد، وظهور قامات علمية باهرة، إنما الفضل في كل هذا يعود الى عهد الامام الباقر الذي وضع حجر الاساس لهذه الجامعة، ورعى تلك القامات حين كانت براعم صغيرة مثل زرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، الى جانب شريحة كبيرة من الرواة والمحدثين، منهم؛ جابر الجعفي، وأبي حمزة الثمالي.

ومن أروع ما أتى به الامام الباقر في مشروعه الحضاري هذا تربية تلامذته على ثقافة السؤال، فكان يسألهم ثم يجيب بنفسه، ليحثّهم على طرح الاسئلة العقدية والفكرية والعلمية، فقد سألهم ذات مرة عن معنى "بما صبروا" في الآية الكريمة: {وجزاهم بما صبروا جنّة وحريرا}، فأجاب هو، عليه السلام: "بما صبروا على الفقر ومصائب الدنيا".

ونهى تلامذته عن الخوض في آيات الله بلا معرفة، وقال: "إياكم والخصومة، فانها تفسد القلب، وتورث النفاق، الذين يخوضون في آيات الله هم أصحاب الخصومات".

وعن الظروف المحيطة بالعالم يبين لنا الامام الباقر، عليه السلام، كيفية اتخاذ الاجراءات الاحترازية لتفادي أعين السلطة الجائرة باتباع منهج التقية بشكل مذهل، فقد جاءه ذات مرة جابر الحعفي فسأله الامام من أين أتيت؟ فقال: من أهل الكوفة، قال: ممّن؟ قال: من جُعف، قال الامام: ما أقدمك الى هنا؟ قال: طلب العلم، قال: ممّن؟ قال: منك، قال: اذا سألك أحد من أين أنت فقل من أهل المدينة، فقال للإمام: أيحلّ لي أن أكذب؟ قال: ليس هذا كذباً، فمن كان في مدينة فهو من أهلها حتى يخرج".

هذه تُعد صورة من صور الرعاية والاهتمام البالغين التي كان يوليها الامام الباقر، عليه السلام، لتلامذته الذين تحولوا فيما بعد الى علماء أفذاذ للأمة عاصروا من بعده الامام الصادق، عليه السلام، ولعل بهذا الاسلوب حفظ الامام العديد من هؤلاء من القمع الأموي ومطارداته لاتباعه، عليه السلام.

وبالرغم من خدمة جليّة قدمها الامام الباقر للأمة برفع شأنها أمام دولة الروم في عهد عبد الملك بن مروان في قصة ضرب السكة في البلاد الاسلامية بدلاً من بلاد الروم، وان تميّز، اضافة الى اسم النبي، وسورة التوحيد على الوجهين، بنقش اسم البلد والسنة التي تضرب فيه تلك الدراهم والدنانير فتكون اسلامية بدلاً من الرومية المسيحية، وكما أن الحاكم الأموي أعجب بهذه الفكرة وأخذ بها، فان ملك الروم هو الآخر أقر بذكاء الفكرة، مع كل هذا نشهد الغدر الأموي والجفاء لكل خير وعطاء مبذول للأمة، فقد كرر هشام بن عبد الملك، إحضار الامام الباقر الى الشام للمرة الثانية، ولكن هذه المرة مخفوراً دون أية رعاية لحرمته ولقرابته من رسول الله، وكعادته، وعادة جميع الحكام الأمويين، قال هشام للإمام في محضر حشد من المتزلفين و وعاظ السلاطين: يا محمد بن علي! لايزال الرجل منكم قد شقّ عصا المسلمين، ودعا الى نفسه، وزعن أنه الامام سفهاً وقلّة علم...! فأجابه الامام بما أخرسه وأجبره على نقله من المجلس الى الحبس، وهو سلاحهم الوحيد، فقال الامام للمغرر بهم ممن رددوا كلام هشام: "أيها الناس أين تذهبون؟ وأين يُراد بكم؟ بنا هدى الله أولكم، وبنا يختم آخركم، فان يكن لكم مُلك معجلاً، فان لنا ملكاً مؤجلاً، وليس بعد ملكنا ملك، لأنا أهل العاقبة، يقول الله عزوجل: {والعاقبة للمتقين}.

وخوفاً من أصداء كلمات الامام و آثار كشفه للحقائق، أمر به ليسجن هو عدد من اصحابه، ولكن السجن لم يمنع الامام من إطلاق الكلمات الصاعقة، فأمر هشام بأن يُردوا الى المدينة دون أن يسمح لهم بدخولها، ومنعت السلطات في المدينة الناس من الوصول اليهم بما يشبه الحصار الاقتصادي وسط الصحراء ليموتوا جوعاً وعطشاً على اعتاب مدينة رسول الله.

شكا اصحاب الامام شدة العطش، فصعد الامام جبلاً مشرفاً على المدينة، وصاح بأعلى صوته: يا أهل هذه المدينة الظالم أهلها، أنا بقية الله، يقول الله تعالى: {بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين}، وكان في المدينة شيخ عاقل، فقال: يا قوم هذه، والله، دعوة شعيب، والله لئن لم تخرجوا الى هذا الرجل بالأسواق، لتؤخذنّ من فوقكم ومن تحت أرجلكم، فبادروا وأخرجوا الى الباقر واصحابه الأسواق". (سيرة أهل البيت، تجليات الانسانية).

رغم أن الامام الباقر، عليه السلام، لم يكن يشكل خطراً مباشراً على الحكم الأموي، وكان همّه نشر علوم جدّه المصطفى، ورعاية الأمة في دينها وأخلاقها وثقافتها، فكان هذا في نظر هشام الأموي مصدر خطر ماحق على المنهج الموروث من آبائه ومن معاوية وممن سبقهم من المشركين الداعين ابداً الى الجهل والتضليل والخداع، فهل يصمد الظلام أمام ضياء شمعة صغيرة؟ لذا كان القرار الاخير دسّ السمّ الى الإمام الباقر ليقضي نحبه، ملبياً نداء ربه شهيداً وشاهداً على ظلم وانحراف الدولة الأموية، وايضاً صمت الأمة على هذا الظلم.

اضف تعليق