q
هناك تأثير كبير للأم على تنشئة أطفالها، فهؤلاء يفتحون عيونهم على سلوك الأم وطريقة كلامها وتعاملها معهم، ويراقبون بعفوية علاقة أمهم بأبيهم وطريقة نقاشهما ونبرة الحوار بينهما، فإن كانت متأزمة، كان ذلك سببا كافيا لتوتر الأطفال، وهو ما يحيل البيت كله إلى حلبة للتصادم...

بيتان متجاوران، متشابهان إلى حدٍّ ما في التصميم وعدد الغرف والمساحة، يأويان عائلتين كل منهما ستةُ أنفار، تدير هذين البيتين أختان، درجَ الأقاربُ والناس على تسمية إحداهما بالثرثارة، وتسمية الأخت الأخرى بالخرساء ليس لأنها لا تستطيع النطق بل لأن صوتها كان خفيضا هادئا لدرجة أنه غالبا ما يكون غير مسموع وكأنها لا تنطق حتى وإن نطقتْ.

هكذا هي، تعشقُ الصمت عشقا، وتفضّل الهدوء على كل شيء، ومَنْ عرفها جيدا، وصفها بالخرساء الحكيمة، هدوؤها غريب كما يقولون، وهذه الصفة التي تميزت بها انعكست على أطفالها الأربع، حتى زوجها الذي يملك صوتا جهوريا، تحوّل إلى النطق الهادئ بعد أن تزوج منها، هكذا هي صاحبة سطوة جميلة على عائلتها، زوجها وأطفالها تشبّهوا بها وصاروا مثلها ينطقون الكلمات وكأنهم لا صوت لهم، دون توتر ولا تصادم.

الأخت الثانية وصفها الأقارب والناس بـ الثرثارة، فهي صاحبة صوت يكاد لا يتحلى بنبرة خفيضة، فهي منذ الصباح مرورا بالظهيرة وحتى الليل صوتها مسموع قوي النبرة يميل إلى الصراخ حتى لو كان كلاما عاديّا، الصوت الهادئ بالنسبة لها غير معهود، ومن سوء الحظ أن أطفالها تأثروا بصراخها، حتى زوجها صاحب الصوت الهادئ المرن قبل الزواج، صار يشبه زوجته الثرثارة بصوتها وطريقة نطقها للكلمات، فتحوّل البيت كله إلى عاصفة من الكلام الصارخ.

تبدأ الثرثارة يومها بالصراخ على أطفالها كي يستيقظوا، وتنادي زوجها بصوتها الأجش العالي أن ينهض من فراشه ويترك الكسل، حتى جملة صباح الخير إذا نطقت بها (لأنها قلّما تبدأ يومها بصباح الخير)، فإن هذه الجملة تخرج من فمها كأنها شتيمة، لدرجة أن أطفالها اعتادوا هذا الصراخ الأجوف، وتعلموه، فصارت لغة التخاطب بينهما صراخ في صراخ وتوتر في توتر.

أهل المنطقة أو الحي عرفوا أن هذين البيتين المتجاورين تسكنهما أختان مختلفتان، إحداهما خرساء هادئة والأخرى ثرثارة هوجاء، فكان الناس حين يمرون بالقرب من البيتين، يلمسون الفارق بينهما، أحدهما يضج بالصراخ والصياح العالي، والآخر لا يُسمع فيه أي صوت وكأنه غير مسكون من بشر.

امرأة تسكن بالقرب من الأختين حاولت أن تفهم السبب في الاختلاف الكبير بين البيتين والعائلتين، وسألت نفسها: لماذا هذا الاختلاف الكبير بين العائلتين في السلوك والكلام، لماذا عائلة الخرساء هادئة تعيش حياتها بطريقة مطمئنة، فيما عائلة الثرثارة تعيش في فوضى ومشادات كلامية لا نهاية له؟

كانت هذه المرأة الجارة تقوم بزيارات متناوبة للعائلتين، إذ تربط بينها وبين الأختين علاقة قديمة، وقد خلصتْ بينها وبين نفسها إلى أن السبب الأساس يعود لربّة البيت (الأم) ووضعها النفسي وطبيعة سلوكها وأخلاقها وطريقة إدارتها للبيت وتربيتها لأطفالها.

فقد لاحظت هذه المرأة أن جارتها الثرثارة متوترة على الدوام لذلك تلجأ إلى الصراخ والشتم بل وحتى الضرب أحيانا، وهكذا اعتاد أطفالها الصراخ والتوتر النفسي، وانتقلت العدوى إليهم من أمهم، وصار العنف والخشونة والتصادم أسلوبا لحياتهم في المدرسة وفي الشارع وفي أي مكان يحتكّون فيه مع الأطفال الآخرين.

على العكس من ذلك تماما، لاحظت المرأة أن جارتها الخرساء كما يسمونها، هادئة متّزنة، طريقة تعاملها مع أطفالها يسودها التعاطف والتفاهم بعيدا عن التوتر والصراخ، حتى مع زوجها كانت حواراتها تتسم بالمحبة والتفاهم والوئام مما انعكس ذلك على الأطفال الذين اعتادوا الأجواء الهادئة والتعاون والاحترام، وقد انعكس ذلك على تربيتهم وطريقة تعاملهم مع أقرانهم في المدرسة وسواها.

هذا يعني أن طبيعة الإنسان سوف تنعكس على أجواء بيته، بل على أطفاله، فبسبب الاختلاف النفسي للأختين والتباين السلوكي والتوتر والهدوء، أدى ذلك إلى الاختلاف في تربيتهما لأطفالهما، ونشأ لهما بيتان مختلفان ومتناقضان في كل شيء، فصار لكل بيت أجواء مختلفة متناقضة، وصار لكل عائلة نمط حياة مختلف وإطار تربوي متناقض.

فالطفل الذي يعيش في أجواء الهدوء والمحبة والتعاون، لا يشبه الطفل الذي يعيش في أجواء التوتر والتصادم والصراخ، لذلك حتى القرابة في النسل والأهل لم تشفع للمرأة الثرثارة ولم تسعفها أو تساعدها في بناء عائلة منسجمة مزدهرة ناجحة لأسباب باتت معروفة للجميع، في حين تمكنت الأخت (الخرساء) بهدوئها ورزانتها وأسلوبها التربوي السلس من صنع عائلة ناجحة بكل المقاييس.

الخلاصة هناك تأثير كبير للأم على تنشئة أطفالها، فهؤلاء يفتحون عيونهم على سلوك الأم وطريقة كلامها وتعاملها معهم، ويراقبون بعفوية علاقة أمهم بأبيهم وطريقة نقاشهما ونبرة الحوار بينهما، فإن كانت متأزمة، كان ذلك سببا كافيا لتوتر الأطفال، وهو ما يحيل البيت كله إلى حلبة للتصادم، وعلى ذلك تتشكل شخصية الطفل، أما هدوء الأم وابتعادها عن التوتر والصراخ، فإنه كفيل بتوفير بيئة اجتماعية متميزة.

اضف تعليق