q
لقد ثبتت في ذلك الموقف كالطود الشامخ تاركة على تراب كربلاء آثار مسيرتها ومواقفها بين تلك الضحايا التي لا تزال حديث الاجيال ومثلا كريما لكل ثائر على الظالم والجور وللمرأة التي تعترضها الخطوب والشدائد خلال مسيرتها في هذه الحياة. لقد كان عويل النساء وصراخ الصبية وضجيج المنطقة...
بقلم: هاشم معروف الحسني، مقتبس من كتاب من وحي الثورة الحسينية

لقد تحدث الناس عن البطولات والأبطال من النساء والرجال المعروفين بالجرأة والشجاعة ومقارعة الفرسان في المعارك التي كانت المرأة تقف فيها إلى جانب الرجل وتؤدي دورها الكامل بنفس الروح والعزيمة التي كان الأبطال يخوضون المعارك فيها، وبلا شك فان اهل البيت: يأتون في الطليعة بين أبطال التاريخ، وان زينب ابنة علي وفاطمة تأتي في الطليعة بعد ابيها واخوتها كما يشهد لها تاريخها الحافل بكل انواع الطهر والفضيلة والجرأة والصبر في الشدائد.

وليس بغريب على تلك الذات العملاقة التي التقت فيها الأنوار الثلاثة: نور محمد وعلي وفاطمة ومن تلك الأنوار تكونت شخصيتها ان تجسد بمواقفها خصائص النبوة والامامة وأمها الزهراء التي امتازت بفضلها على نساء العالمين.

ان اللسان ليعجز وان اللغة على سعة مفرداتها لتضيق عن وصفها وعن التعبير عما ينطوي عليه الإنسان من الشعور نحو المرأة الكبيرة والقدوة العظيمة ابنة علي والزهراء التي عز نظيرها بين نساء العرب والمسلمين بعد أمها البتول سيدة نساء التي ابتسمت للموت حين بشرها به الرسول الامين في الساعات الاخيرة من حياته وقال لها: انت اول اهل بيتي لحوقا بي.

ان الالمام بحياة بطلة كربلاء في عهود الطفولة والصبا والامومة وكيف نشأت طفلة وشابة برعاية امها الزهراء وأبيها الوصي وفي بيت زوج كريم من كرام أحفاد ابي طالب، وبعد ان اصبحت أما لأسرة غذتها بتعاليم الإسلام وأخلاق امها وأبيها، وفي الوقت ذاته فان الحديث عن بطولاتها التي لا تزال حديث الاجيال والتي تجلت في رحلتها مع اخيها تاركة بيتها تحث الخطا خلفه في رحلته الى الشهادة لتعلم الرجال والنساء كيف يموتون في مملكة الجلادين يضع بين يدي القراء صورة كريمة عن ذلك الغرس الطيب وعن مراحل نموه حتى بلغ الى هذا المستوى من النضوج والقدرة على الثبات والصمود في وجه تلك الإحداث التي لا يقوى على تحملها احد من الناس.

ومهما كان الحال فلعلنا بعد هذا الفصل نتوقف لإعطاء فكرة كافية عن ذلك الغرس الطيب وكيف نما وتكامل نموه حتى بلغ أشده ونهض بأعباء المسؤولية العظمى وأدى دوره الكامل عندما وقعت تلك المأساة الكبرى التي حلت بالعلويين والطالبيين رجالاً ونساء على تراب كربلاء، وكيف استطاعت ان تتحمل تلك الصدمة وتقوم بدورها الكامل بالحكمة والصبر الجميل ذلك الدور الذي يمثل اسمى درجات البطولة وأغناها بالقيم والمثل العليا، لعلنا بعد هذه اللمحات عن مواقفها في كربلاء تتحدث في فضل مستقل عن مراحل حياتها التي أهلتها لتلك المواقف التي لا تزال حديث الاجيال.

لقد ثبتت في ذلك الموقف كالطود الشامخ تاركة على تراب كربلاء آثار مسيرتها ومواقفها بين تلك الضحايا التي لا تزال حديث الاجيال ومثلا كريما لكل ثائر على الظالم والجور وللمرأة التي تعترضها الخطوب والشدائد خلال مسيرتها في هذه الحياة.

لقد كان عويل النساء وصراخ الصبية وضجيج المنطقة كلها بالبكاء والنياحة كفيلا بأن يهد اقوى الاعصاب ويخرس أفصح الالسنة والخطباء ويقعد بأكبر الرجال ولو لم يكن يتصل بتلك الضحايا بنسب او سبب، فكيف بمن رأى ما حل بأهله وبنيه واخوته وأبناء اخوته وعمومته وأحس بثقل المسؤولية وجسامتها، ولكن ابنة علي ذلك الطود الاشم الذي كان أثبت من الجبال الرواسي في الشدائد كانت تجسد مواقف ابيها في كل موقف تتزلزل فيه أقدام الابطال وبقيت ليلة العاشر من المحرم ساهرة العين تجول بين خيام اخوتها وأصحابهم وتنتقل من خيمة الى خيمة وهم يستعدون لمقابلة ثلاثين الف مقاتل قد اجتمعوا لقتال اخيها وبنيه وأنصاره ورأت اخاها العباس جالساً بين اخوته وأحفاد ابي طالب وهو يقول لهم: اذا كان الصباح علينا ان تتقدم للمعركة قبل ان يتقدم اليها الانصار لان الحمل الثقيل لا ينهض به إلا اهله.

وفي طريقها الى خيام الانصار سمعت حبيب بن مظاهر يوصيهم بأن يتقدموا إلى المعركة حتى لا يرون هاشمياً مضرجاً بدمه، وسمعت الانصار يقولون: ستجدنا كما تريد وتحسب يا ابن مظاهر، فانطلقت نحو خيمة اخيها الحسين (عليه السلام) وهي تبتسم وقد غمرها السرور وطفا منه على وجهها اثر رد عليه لمحة من بهائه وصفائه ومضت تريد اخاها الحسين لتخبره بما رأت وسمعت من اخوتها والأنصار وما هي إلا خطوات حتى رأته مقبلاً فابتسمت له وتلقاها مرحباً وقال لها: منذ ان خرجنا من المدينة ما رأيتك مبتسمة ولا ضاحكة فما الذي رأيت، فقصت عليه ما سمعته من الهاشميين وأنصارهم وظلت العقيلة ليلتها تلك ساهرة العين تنتقل من خيمة الى خيمة ومن خباء الى خباء بين النساء والأطفال واخواتها حتى إذا اقبلت ضحوة النهار وسقط اكثر انصار اخيها ومن معه من بنيه واخوته وابناء عمه على ثرى الطف، ورجع الحسين للوداع الاخير وزينب على جانبه كالمذهولة قال لها: مهلا اخية لا تشقي عليّ جيباً ولا تخمشي عليّ وجهاً ولا تشمتي بنا الاعداء، وأوصاها بالنساء والاطفال، فقالت له: طب نفسا وقر عينا فانك ستجدني كما تحب ان شاء الله.

ولما سقط عن جواده صريعا اسرعت على مصرعه وصاحت تستغيث بجدها وأبيها وأوشكت الصرخة ان تنطلق من حشاها اللاهب عندما رأت رأسه مفصولا عن بدنه والسيوف والسهام قد عبثت بجسمه وقلبه ورأت اخوتها وبنيها وأبناء عمومتها من حوله كالأضاحي ومعها قافلة من النساء والاطفال وأمامها صفوف الاعداء تملأ صحراء كربلاء فرفعت يديها في تلك اللحظات الحاسمة نحو السماء لتند عن فمها عبقة من فيض النبوة والخلود تناجي ربها وتتضرع اليه قائلة: اللهم تقبل منا هذا القربان.

وهكذا كان على العقيلة ان تنفذ وصية اخيها وتثبت في وجه تلك الاهوال وأن تحمل قلبا كقلب ابيها في غمار جولاته وتقف كالطود الشامخ في وجه اولئك الذين وقفوا إلى جانب يزيد بن ميسون وجلاديه الممعنين في انتهاك الحرمات والمقدسات والذين باعوا ضمائرهم لاولئك الطغاة الجناة بأبخس الاثمان.

ويقطع الحادي الطريق من كربلاء إلى الكوفة والسبايا على اقتاب الجمال تتقدمهم رؤوس سبعين من الانصار وعشرين من أحفاد ابي طالب بينهم رأس الحسين سيد شباب اهل الجنة، وما ان أطل موكب السبايا والرؤوس ودنت طلائعه من مداخل الكوفة حتى ازدحم الناس في الطرقات ومن على المشارف والنساء على سطوح المنازل ولم يكن نبأ مصرع الحسين قد انتشر في جميع اوساط الكوفيين وأشرفت امرأة من على سطح بيتها فرأت نساء كالعاريات لولا أسمال من الثياب تقنعن بها فظنت المرأة انهن من سبايا الروم او الديلم وأرادت ان تستوثق لنفسها من الظن فطالما كانت ترى مواكب من سبايا الروم والترك تمر بالكوفة لم تر مثل ما رأت على هذا الموكب من الحزن واللوعة، ولم تر قبل اليوم اسرى مع تلك المواكب من الصبيان يشدون بالحبال على اقتاب الجمال كما رأت في هذا الموكب فأدنت المرأة رأسها من احدى السبايا وقالت لها: من أي الاسارى انتن؟ فردت عليها والالم يقطع أحشاءها: نحن اسارى آل بيت محمد رسول الله.

وما كادت المرأة تسمع قولها حتى خرجت مولولة معولة وكادت ان تسقط من على سطحها من هول الصدمة والتفتت إلى النساء اللواتي على سطوحهن وقالت: انهن نساء اهل البيت، فتعالى الصياح عند ذلك من كل جانب حتى ارتجت الكوفة بأهلها ولفت نواحيها صرخات متتالية كأنها العواصف في أرجائها والتف النسوة بالموكب يقذفن عليه الارز والمقانع ليتسترن بها بنات علي وفاطمة عن أعين الناس وغصت الطرقات بالنساء والرجال يبكون ويندبون فالتفتت ابنة علي وفاطمة اليهم ببصرها النافذ وقالت:

يا اهل الكوفة يا اهل الغدر والختل والمكر أتبكون فلا رفأت الدمعة ولا هدأت الرنة انما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً وهل فيكم إلا الصلف وملق الاماء وغمز الاعداء الاساء ما قدمت لكم انفسكم ان سخط الله عليكم وفي العذاب انتم خالدون فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها بعد ان قتلتم سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب اهل الجنة.

ويسير الموكب متخطياً تلك الحشود من الرجال والنساء إلى قصر الامارة ليضمها مجلس ابن مرجانة فتجلس متنكرة مطرقة يحف بها موكب النسوة في ذلك المجلس الذميم وهو ينظر اليها ببسمة الشامت المنتصر ويسأل من هذه المتنكرة فلا ترد عليه احتقاراً وازدراء لشأنه، وأعاد السؤال ثانيا وثالثاً فأجابته بعض امائها: هذه زينب ابنة علي، فانطلق عند ذلك بكلمات تنم عن لؤمه وحقده وخسته قائلا: الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم، فردت عليه غير هيابة لسلطانه ولا لجبروته قائلة: الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس انما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ثكلتك امك يا بن مرجانة.

فقال لها وقد استبد به الحقد والغضب: كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك؟ قالت: ما رأيت إلا جميلاً، اولئك قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم وتختصمون عنده وستعلم لمن الفلج ثكلتك امك يا بن مرجانة.

ويأبى له حقده وصلفه الا ان يتناول قضيباً كان الى جانبه ليضربها به، ولكن عمرو بن حريث احد جلاوزته نظر الى الوجوه قد تغيرت على ابن مرجانة وايقن ان عملاً من هذا النوع سيلهب المشاعر لا سيما وان النفوس قد اصبحت مشحونة بالحقد والكراهية ومهيأة للإنفجار بين الحين والآخر لما حل بالحسين وبنيه وأصحابه فحال بين ابن مرجانة وما اراد فرمى القضيب من يده وعاد يخاطبها بلغة الشامت الحاقد ويقول لها: لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعتاة المردة من اهل بيتك، فبكت عند ذلك وقالت: لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي واجتثثت اصلي فان يكن في ذلك شفاؤك فقد اشتفيت.

ثم يأتيه البريد بكتاب يزيد يأمره ان يحمل السبايا والرؤوس والاطفال الى قصر الخضراء في دمشق عاصمة الجلادين، ويسير الحداة بموكب السبايا الى حيث ابن ميسون في اعتساف وارهاق في الليل والنهار ليقطع موكب الرؤوس والسبايا مسافة ثلاثين يوما في عشرة ايام، ويضم العقيلة مجلس يزيد ورأس الحسين بن علي والزهراء بين يديه ينكث ثناياه بمخصرته ويتمثل بقول القائل:

ليـت اشيـاخـي ببـدر شهـدوا

جـزع الخـزرج من وقـع الاسل

لأهـلـوا واستهـلـوا فـرحـاً

ثـم قـالـوا يـا يزيـد لا تشـل

لـعبـت هـاشـم بالملـك فـلا

خبـر جـاء ولا وحـي نـزل

لست من خنـدق ان لـم أنتقـم

مـن بنـي احمـد مـا كان فعل

وكان على زينب وقد رأته بتلك الحالة فرحا مسروراً يتمثل بهذه الابيات التي تعبر عن حقده وتعصبه لجاهلية جده وأبيه ووثنيتهما ويعبث بثنايا ابي عبدالله الحسين بمخصرته ان تتكلم بين تلك الحشود المجتمعة في مجلسه لتحرق دنيا سروره وفرحه بكلماتها التي كانت أشد وقعا عليه من الصواعق ولتضع الكثيرين ممن كانوا يجهلون مكانة الاسرى ولا يعرفون عنهم شيئا في جو تلك الاحداث وافتتحت كلامها بعد حمد الله بقولها: أظننت يا يزيد حيث اخذت علينا أقطار الارض وآفاق السماء وأصبحنا نساق كما تساق الاسارى ان بنا على الله هوانا وبك عليه كرامة، ومضت في حديثها وأبصار تلك الحشود المحيطة بيزيد شاخصة اليها تذكرهم بمنطق ابيها ومواقفه بين المعسكرين في صفين حينما كان يخاطب معاوية وحزبه ويناشدهم الرجوع عن غيهم وضلالهم الى حظيرة الاسلام وعدالته السمحاء.

ومضت تقول: أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك اماءك وحرائرك وسوقك بنات رسول الله سبايا قد هتكت ستورهن وأبديت وجوههن تحدو اليهن الاعداء من بلد الى بلد ويستشرفهن اهل المناهل والمعاقل ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف وتتمنى حضور آباءك قائلا:

ليـت اشيـاخـي ببـدر شهـدوا

جـزع الخـزرج مـن وقع الاسل

لأهـلـوا واستهـلـوا فـرحـا

ثـم قالـوا يـا يزيـد لا تشل

منحنيا على ثنايا ابي عبدالله سيد شباب اهل الجنة تنكثها بمخصرتك وستردن وشيكا موردهم وتود انك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت، ومضت في خطابها توجه اليه اسوأ انواع التحقير والتقريع حتى سيطرت على المجلس بمنطقها وأسلوبها الرائع، وراح الناس يتهامسون ويتلاومون وبكى بعضهم لهول المصاب وجسامته، واستطردت العقيلة تقول: ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك اني لأستصغر قدرك توبيخك، ألا فالعجب العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء.

لقد دخلت زينب ابنة على وفاطمة الى عاصمة الجلادين برسالتها رافعة صوتها الى كل من لهم عهد مع اهل هذا البيت وكل من آمنوا برسالة محمد في عصر وجيل وأرض ووراءها قافلة من الاسرى وصفوف العداء من امامها تملأ الافق وتسد طريقها وكانت مسؤوليتها التاريخية الكبرى هي اكمال الرسالة واتمام المسيرة ولسانا لمن قطعت ألسنتهم سيوف الجلادين ودخلت مدينة الجريمة عاصمة القهر والبطش والتنكيل بالابرياء وهناك رفعت صوتها المدوي في أعماق التاريخ لتقول لابن ميسون مستخفة به بكل ما في الاستخفاف والاحتقار من معنى.

(ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك اني لاستصغر قدرك)

انها الدواهي التي لا تترك للإنسان رأيا ولا اختياراً وتسيطر على كل مشاعره وأحاسيسه هي التي فرضت عليّ ان أخاطبك يابن ميسون ويا ربيب الشرك والوثنية ولولا تلك الدواهي الجسام لما خاطبتك ولا يمكن لذكرك ان يمر في خاطري ولو بما هو فيك ما صلف وخسة ونزق ووحشية. هذا الذي تعنيه بطلة كربلاء بقولها لذلك الجبار الاحمق الذي تمنى حضور أشياخه من أمية ومشركي مكة ليشاهدوا رأس الحسين بين يديه وليشاطروه الفرح والسرور وهو ينكث ثناياه بمخصرته، هذا الذي كانت تعنيه من قولها ولئن جرت على الدواهي مخاطبتك وحضور مجلسك.

ان مأساة العقيلة ابنة علي والزهراء تشكل الشطر الثاني من مأساة اخيها الحسين فمن صبر لا يطيقه احد من الناس الى رعاية تلك القافلة من السبايا والايتام ونضال دون البقية الباقية من آل الرسول واحتجاج وخطب واستنكار لسحق القيم وكرامة الانسان ومحو الرسالة من الاذهان ومتابعة المسيرة التي قام بها اخوها الحسين وبهذا وذاك لقد ألبت المسلمين على الطغاة والظالمين وضعضعت كبرياء الحاكمين المستبدين وخلدت ذكرى تلك المعركة التي اقلقت آل أمية وغيرهم من الظلمة وفراعنة العصور وخطت هي واخوتها بأحرف من النور الوهاج الذي يبدد ظلمات الليل البهيم على تراب كربلاء وفي كل موقف وقفوه مع اولئك الجبابرة والجلادين.

(ان دولة الباطل ساعة ودولة الحق الى قيام الساعة)

لقد شاركت اخاها الحسين في جميع مواقفه من الظالمين ورجعت من كربلاء حاملة لرسالة ابيها وأخيها لتبلغها للأجيال من الرجال والنساء من الاجيال في كل ارض وزمان بالرغم من ضجيج الجلادين ووعيدهم وكانت القدوة التي تعلم الاجيال من سيرتها وبطولاتها معاني الرجولة. وتعلم النساء كيف يتخلصن من فتن الاغراءات الخبيثة التي تدلهم من حولهن ومن دهاليز الحضارة الجديدة التي تقتحم العصور بمفاتنها ومغرياتها لتستل منها اخلاقها ومعتقداتها وأعرافها.

فأين من زينب وأخوات زينب نساءنا وبناتنا الضائعات في تلك المتاهات ايمانا وعزيمة وصبراً في الشدائد والاهوال وتمسكا بالقيم وتعاليم الإسلام والاخلاق الكريمة الفاضلة.

وأين من الحسين وأنصاره من يدعون التشيع للحسين وأبيه وأبنائه، وقد باعوا انفسهم لمن يحملون روح يزيد ومعاوية بأبخس الاثمان كما باعها أسلافهم لمعاوية وأمثال معاوية من الحاكمين والجلادين من قبل.

ان الاحداث الجسام التي اعترضت حياة العقيلة ابنة علي والزهراء في معركة كربلاء وما تلاها من المواقف ألفتت اليها الانظار وجعلتها في طليعة الابطال ومن شركاء الحسين (عليه السلام) في جميع مواقفه من اولئك الطغاة، فتحدث عنها المؤرخون وأصحاب السير في مجاميعهم والكتاب المحدثون في مؤلفاتهم، وأشاد الخطباء بفضلها ومواقفها من على المنابر ونظم الكثير من الشعراء القصائد الرنانة في وصف احزانها وأشجانها وصبرها وثباتها ونذكر على سبيل المثال ما جاء في وصف حالتها من قصيدة لأحد شعراء الطف السيد محمد حسين الكشوان ; يقول فيها:

اهوت علـى جسم الحسين وقلبها

المصدوع كاد يذوب من حسراتها

وقعت عليـه تشم موضع نحـره

وعيـونهـا تنهـل فـي عبراتها

ترتاع من ضـرب السياط فتنثني

تدعـو سرايـا قـومها وحماتها

ايـن الحفـاظ وهـذه أشلاؤكـم

بقيـت ثـلاثاً فـي هجير فلاتها

ايـن الحفـاظ وهـذه فتيـاتكـم

حملت على الاقتاب بيـن عداتها

ومخـدرات مـن عقائـل احمد

هجمـت عليها الخيل فـي ابياتها

حملت برغم الدين وهـي ثواكـل

عبرى تـردد بـالشجى زفراتها

وله من قصيدة اخرى في وصفها عندما شاهدت اخاها صريعا على ثرى الطف وقد عبثت سيوف الاعداء ورماحهم بجسمه وأعضائه:

وهاتفة من جانب الخـدر ثـاكل

بدت وهي حسـرى تلطم الخد باليد

يـؤلمهـا قـرع السيـاط فتنثني

تـحن فيشجـي صوتهـا كل جلمد

وسيقت على عجف المطايا اسيرة

يطـاف بهـا فـي مشهد بعد مشهد

سـرت تنهاداهـا علـوج أميـة

فمـن ملحد تهـدي الى شـر ملحد

ورحم الله هاشم الكعبي الذي هيمن عليه الولاء لأهل البيت وانتقل به من عالمه ودنياه الى عالم الثواكل في كربلاء فشعر بشعورهن وأحس بأحاسيسهن حتى اصبح مثلهن ثاكلاً يندب وينوح بعبرات تحيي الثرى وزفرات تدع الرياض همودا فقال في وصف زينب وأخواتها بعد ان انجلت المعركة عن تلك المجزرة الرهيبة:

وثواكل في النوح تسعد مثلهـا

أرأيت ذا ثكـل يكـون سعيـداً

ناحت فلم تـر مثلهن نـوائحا

اذ لـيس مثـل فقيـدهـن فقيدا

لا العيس تحكيها اذا حنت ولا

الورقـاء تحسن عنـدها الترديداً

ان تنع اعطت كل قلب حسرة

او تـدع صدعت الجبـال الميدا

عبراتها تحي الثرى لو لم تكن

زفـراتهـا تـدع الرياض همودا

وغذت اسيرة خدرها ابنة فاطم

لـم تلق غيـر اسيرها مصفودا

تدعو بلهفة ثاكل لـعب الاسى

بفـؤاده حتـى انطـوى مفؤدا

تخفي الشجا جلداً فان غلب الاسى

ضعفت فأبدت شجوهـا المكمـودا

نادت فقطعت القلـوب بشجـوها

لكنمـا انتظـم البنيـان فـريـدا

انسان عينـي يـا حسيـن اخـي

يا املي وعقـد جمـاني المنضـودا

اضف تعليق