q
النفاق وهي المشكلة النفسية الخطيرة التي كانت تهدد المجتمع الاسلامي وماتزال، وقد كشف القرآن الكريم مواصفات هذه الفئة من المجتمع ليحذروهم ويميزوهم عن المؤمنين الحقيقيين، وأحد أسباب انتشار هذا الفيروس؛ الحنين الى الجاهلية، مما جعل أشخاصاً يحومون حول النبي، يصلون خلفه، ويؤدون الفرائض، بل واحياناً يشتركون...

"يكفينا كتاب الله"

بهذه الجملة الغامضة والمشبوهة ترك بعض من يُطلق عليهم "الصحابة"، رسول الله، وخاتم النبيين وأشرف الخلائق، وهو طريح الفراش في اللحظات الاخيرة من عمره الشريف، عندما تيقنوا بعزم النبي إعادة تنصيب أمير المؤمنين خليفة وحاكماً من بعده، وهذه المرة بشكل مكتوب وموثّق يبقى دليلاً دامغاً على مر التاريخ الى يوم القيامة، فبرز الطموح الى السلطة سريعاً ليحرف مسار التاريخ مهما كانت النتائج.

وجرى ما جرى بعد ذلك.

وهل كان ذلك الموقف هو الاخير الذي يطعن الأمة بالصميم؟

لقد تكرر الموقف بشكل مريع مرة ثانية، وفي لحظة مشابهة لما جرى بين النبي الأكرم و"أصحابه" فيما يسميه عبد الله بن عباس، بـ"رزية الخميس"، كناية عن موقفهم المخزي في عدم إطاعة نبيهم بطلب دواة وكتف ليس أكثر، فقد خرج أعيان المجتمع الكوفي من اجتماعات تداولية بخصوص الموقف النهائي من الامام الحسين، وكيفية التعامل معه، وهو يحثّ الخطى نحوهم، وهم يقولون: "يكفينا كتاب الله"، و اردفوا مقولة اخرى مغلوطة: "مالنا والدخول بين السلاطين"، كناية عن الازمة السياسية برمتها تدور –وفق تصوارتهم- على محور الحكم بين الامام الحسين المطالب "بحقّه السياسي" وفق معاهدة الصلح بين الامام الحسن ومعاوية، وبين يزيد المُصرّ على الزعامة الوراثية بعد أبيه معاوية.

يضيعون البوصلة ثم {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}

إن الذين خذلوا الامام الحسين، عليه السلام، من عِلية القوم، من فقهاء ووجهاء، فضلاً عن الهمج الرعاع من أهل الكوفة، حاولوا إيهام ابناء قومهم آنذاك، وايضاً؛ التاريخ بأنهم على حق، وأنهم بنصرتهم النظام الأموي إنما يفيدون الأمة في أمنها استقرارها وتلاحمها، لذا سيق الآلاف من أهل الكوفة صوب كربلاء لقتال الامام الحسين، ولسان حالهم ما قاله محمد بن الاشعث الكندي للإمام الحسين في ساحة المعركة خلال المواجهة الكلامية التي سبقت المواجهة العسكرية: "ألا تنزل على حكم بني عمّك فانهم لن يروك إلا ما تُحب"! وبذلك يصنعوا لانفسهم ولافراد الأمة بوصلة خاصة بهم عليها ملامح ايجابية، لكنها متجهة نحو نقطة الانحدار المريع.

فكيف حصل هذا الانحراف ولم يمض على غياب رسول الله عن الأمة فترة طويلة تاركاً للأمة الكم الهائل من الوصايا مما { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} في حق أهل بيته؟

عنصرين اساس –ربما من جملة عناصر- كانت السبب في أن يشقّ المتخاذلون طريقاً غير طريق الامام الحسين، وطريق الرسالة السماوية:

العنصر الأول: عبادة الذات

جرت الاشارة الى هذه النزعة النفسية في المقال السابق عندما رأينا كيف أن الاعتداد بالنفس وحبّ الأنا قفزت على سطح الواقع الاجتماعي والسياسي في الكوفة مُدلّة على وجود الجذور الجاهلية في النفوس رغم صحبة النبي في غزواته، ومسايرته في حياته، والاستماع منه لغزير القيم والمفاهيم الداخلة في عملية البناء الحضاري للمجتمع والامة.

كان من الصعب على شخص مثل عمر بن سعد التخلّي عن غنيمة أبيه –حسب تصوره- في بلاد فارس حيث كان سعد بن أبي وقاص احد قادة الجيش الاسلامي الفاتح، وهي نقطة الضعف التي استغلها الأمويون لإغرائه بقيادة الجيش لقتال الامام الحسين، وأنه سيحظى بولاية الري التي وصفها في ابياته المشهورة بـ "المُلك"، مع معرفته الكاملة بشخص الامام الحسين، ومنزلته في الاسلام.

وعلى شاكلة ابن سعد، كان سائر الناس المتجحفلين في صحراء كربلاء، ومن قبل أولئك، الذين خذلوا مسلم بن عقيل وهو على أعتاب اقتحام قصر الإمارة والقضاء على عبيد الله بن زياد، عندما تملكهم الخوف والجُبن من شائعات أموية بجيش الشام القاسي والفتاك اذا واصلوا نصرة مسلم.

القلّة القليلة ممن خرجت من شرنقة الذات الى رحاب المسؤولية والتضحية من أجل القيم والمبادئ، فقد رضيت تلك الألوف المؤلفة بشكل غريب، التضحية بنفسها من أجل ذاتها! وإرضاء رغبات نفسية تدعو الى السلامة بينما يرون بأمّ اعينهم أن ابن بنت رسول الله يفتقد لظروف السلامة أمام السيوف والرماح والنبال.

هذه الشرنقة ليست فقاعة انفجرت وتلاشت قبل اربعة عشر قرناً، بقدر ما هي نتاج مستمر على مر الزمن لتفاعلات النفس البشرية التي تقرر وجودها من عدمه للانسان بغض النظر عن الظروف الزمانية والمكانية، فالذي لا يفكر في إطار المجموع بعيداً عن مصير المجتمع والأمة فانه خلق لنفسه شرنقة الأنا دون أن يعلم، ثم يواكبه جهله هذا مع مواقفه وافكاره وأحكامه في الحياة إزاء قضايا مختلفة، وربما يكون يوماً ما في مواقف حاسمة ومصيرية لها تأثير على محيطه الاجتماعي، فيتخذ قراراً او حكماً ما وهو يعد نفسه محسناً ومصلحاً ومفيداً للناس!

العنصر الثاني: النفاق

وهي المشكلة النفسية الخطيرة التي كانت تهدد المجتمع الاسلامي وماتزال، وقد كشف القرآن الكريم مواصفات هذه الفئة من المجتمع ليحذروهم ويميزوهم عن المؤمنين الحقيقيين، وأحد أسباب انتشار هذا الفيروس؛ الحنين الى الجاهلية، مما جعل أشخاصاً يحومون حول النبي، يصلون خلفه، ويؤدون الفرائض، بل واحياناً يشتركون في الغزوات ويقاتلون بالطريقة التي تضمن حياتهم، ولكن قلوبهم كانت في عالم غير عالم الاسلام والقيم السماوية.

واذا كان عدد المنافقين محدوداً في عهد الرسول الأكرم، فانه أخذ بالتزايد بعد مرور اربعين عاماً من وفاته بسبب الانحرافات الحاصلة في تطبيق أحكام الدين، وفي التنكّر للقيم والمبادئ، الى درجة أن بات النفاق أمراً مستساغاً في المجتمع الاسلامي، فالذين كانوا يتحكمون بأموال المسلمين ومصائرهم في عهد عثمان، كانوا يظهرون الايمان ويضمرون الكفر لتحقيق مصالحهم بسهولة، وعلى هذا النهج سار عامة الناس.

هذه الثغرة استغلها الأمويون بأبشع ما يكون عندما فرضوا قراراتهم على الامة المصابة بهشاشة الإيمان وفقدان البوصلة، فقد حصل الانفصام التام بين الايمان والعمل، فصار من السهل على شخص مثل عبيد الله بن زياد أن يسوق الآلاف من أهل الكوفة الى مصير كارثي تحت عناوين دينية، وأن ما يقومون به طاعة "لأمير المؤمنين".

لذا يمكن القول إن ما أكنّه أهل الكوفة في قلوبهم من الحب للإمام الحسين، كما عبّر عنه الفرزدق، لم يكن حبّاً صادقاً وحقيقياً بقدر ما كان حبّاً كاذباً يعكس إحدى صفات النفاق، إنما الحبّ الحقيقي كان في قلب شخص مثل الحر الرياحي من أول لحظة التقى فيها بالإمام الحسين، عليه السلام، في ذلك الموقف التاريخي المشهور والمعروف لدى الكثير.

لقد ورث هؤلاء من آبائهم دلالات المقولة : "حسبنا كتاب الله" التي أطلقوها في حضور النبي الأكرم، فهم يعلنون إيمانهم بالنبي الأكرم، وبالقرآن الكريم، ولكن من دون ترجمان للإسلام وللقرآن على الواقع العملي الذي هم جزء منه، مما يجعلهم على المحك فتظهر حسيكة النفاق فيهم، وقد بيّن هذه الحقيقة أمير المؤمنين في حرب صفين عندما حذر المغرر بهم من افراد جيشه بأن ما يرونه "قرآن صامت وأنا القرآن الناطق".

بمعنى أن مشكلة اصحاب هذه المقولة لم تكن مع أمير المؤمنين، ولا مع الامام الحسين، وإنما كانت مع شخص رسول الله وما جاء به من عند الله –تعالى- فكان من الصعب على البعض القبول بكل تلك الاحكام والتعاليم والقيم التي جسدها أهل البيت، رغم مطابقتها للفطرة الانسانية، وما حققته من سعادة ورخاء لابناء تلك الحقبة، وهي كذلك الى يوم القيامة.

الهدية في عاشوراء قبل أن يقع السيف

الحصول على الهدية (البوصلة) مشروطٌ بالاسراع في اتخاذ القرار واختيار طريق الحق قبل فوات الأوان.

رب سائل؛ بأننا لسنا في ساحة المعركة بين الحق والباطل، فاذا لم نتبع الحق يعني أننا اصبحنا مع الباطل كما حصل مع أهل الكوفة.

نعم؛ هذا ما قاله مسلم بن عوسجة خلال كلمته لأهل الكوفة، فيمن خطب من اصحاب الامام الحسين رجاء تغيير موقفهم، فقال: "نحن وإياكم على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فاذا وقع السيف انقطعت العصمة".

فاذا كان السيف في معركة كربلاء الحد الفاصل بين الهدى والضلال، فان سيف الزمن البتّار أقوى وأمضى في حرمان صاحبه من البوصلة التي تنقذه من الضياع والانحراف، فمن يضمن يومه وساعته من الأجل الذي يحوم حوله، اذا قضى نحبه وهو يجهل الاسباب التي من اجلها ضحى الامام الحسين وابنائه واصحابه، وتحمّلت العيال والاطفال كل تلك الآلام في محنة السبي؟

قدم الامام الحسين، عليه السلام، خلال فترة وجوده في صحراء كربلاء أمام أهل الكوفة المتدافعين لقتاله، بل وللتاريخ والاجيال، كل ما من شأنه الاضاءة للطريق الحق، مع كشفه لزيف الباطل وما تلفعوا به من عناوين دينية، فهنيئاً لمن يحصل على هذه البوصلة ليكون مصداقاً لما يدعو به وهو يزور الامام الحسين، ثم يتوجه الى مراقد الاصحاب بالقول: "ياليتنا كنّا معكم فنفوز فوزاً عظيماً".

اضف تعليق