q
مشروع مترو بغداد اعلن عنه منذ اكثر من عقد من الزمان وكل ما نسمع عنه بين الحين والاخر هو ذهاب مسؤول ما في فرنسا لتوقيع عقد ما بخصوصه، الحكومات العراقية والدولة العراقية بشكل عام رفضت وترفض اداء اهم واجب لها وهو القضاء على الجريمة. والجريمة هنا تشمل الفساد...

في ايامي الاولى في نيويورك وامريكا ادهشني مترو نيويورك لاسباب متعددة. فهو احد اقدم شبكات المترو في العالم كما انه لا يتوقف – وان كانت حركته تقل – بعد منتصف الليل ويربط اغلب احياء نيويورك بالشبكة الى الحد الذي تنتفي فيه الحاجة الى السيارة.

لكن سبب دهشتي حينها كان شيئا اخر.

كنت اقيم في كوينز التي يربطها بمانهاتن عدد من القطارات احدهم القطار رقم 7. هذا القطار يعمل في اغلب خط سيره فوق الارض وليس تحت الارض وبنيت له سكة على جسر حديدي طويل يمتد من حي فلاشنغ وحتى مشارف مانهاتن.

ما لم افهمه حينها هو كيف سمح للناس بان يكونوا على تماس مع هذه السكة دون حاجز او دون وجود شرطة – يتنقل شرطيان احيانا داخل القطار لكن ليس دائما – لكي تمنع اي مزاح ثقيل او اي مشاجرة تؤدي الى رمي احد المارة من رصيف المحطة الى السكة؟ حقيقة لم ادرك حينها ذلك.

بعدها عملت في وظائف متعددة وكانت تسمح لي بالاطلاع على بيانات ملايين الامريكيين (ارقام الضمان الاجتماعي وارقام بطاقات الائتمان وحتى قاعدة بيانات لموظفي الحكومة). وحينها ايضا لم افهم كيف تثق الشركات (والنظام كله) بالبشر بحيث توفر لهم هذه المعلومات؟

شيء اخر ادهشني في ايامي الاولى هو تقديم زبائن المطاعم لبطاقات ائتمانهم المصرفية لنادلي المطاعم لكي تستخدم لدفع فواتير وجباتهم. وماذا لو سرق النادل الرقم واستخدمه لشراء سيارة مثلا؟

امر اخر هو قبول الكثير من الشركات وغيرها من الاعمال لما يقوله اي كان من انه ذو دخل محدود او انه كبير السن (تعرض كثير من الاعمال والمطاعم مثلا خصما لكبار السن او محدودي الدخل) دون تدقيق.

كما كنت اقضي وقتا غير قليل في المكتبة العامة لاطالع الكتب واستمتع بالنشاطات الثقافية المتنوعة فيها. وفي نيويورك للمكتبة العامة دور كبير في المجتمع - والحقيقة ان القاء كلمة في مكتبة نيويورك العامة يعد شرف كبير – تماما كما هو دور الفرقة الحزبية في عهد صدام او الجامع او مكتب السيد في عراقنا العظيم!

ما لفت نظري حينها ان احد لا يطلب تفتيش حقيبتي عندما اغادر المكتبة. ماذا لو قررت سرقة كتاب او مجموعة كتب؟

بعد اشهر قليلة ادركت السر في كل ذلك.

الامر باكمله يمكن اختصاره بكلمة واحدة: الثقة.

الثقة هي مفتاح سير الحياة. فالثقة بان الناس بشر راشدون سمحت لادارة مترو نيويورك بان لا تضع اي حاجز بين الركاب في رصيف الانتظار وسكة القطار.

والثقة بان الموظف – ما دام سجله يخلو من اي جريمة – اهل للثقة يمكن الشركات من اطلاعه على بيانات ملايين الامريكيين. يضاف الى ذلك اجراءات امان الكترونية فعالة تصل الى 10 كلمات مرور في 10 انظمة مختلفة مع مراقبة منتظمة للموظفين.

اما المصارف فهي تضع اجراءات مراقبة لعمليات استخدام بطاقات الائتمان وفي حالة ملاحظة اي استخدام (غريب) للبطاقة تعطل فورا.

والثقة بان الناس صادقون عموما تسمح للاعمال بتصديقهم عندما يقولون انهم كبار السن او محدودي الدخل.

اما المكتبة العامة وكل المتاجر ففيها كاميرات وفيها نظام يمسح رقم المنتج اثناء شرائه (او خلال استعارة الكتاب) وترصد الاجهزة الموضوعة في بوابات المتاجر اي سلعة او كتاب غير مسجل.

هذا لا يعني ان الناس في امريكا والغرب كلهم صادقون او اهل للثقة وان امريكا والغرب هي المدينة الفاضلة، ففي احد الايام مثلا دفعت امرأة شابا سيخيا يرتدي عمامة من الرصيف الى سكة القطار لتقتله بدوافع عنصرية ظنا منها انه مسلم! وهذه حادثة نادرة الحدوث، كما لا يندر ان تتم سرقة بيانات الناس لكن ما يندر هو استمرار السارق او عدم كشفه.

وانا شخصيا تعرضت بطاقتي في احد الايام لاستخدام من شخص ما في مدينة اخرى وعطل مصرف اميركا البطاقة فورا وعوضني عن خسارتي – وكانت مبلغا لا يتجاوز ال 100 دولار – وارسل لي استمارة لاملئها ان كنت راغبا بملاحقة الجاني قانونيا.

وفي احد الايام نسيت ان اسجل كتابا قبل استعارته فكشفني الجهاز في بوابة المكتبة العامة وطلبت من موظفة امن المكتبة ان اسجله – فهم يفترضون انك نسيت تسجيله خصوصا انهم يعرفونك ويعرفون انك من سكان الحي وتزور المكتبة يوميا.

اما الاعمال التي تمنح خصما لذوي الدخل المحدود فكلما زادت قيمة هذه الفائدة كلما زاد التدقيق. فعندما تقدم على التأمين الصحي الحكومي المجاني يتم التأكد لاسابيع من بياناتك وتبلغ ان الكذب للحصول على التأمين يعرضك لعقوبة السجن.

الخلاصة هي ان كل فعاليات الحياة والاقتصاد مبنية على الثقة وتوفر حسن النية والامان.

ما لا يفهمه المسؤول العراقي – وبالعودة الى عنوان هذا المقال – انه لغرض اقامة مترو في بغداد نحتاج الى ثقة بالنظام وبالناس (كل الناس مسؤولين ومواطنين) واجراءات امان وكل هذا غير متوفر.

مشروع مترو بغداد اعلن عنه منذ اكثر من عقد من الزمان وكل ما نسمع عنه بين الحين والاخر هو ذهاب مسؤول ما في فرنسا لتوقيع عقد ما بخصوصه.

الحكومات العراقية والدولة العراقية بشكل عام رفضت وترفض اداء اهم واجب لها وهو القضاء على الجريمة. والجريمة هنا تشمل الفساد وتشمل عمليات القتل وحيازة السلاح غير المشروع وتشكيل جماعات مسلحة.

فما دام الفاسدون يحكمون العراق وما دام القتلة وعصابات القتل تسرح وتمرح فلن يكون هناك مترو ولا استثمار ولا هم يحزنون، لان اساس كل ذلك هو الثقة والامان وكلاهما غير متوفران.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق