q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

الحرية والمصلحة

الحرية ليست منفصلة في حقائقها وتجلياتها المتعددة عن نظام الحقوق، سواء كانت هذه الحقوق خاصة أم عامة. وإنما هي متداخلة مع نظام الحقوق ولا يمكن أن يتم إنجاز الحرية في الواقع الاجتماعي، إلا بصيانة الحقوق. فحماية الحقوق وصيانتها هي بوابة إنجاز الحرية في الواقع الاجتماعي...

لعلنا لا نضيف شيئا حين القول: أن الدين الإسلامي بكل تشريعاته ونظمه، وبالرغم من تقريره للغيب، فإنه ذو سمة عقلانية، أي أنه جاء ليوافق منطق العقل الإنساني وأحكامه. لذلك لا نجد أن هناك حكم في الدائرة التشريعية للإسلام، لا ينسجم وحقائق العقل الإنساني. وعالم الغيب في المنظور الإسلامي، ليس نفيا أو تغييبا لعالم الشهود والعقل. وإنما بالنظر العقلي المستند على حقائق الوحي يتم اكتشاف بعض جوانب وأبعاد عالم الغيب.

وإن الحرية الإنسانية لا تنجز على الصعيد العملي، إلا على قاعدة توفير المصالح التي يسعد بها الإنسان ويحيا حياة كريمة، ودفع الأضرار التي تجلب إليه الشقاء والبعد على الجادة والحياة الكريمة. (لذا لا يمكن تصور الإنسان حرا في المفهوم الإسلامي، إلا منذ أن أصبح يعتقد أنه مكلف ومسؤول. ذلك، لأن معنى الحرية الذي نهض به التكليف قد غدا في أغوار النفس الإنسانية معتقدا، يمارسه على الوجه المرسوم له شرعا، امتثالا لأمر الله، وعن طواعية وكامل رضا، أو بعبارة أخرى، إن المسلم الحق لا يصدر عنه تصرف أو نشاط حيوي، مادي أو فكري أو وجداني، بمقتضى ما رسم له الشارع فيما خوطب به من تكاليف، إلا إذا كان يعتقد ابتداء، وفي قرارة نفسه، أنه مكلف به شرعا، لا بعامل الاستهواء، أو بتسليط الغرائز الدنيا الأولية السليقية التي تغري بالتصرف المطلق، طمعا في تحصيل الثمرات القريبة العاجلة، أو استجابة للعصبية، والهوى، وهو ما أشار إليه القرآن الكريم، وحذر منه، لفساد مآلاته على المجتمع البشري كله. بقوله تعالى [ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض].

وهذه الحرية ليست منفصلة في حقائقها وتجلياتها المتعددة عن نظام الحقوق، سواء كانت هذه الحقوق خاصة أم عامة. وإنما هي متداخلة مع نظام الحقوق ولا يمكن أن يتم إنجاز الحرية في الواقع الاجتماعي، إلا بصيانة الحقوق. فحماية الحقوق وصيانتها هي بوابة إنجاز الحرية في الواقع الاجتماعي. وبدون ذلك تبقى الحرية شعارات مجردة بعيدة عن حركة الإنسان الفرد والمجتمع.

"لذا ترى الإسلام قد أقام فلسفته التشريعية على أساس تضمين المعنى الإنساني والاجتماعي مفهوم الحرية، ضمانا كافيا للحيلولة دون الاعتساف في ممارستها، وناط بهذا المعنى مفهوم العدل، بأن جعل بينه وبين المشروعية تلازما، بحيث إذا انتفى المعنى الاجتماعي في التصرف الفردي، انتفت المشروعية وسقطت، ولاسيما عند تعارض الحرية الفردية مع المصلحة العامة، كما بينا، وهذا أصل مقطوع به، ومجمع عليه، تحقيقا للتوازن عملا وواقعا، ثم أقام الحق والحرية على أساس التكليف المؤيد بالعقيدة، ضمانا للتقيد بالمعنى الإنساني، لأنه يستند إلى أصل اعتقادي قبل أن يكون تدبيرا تشريعيا أو سياسيا محضا.

ومن هنا نشأت الوظيفة الاجتماعية للحق والحرية وهذه الوظيفة هي أساس التكافل الاجتماعي الملزم أو جهة التعاون واستخلص العلماء من هذا المبدأ العام الذي هو قوام الحريات والحقوق، ومؤداه أن حق غير المحافظ عليه شرعا وهو حق الله تعالى في كل حق فردي، بما يحقق من معنى الحق الاجتماعي في الإسلام. " (راجع الدكتور فتحي الدريني، دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر، ص 47).

وبما أن المصلحة العامة من الشروط التي تتوقف عليها قدرة الفرد وإمكانيته من تحقيق مصالحه الذاتية المباشرة. لذلك فإن صيانة المصالح العامة بكل مقتضياتها ومتطلباتها من صميم صيانة الإنسان لمصالحة الخاصة والذاتية. وبهذا تتضح العلاقة العميقة والوثيقة في آن، بين رعاية المصالح الذاتية ورعاية المصالح العامة. وإنه لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نصون مصالحنا الخاصة إلا بصيانة مصالحنا العامة. لأنه وببساطة شديدة لا تبقى مصالح خاصة على الصعيد الواقعي معتبرة، إذا تم التهاون والتضحية بالمصالح العامة.

ولعل هذا هو مؤدى المأثور التاريخي القائل (إن قوما ركبوا سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، وكان الذين في أسفلها، إذا أرادوا أن يستقوا، مروا على من فوقهم، فقال أحدهم: لو إنا خرقنا في نصيبنا خرقا، ولم نؤذ من فوقنا، فإن أخذوا على يديه نجا ونجوا، وإن تركوه، هلك وهلكوا جميعا).

من هنا نستطيع القول: أن حياة الإنسان وفق الرؤية الإسلامية ليست حقا أو ملكا خالصا له، بل هي مسيجة بحق الله تعالى وحق المجتمع، تنفيذا لأمانة التكليف، وتفسيرا لمعنى استخلافه في الأرض. ويقول تبارك وتعالى [ولا تقتلوا أنفسكم].

ولقد صاغ الفقهاء مجموعة من القواعد الفقهية التي تنظم وتحدد وتوازن العلاقة وأولوياتها بين المصالح الخاصة والعامة. ومن هذه القواعد، لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح، ويتحمل الضرر الخاص في سبيل دفع ضرر عام، والضرر الأشد يزال بالأخف.

وكل هذه الحقوق والحريات العامة، التي هي ضرورية لأمن واستقرار المجتمعات، بحاجة إلى ركائز وسياج مجتمعي وقيمي، يحمي الحقوق، ويعزز فرص الاستقرار في المجتمع. وهذه الركائز هي:

1- الوفاء بالعهود والمواثيق، لأن ذلك هو الذي يؤكد الثقة بين أفراد المجتمع ويحفظ لهم تماسكهم الاجتماعي.

2- المحافظة على الروابط الروحية والاجتماعية، فإنها تشد أواصر المجتمع وتجعله وحدة متماسكة بعيدة عن أي انقطاع وانفصام.

3- النزعة الإصلاحية التي تعمل على إصلاح ما فسد من حياة الناس، ومحاربة تجدد الفساد وانطلاقه في المجتمع سواء في ذلك فساد العقيدة، أو فساد السلوك والوجدان، وهذا هو سر الإيمان في حياة المؤمنين عندما ينطلق الإيمان في حياتهم ليقوي هذه الركائز. فهم يحفظون عهد الله في كل التزاماتهم ومواثيقهم في العقيدة والحياة، ويصلون ما أمر الله به أن يوصل في علاقة الإيمان والقرابة والجوار وغيرها، ويصلحون الفساد في الأرض).

وتتضح هذه الركائز من قول الباري عز وجل [الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون].

فالعلاقات الاجتماعية الداخلية القائمة على الوفاء بالعهود والمواثيق، والمزيد من أشكال التضامن وأطر التعاون، والحيوية والدينامية في ملاحقة الانحرافات وكل أشكال الفساد. هذه العلاقات هي القادرة على احتضان واستيعاب كل أسس الحرية وآفاق المشاركة في الحياة العامة. فالمجتمعات لا تصون حقوقها، ولا تنجز حريتها، إلا إذا كانت حية وحيوية، وتمتاز بعلاقات حسنة وإيجابية بين مختلف مكوناتها وتعبيراتها.

أما المجتمعات المفككة والمبعثرة في جهودها وطاقاتها، والخاملة تجاه حقوقها وحرياتها، فإنها مهما رفعت من شعارات لن تتمكن من القبض على كل أسباب عزتها وحريتها. لهذا فإننا مع كل المبادرات والخطوات التي تعزز وحدة المجتمع وتضامنه الداخلي، وضد كل نزعات التشظي والفرقة التي قد تصيب المجتمعات، وتضيع عليها فرص حقيقية ونوعية في مضمار التقدم والتطور. فالحقوق مهما كانت صريحة وواضحة، فإننا لن نحصل عليها إلا إذا وفرنا كل الأسباب الذاتية والموضوعية المؤدية إلى نيل الحقوق وكسب الحريات. وتوفير هذه الأسباب بكل مستوياتها، لا يمكن أن يتحقق دفعة واحدة،وإنما عبر عمليات التراكم والبناء المتواصل. ولعل من أهم المداخل لهذه المسألة،هي بناء قدرات المجتمع الذاتية في مختلف المجالات.

لهذا فقد جاء في الحديث الشريف عن رسول الله (ص) [هلاك أمتي في ترك العلم]. فالمجتمعات لا تبني قدراتها إلا بالعلم والمعرفة، لذلك وكما قال رسول الله (ص) [من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم، ومن أرادهما فعليه بالعلم]. ومن الضروري في إطار بناء المجتمع وتطوير قواه الذاتية، الاهتمام بالتخطيط والابتعاد عن كل أشكال العشوائية وردود الأفعال غير المحسوبة التي قد تضر باستراتيجية بناء قدرات المجتمع الذاتية.

ولا يمكننا أن نحدد معطيات الانطلاق وممكناته المعاصرة، بدون التعرف العميق على العالم والعصر الذي نعيش فيه. وذلك لأن تغييب الذات عن العصر، لا يفضي إلا إلى الغربة والانزواء في كهوف الهامشية. فمعرفة العصر شرط لممارسة الشهود [ لتكونوا شهداء على الناس]، ونصاب بالدهشة و الاستغراب من أولئك النفر الذين يوجدون لأنفسهم حواجز وهواجس تحول دون تواصلهم الفكري والمعرفي مع مستجدات الحياة وتطوراتها المتعددة.

بطبيعة الحال كثيرة هي العوامل والأسباب، التي تحول دون إحداث قفزة نوعية - تجديدية في الواقعين العربي والإسلامي. ولكن يبقى الجمود والحرفية واليباس المعرفي والفكري والمجتمعي، هي العائق الأساسي الذي يمنع التجديد ويحارب إرهاصاته ويقمع نواته الأولى، ويحتقر كل القوى التي تنادي به. فالجمود هو العائق الصلب، الذي يمنع كل تجديد، ويحول دون تواصل نوعي مع تطورات الحياة. وأي تجاوز لهذا العائق بمقداره يتحقق التجديد والتواصل.

وإن المشروعات الفكرية والثقافية، التي لا تعطي لهذا العائق أهمية، ولا تبلور لذاتها إستراتيجية مقاومته وطرده من النسيج المجتمعي العربي، هي في حقيقة الأمر تدق إسفينا في كل جهودها و منا شطها التجديدية والتواصلية. وذلك لأن مكونات الجمود، ستطل برأسها لمحاربة هذه الجهود، وفي أحسن الفروض سينقسم المجتمع إلى مجتمعين، مجتمع يدار بالمؤسسات التقليدية والعقلية المنطوية والجامدة والتي لا تفكر إلا في بقاء الأمور على حالها، والقسم الآخر يدار بالمؤسسات الحديثة وبالعقلية المعاصرة دون أن يكون هناك تفاعل خلاق بين هاتين العقليتين أو هاتين المؤسستين. واليباس والجمود في المحصلة الأخيرة، هما المسؤولان عن الحط من إمكانيات هذين النمطين. وبهذا الحط تتسع دوائر الانفصام والفجوة في داخل المجتمع بين هاتين العقليتين.

ولابد من القول هنا أن الجمود حينما يصيب مجتمعا، لا يبقى حبيس حقل أو مجال، وإنما يتسرب ويتمدد ويصبغ بصبغته كل المؤسسات والمجالات. وحتى المؤسسات الثقافية والعلمية تصاب بهذا الداء، ويبدأ ينخر في بنيانها وأدائها العلمي والثقافي فتنمو روح التقديس للآراء والأفهام البشرية التي دونها السابقون، وتسود العناية بالمجالات اللفظية العقيمة على حساب الروح العلمية والموضوعية، وتتغلب نزعة الاشتغال بالفروض والاحتمالات البعيدة عن الواقع، ويتم الإعراض عن تنمية الفقه العملي الذي يحتاجه الناس في حياتهم الخاصة والعامة. وبهذا تتحول هذه المؤسسات من مركز إشعاع ومصدر للعلم والمعرفة المبدعة، إلى مؤسسة تغذي واقع اليباس والجمود، وتبرر أشكالهما، وتنزع إلى التقليد والإتباع في كل شيء.

وهذا يساهم في المحصلة النهائية في تصدع البنية الاجتماعية بين حديث وقديم، وما أشبه من العناوين التي تصنف البشر، وتوجد بينهم شروخا وانقسامات دائمة. وثمة ضرورة في هذا الإطار، لبيان حقيقة أساسية واجهت العديد من المجتمعات وهي: أن ضيقها من اليباس والجمود وآثارهما العميقة، قد أغراها بالانفلات من الذات الحضارية، والانطلاق في مشروع إدماج وتبعية مع الدول أو الحضارة الغالبة.

فالحرية لا يمكن أن تنجز وتتجسد في الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي، بدون إزالة العقبات النفسية والثقافية والسياسية التي تكرس كل القيم المضادة للحرية. ومصلحتنا الجوهرية والإستراتيجية كعرب ومسلمين، هو في انخراطنا في مشروع الديمقراطية ومأسسة حياتنا الثقافية والسياسية على مقتضيات الشورى والديمقراطية والتداول.

اضف تعليق