q
الفيروس حين ضرب الدول كافة لا يفرق بين نظام وآخر، بل الأنظمة هي من تعاملت معه كل حسب فلسفته السياسية وزاوية النظر المختلفة، لذا فأن الفرصة لم تذهب تماما، اذ لا تزال الفرصة سانحة للبدء في إصلاحات عامة تجسر الهوة الحاصلة على مدى سنوات والتأسيس لديمقراطية...

قرر بعض الأصدقاء الذهاب الى العاصمة بغداد بحثا عن المتعة واجواء الراحة بعيدا عن ظروف العمل المتعب طيلة أيام الأسبوع، وفعلا تم الذهاب الى أكثر المناطق متعة بوجود الاسر من طبقات مختلفة، فتجد الطفل يلعب كرة القدم مع ابويه وكذلك جده.

هذه الأجواء سرعان ما تتلاشى بسبب فرض ساعات محددة لحظر التجوال من قبل الجهات المعنية، اذ قامت دوريات الشرطة بالطلب من الأهالي مغادرة المكان، وكذلك من أصحاب المحال التجارية اغلاق محالهم، واطفاء المصابيح التي تزين واجهاتها، فتحولت المدينة النابضة بالحياة الى مدينة تخلو من المارة، وكأن جدرانها تندب حظها لماذا يحصل هكذا في العالم بسبب هذا الوباء اللعين.

السلطات الحكومية وفي بلدان عديدة وقعت بإحراج واضح مع أبناء شعبها، فمن ناحية تريد ان تؤمن لهم عدم الإصابة بالفيروس القاتل، وتفرض من اجل ذلك إجراءات احترازية صارمة الى درجة فرض الغرامات المالية على المخالفين، ومن ناحية أخرى فان هذه القرارات ضيقت على المواطنين وصادرت الكثير من حقوقهم.

وجائحة كورونا وضعت أنظمة حكم كثيرة في مأزق عدم التوازن بين حرية والافراد وصحتهم العامة، فأعداد الإصابات اخذت بالتزايد وسرعة انتشار العدوى، دفع بالحكومات منها العراقية الى عدم مراعاة حالات المجتمع المختلفة، مع علمهم بمخالفة هذه الإجراءات مبادئ الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان.

نعود لقول أحد الزملاء الذين ذهبوا الى بغداد وتم ذكرهم في بداية المقال، فيقول انهم اعتادوا على شراء بعض الأغراض من أطراف المدينة، لكن وبسبب الحظر تعرضوا لكلام غير لائق من أحد ضباط الدوريات المرابطة على الطريق، اذ تنم نبرته في الحديث عن عدم تحليه بأي قدر من الاخلاق والحنكة العسكرية.

هذه طريقة التعامل مع المواطنين تترك في النفوس أثر غير محمود، وتعمق الهوة بين الطبقات الشعب والأجهزة الأمنية، فهي تريد ان تحميهم، لكن تفتقر الى أساليب صحيحة في التعامل معهم، وبالتالي يتولد نوع من النفرة وعدم تقبل الأوامر وان كانت صحيحة وضرورية بمثل هذه الظروف العصيبة.

في العراق لا شيء يسير بصورة طبيعة، ولا تترك الحكومة أي اجراء دون الاستفادة منه، فقد وظفت قرار حظر التجوال وتعليمات منظمة الصحة العالمية، لصالحها بعيدا عن مصلحة المواطنين، على الرغم من تمتعها بحق دستوري يخولها فرض إجراءات صارمة بغرض حماية الصالح العام، حتى ولو كانت هذه الإجراءات تتصادم مع مبادئ الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان لكن هذه الإجراءات يجب أن تكون متناسبة مع حدة الأزمة، ومحدودة زمانيا بوقت الضرورة وأن تكون متوازنة دون تعسف.

وكشفت مجلة الإيكونيميست الناطقة باللغة الإنكليزية في تقريرها حول الديمقراطية الذي تم نشره في شهر شباط الماضي، أن وضع الديمقراطية وحقوق الإنسان في عام 2020 كان الأسوأ منذ عقود، اذ اتبعت السلطات أبشع الأساليب لقمع الاحتجاجات، وفرض حالة عدم التجوال لمنع التجمعات، بحجة الحفاظ على النظام القائم في البلد، والصحة العامة.

التعامل مع ملف الجائحة كان مختلفا باختلاف حجم المساحة الديمقراطية التي تتمتع بها الدولة، فقد تعاملت بعض الدول بشيء من المرونة، على سبيل المثال سمحت العديد من الدول الاوربية الخروج في الشوارع والأماكن العامة، كما نلاحظ أبواب المطاعم والكافيهات مفتوحة امام الأشخاص مع التأكيد على مبدأ السلامة العامة، بالرغم من هذه الدول اكتوت بنيران الفيروس أكثر من البلدان العربية والعراق على وجه التحديد.

فالنظام السلطوي في العراق كانت لديه الخشية من معرفة حجم الفساد الذي نهش النظام الصحي، فهو يعلم عدم جهوزية القطاع الصحي وقصوره بالتعامل مع الجائحة، لذا فضل اتباع أسلوب تكرار الحظر والإجراءات التقليدية، لتغطية حجم الهوة الصحية التي يمر بها البلد ومؤسساته الصحية.

دفعنا ولا نزال ندفع ضريبة زمن طويل من غياب الاهتمام بالقطاع الصحي، والالتهاء بسياسة القمع وكسب المصالح بعيدا عن العدالة، حيث سادت التفرقة وتغلغل الحرمان بين الطبقات، وما نعيشه اليوم هو انعكاس مؤكد للفترات المظلمة المرت والت نعيشها بوقتنا الحالي.

كثيرة هي الافرازات التي افرزتها ظهور جائحة كورونا، فقد شكلت نوعا من أنواع التحدي الجديد للنظام الديمقراطي، وجعلت الشكوك تحوم حول اتخاذ القرارات غير الصحيحة والتي لا تصب بمصلحة المواطن، وتبرهن عدم قدرة هذا النظام في التعامل مع المواقف الطارئة والاحداث المهمة.

الفيروس حين ضرب الدول كافة لا يفرق بين نظام وآخر، بل الأنظمة هي من تعاملت معه كل حسب فلسفته السياسية وزاوية النظر المختلفة، لذا فأن الفرصة لم تذهب تماما، اذ لا تزال الفرصة سانحة للبدء في إصلاحات عامة تجسر الهوة الحاصلة على مدى سنوات والتأسيس لديمقراطية فعلية متمكنة من التعامل مع الشعوب بمرونة وشفافية بقدر عزمها على التصدي للوباء والعبور بالمواطنين الى بر الأمان.

اضف تعليق