q
نشاهد الكثير من المتشائمين والناقمين على الوضع العام في العراق، لكننا نصطدم في مرات عدة بمواطنين يدافعون بشراسة عن مسؤول حكومي معين، وعن المشاريع التي يشرف على تنفيذها، يرفض هذا المواطن المحامي أي ملاحظة تجاه هذا المسؤول ويعتبر ذلك من الأخطاء التي لا تغتفر...

نشاهد الكثير من المتشائمين والناقمين على الوضع العام في العراق، لكننا نصطدم في مرات عدة بمواطنين يدافعون بشراسة عن مسؤول حكومي معين، وعن المشاريع التي يشرف على تنفيذها، يرفض هذا المواطن المحامي أي ملاحظة تجاه هذا المسؤول ويعتبر ذلك من الأخطاء التي لا تغتفر، تحت شعار "اتركوه يعمل أفضل من غيره" و"شعرة من جلد خنزير".

نعم هذا المواطن غير مقتنع بالعمل الذي يقوم به المسؤول الحكومي، ويعرف جيداً حجم الإخفاقات في أعماله، لكن تشاؤمه الشديد يدفعه لتبني خطاب التفاؤل.

المتفائل المتشائم هو ذلك الإنسان الذي يحتفل بكل إنجاز حكومي ويرفض انتقاد المسؤولين حتى عندما لا يكملون المشروع وفق المعايير العلمية، لأنه غير واثق من قدرة هؤلاء على تحقيق إنجاز غير هذا.

إنه متشائم من الوضع الراهن، وليس واثقاً من تحقيق الأفضل، لذلك يخاف على ضياع المنجز الذي بين يديه حتى وإن كان غير كامل.

خطابه شكلاً هو خطاب تفاؤل، لكن مقاييس هذا الخطاب ومرتكزاته هي مرتكزات غارقة في التشاؤم، ألم يكن هو ذاته الذي لا يؤمن بتحقيق إنجاز أفضل من الإنجاز الذي وقع بين يديه؟ اليس المتفائل بهذه الطريقة لا يؤمن بوجود مسؤول يستطيع أن يعمل أفضل من غيره.

الولادة

يولد هذا المتفائل في عالم فوضوي يفتقد للقواعد، القوة هي التي تدير العلاقات بين أفراد المجتمع، والفساد هو السمة الغالبة للممارسات الإدارية، والتنظيم الحكومي في أدنى مستوياته، والوضع الاقتصادي يتراجع ولا ينمو.

تزدهر حالة الفشل الثمين، أي ذلك الفشل الذي يدفع المواطن إلى اليأس من تحسن أي شيء، ويتحول كل مشروع مهما كان بسيطاً إلى إنجاز عظيم يجب الاحتفال به، لأن أي منجز مستبعد في ظل حالة الفشل المتواصل في العراق.

يعرف المتفائل بعض هذه الحقائق أو كلها، كما يعرفها النقاد الذين يوصفون بالمتشائمين، وهم في الحقيقة (أي النقاد) محللون للواقع وطالبي تغيير ومواطنون يعرفون مخاطر الترقيع ويرفضونها ويفهمون فوائد الإنجاز المبني على أسس علمية رغم صعوبة تحقيقه لكنه يبقى أفضل وأكثر فائدة من الترقيع الذي يحتفل به المتفائلون تحت شعار "شعر من جلد خنزير".

المتفائل المتشائم لا يمتلك الطاقة الكاملة التي تجعله يقتنع بإمكانية تغيير الوضع نحو الأفضل، ويرى أن ما يتم استحصاله من منجزات حتى وإن كانت ناقصة وغير مكتملة، والجميع يعرف أنها غير مكتملة، أفضل بكثير من المطالبة بمشاريع رصينة وفق المعايير العلمية، لأن ذلك لا يتحقق إطلاقاً بحسب رأيه.

يعيش هذا المتفائل في عالم مظلم، لا يجد سبيلاً للخروج منه، سجّانه يقف خارج عالمه، يعطيه النور على دفعات، وكل دفعة واحدة تتباعد عن الأخرى حسب ما تقتضيه مصلحة السجّان المستبد.

يريد المستبد قطع أي أمل لخروج المواطن من ظلمته، يجعله يحتفل بأصغر فسحة تتيح له النور، يستفيد المستبد من حالة اليأس المستحكم لدى المواطنين وهو الذي يروج لفكرة التفاؤل التشاؤمي.

صحيح أن هذا النوع من التشاؤم فيه تصوير سلبي للمستبد، لكنه مفيد من ناحية خلق اليأس في النفوس بما يجعلها غير قادرة على التحرك لإزالة الحاكم واستبداله بحاكم جديد له الكفاءة الكاملة لإعادة بناء المهدم من البلاد.

قد تجادل صديقي القارئ الحاذق بأننا لا نملك حاكماً مستبداً في العراق، وهذا صحيح من الناحية الشكلية، فالعراق بلد تعددي قائم على التداول السلمي للسلطة، وفيه أحزاب سياسية تتناوب على تسنم كرسي الحكم متمثلاً برئاسة الوزراء، والكراسي الأخرى المتمثلة بالوزراء وما دونهم.

إلا أن المتحكم الفعلي بكل هذه العمليات هم مجموعة من المستبدين الذين لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، هم الذين يأمرون وينهون في القضايا المصيرية، ولهم حق النقض على كل شيء.

أعطيك مثالاً واحداً يعبر عما أقول، هل أن أعضاء البرلمان المنضوين تحت مظلة كتلة سياسية معينة لهم حرية القرار الفردي ولو في الجزئيات أم أن القرارات دائماً وأبداً بيد زعيم الكتلة الذي يتفاوض ويقرر وما على النواب إلا رفع الأيدي عن التصويت على قرار أو مشروع معين. والحال نفسه وأشد كثيراً عندما نتحدث عن الوزراء وما دون الوزراء الذين يخضعون بشكلٍ أكثر قسوة لزعيم الكتلة أو الحزب السياسي.

وهؤلاء الزعماء القلائل يصنعون التفاؤل التشاؤمي ويريدون من الناس أن يعيشوا في حالة من اليأس التام والذي يدفعم للاحتفال بكل منجز صغير، أما المواطن المعترض والمطالب بالبناء وفق الأسس العلمية فلا وجود له ويتعرض للقمع من قبل هذا النوع من المواطنين كمرحلة أولى، ثم القمع من الكيانات السياسية التي تنبزه بكلمة هنا وتعليق هناك وبما يخلق لديه مصدات ذاتية تدفعه للانزواء واختيار حياة العزلة.

اضف تعليق