q
كل العراقيين أو معظمهم يتذكرون جيدا ما حدث لهم في مثل هذه الأيام من سنة 2003، في هذه الأيام قبل 19 سنة تم إزاحة النظام الدكتاتوري الذي جثم فوق صدر العراق عقودا متعاقبة، ورافق هذه العقود قمع لا ينساه أحد، لدرجة أن القبضة الحديدية التي حُكِم بها العراق، لا تزال تداعياتها قائمة حتى الآن...

كل العراقيين أو معظمهم يتذكرون جيدا ما حدث لهم في مثل هذه الأيام من سنة 2003، في هذه الأيام قبل 19 سنة تم إزاحة النظام الدكتاتوري الذي جثم فوق صدر العراق عقودا متعاقبة، ورافق هذه العقود قمع لا ينساه أحد، لدرجة أن القبضة الحديدية التي حُكِم بها العراق، لا تزال تداعياتها قائمة حتى الآن لاسيما في الجانبين الاجتماعي والاقتصادي.

سوف نركز في كلمتنا هذه على ظاهرة الفساد في حقبتي الدكتاتورية والديمقراطية، فهناك أسباب مؤشَّرة تقف وراء هذه الظاهرة، لا يوجد شبه بين هذه الأسباب في العهدين السياسيين المتناقضين، فالفساد الدكتاتوري كان يحدث بسبب غياب الرقابة بشكل تام، وقدرة النظام ومعاونيه على الاستحواذ والتلاعب بموارد الدولة وحقوق الناس، من دون أن يتمكن المواطن من الاعتراض، أو إطلاق صوته المحتجّ أو المعارض.

التكميم والملاحقة والبطش للمواطن بالمرصاد، فيكتفي بالتفرج والصمت أو الهرب، وإذا لم يستطع ذلك فإن السجون سوف تفتح له أبوابها، لقد نخر الفساد الدولة العراقية بسبب دكتاتورية القرار والتصرف من قبل المسؤولين كافة، وكلما ارتفع المنصب زادت حصانة المسؤول وارتفع منسوب الفساد أكثر فأكثر، إلى أن وصل الحال بالجندي (على سبيل المثال) أن يستجدي أجرته من الناس كي يصل إلى وحدته.

ارتفاع منسوب الفساد

في العهد الديمقراطي لم يختفِ الفساد كثيرا، لكنه اتسع أكثر، ومن المفارقات الغريبة أن منسوبه قد ارتفع بشكل كبير، فالديمقراطية التي توقع منها العراقيون أن تنصفهم، عجزت عن ذلك، واصبحت مافيات الفساد منتشرة طولا وعرضا في البلاد، والمشكلة أصبحت أكثر تعقيدا حين تورطت أجهزة الدولة والحكومة ومؤسساتها في هذا الفساد المالي والإداري.

وكما هو معروف أن للفساد أجواء تناسبه، ينمو فيها وينتعش، وأهم هذه الاجواء الجهل وضعف القانون، وعدم الشعور بالآخر، فضلا عن انتعاش ظاهرة الاستحواذ في ظل انظمة سياسية جاهلة تنتج عن حاضنة جاهلة، لذلك فإن الفساد لا ينمو ولا يعيش إلا في دهاليز الظلام، كما هي العناكب التي تهرب من الضوء الى الزوايا المظلمة.

الفساد والجهل صنوان، لا يفارق أحدهما الآخر، فأينما وُجد الجهل والظلام، يوجد الفساد ويزدهر في الخفاء، حيث تتحرك فيه كل عناصر الشر التي تخشى العمل والتحرك تحت ضوء الشمس. وبانتعاش هذه الظاهرة والقبول بالفساد تحت حجج وتبريرات كثيرة، فلابد من شيوع الشفافية في حركة الانتاج بجميع أشكالها واصنافها ونوعياتها وانتماءاتها أيضا.

ومع وجود مفوضية النزاهة واستمرارية عملها إلا أنها لم تستطع أن تضع حدا للفساد، وقد تابعنا كثيرا من اللجان التي شكلها رؤساء وزراء ووزراء للحد من (الفساد الديمقراطي)، ولكن للأسف كان ضعف الأجهزة، وانتشار ثقافة التخادم والمصالح المتبادلة حال دون القضاء أو الحد من هذه الظاهرة التي حرمت العراقيين من التمتع بثرواتهم بعد إزاحة الدكتاتورية.

ما هي مسؤولية المواطن؟

لذلك لابد من البحث عن سبل وطرائق يشترك فيها الجميع للقضاء على ظاهرة الفساد، بمعنى يجب أن تكون جميع الانشطة الرسمية والاهلية الفردية والجمعية التي لا تدخل ضمن الاسرار الشخصية، تحت البصر والبصيرة، لكي نضمن تلاشي طبقات الظلام ونرى جميعا نتائج الحراك المجتمعي الرسمي وغيره، لكي نتجاوز حالات الفساد وشبكاته التي تجد في الجهل والتخلف والظلام مرتعا نموذجيا لازدهارها ونموها، والسؤال الأهم هنا، هل يمكن فعلا القضاء على هذه الظاهرة بعد أن باتت منتشرة كالسرطان في جسد الدولة؟

الجواب يأتي بين حين وآخر عن خبراء ومختصين أكدوا أن الحلول موجودة، لكنها صعبة التطبيق، بسبب الانتشار الهائل للفساد، ومشاركة جهات محسوبة على صناعة القرار في نشر هذا الفساد والعمل على ديمومته، واذا كان الربط بين الجهل والفساد مفهوما، وواضحا، فإن العمل على إبطال أسباب الجهل تُصبح ملزمة للجميع،

أي أن المواطن يجب أن يدرك حجم الخطر وعليه أن يعي المسؤولية الملقاة على عاتقه لمحاربة الفساد، وخلاف ذلك، فإن القبول بالجهل والظلام وبالفساد نفسه، يعني أمرا مقصودا، وهنا لابد أن تتحرك الجهات المعنية لاسيما الرسمية منها، للقضاء على الجهل والظلام، كتمهيد لابد منه للقضاء على الفساد، فليس مقبولا أن يتساوى الفساد في العهدان الدكتاتوري والديمقراطي، بل هنا من يؤكد أنه أصبح مشكلة صعبة الحل في الوقت الحالي.

إن المقارنة بين الفساد في الدكتاتورية والديمقراطية أمر مطروح على الطاولة لإيجاد الحلول، فليس من المعقول مرور عشرين عاما على عهد الدكتاتورية، ولا يزال العراقيون يعانون من مشكلة بل معضلة اسمها الفساد، والمشكلة الأكبر تكمن في فشل جميع الإجراءات لمواجهة هذه الظاهرة، كما أنها مؤذية ومؤلمة لأنها باتت تدمر حياة الناس وتسلب حقوقهم.

بالإضافة إلى أنها تغلق أبواب المستقبل، وتمنع البلد من إيجاد ركائز استراتيجية لبناء قاعدة انطلاق قوية للبناء الحاضر واستشراف المستقبل، إن الأجيال القادمة لها الحق في ثروات العراق اليوم، وأن الساسة وأصحاب القرار اليوم سوف يقاضيهم التاريخ والأجيال القادمة في حال لم يتمكنوا من الحفاظ بأمانة على حقوق القادمين.

وإذا كانت حقوق الحاضرين اليوم من العراقيين مهدّدة، فما بالكم بحقوق القادمين مستقبلا، الأمر يحتاج إلى وقفة جادة ومسؤولة لتحقيق قفزة كبيرة، توضّح لنا أن الديمقراطية تُنصف الحاضرين والقادمين وتختلف عن الدكتاتورية، وهذا يتطلب إجراءات شاملة حازمة دقيقة علمية وعملية من حيث التنفيذ الصارم.

اضف تعليق