q
من الصعب رؤية القوى السياسية العراقية ملتزمة بالدستور والقوانين، والمرحلة الحالية تتطلب العودة لأصل المشكلة المتمثلة بانتهاك حرمة القوانين والقواعد الملزمة للجميع، لو استطاعوا الالتزام بالقانون يمكننا توقع حل، أما غير ذلك من المبادرات الأخرى فهي مجرد نفخ في قربة مثقوبة...

بخطاب تلفزيوني من ست دقائق لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر انطفأت نيران المعركة الحامية في المنطقة الخضراء، بعد لحظات قليلة من الخطاب شاهدنا عبر شاشات التلفزيون حشود أنصار التيار الصدري يخرجون من المنطقة الحكومية يركبون الدراجات النارية والسيارات ومنهم من كان يسير على الأقدام، بينما حمل بعضهم الأسلحة أمام الكاميرات متفاخرين بالتزامهم بتوجيهات زعيمهم الصدر.

البهجة تعم العراق، والنشطاء يتسابقون للكتابة على صفحاتهم الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي، الإطار التنسيقي الشيعي يبرز بياناته الفارغة مجدداً، وهو الطرف الثاني في معادلة الصراع، القوات الأمنية تعلن رفع حظر التجوال، والحياة تعود رويداً رويداً إلى الشوارع.

انطوت صفحة القتال هذه المرة بساعات قليلة لكنها كانت ثقيلة جداً على جميع العراقيين، الضحايا 30 قتيلاً من الطرفين، والجرحى أكثر من 700، والصدر قد اعتبرهم في النار، وهذه قد تكون أول مرة نسمع تصريحاً بالحدة التي ظهرت بشأن الضحايا الذين عادة ما تعتبرهم الجهات الرسمية والسياسية "شهداء"، ويدرجون ضمن سجلات مؤسسة الشهداء، ففي تشرين 2019 على سبيل المثال اعتبر الضحايا من القوات الأمنية والمتظاهرين شهداء على حد سواء، أما الآن فالوضع مختلف ومتشدد تجاه من يشارك في أي احتراب.

المعركة حبست أنفاس بغداد لمدة 24 ساعة، كانت الأحداث تتصاعد بسرعة جنونية، بدأت بعض مواقع المنطقة الخضراء تسقط بيد المسلحين، القتال يشاهده الملايين بالبث المباشر، الحكومة غير فعالة، القذائف تتطاير فوق بعض المنازل وتسقط على بعضها الآخر، السفارات تحذر، والدول تدعو رعاياها إلى مغادرة العراق، وإيران تعلن منع دخول زوارها لأداء زيارة الأربعينية في كربلاء.

خلال ساعات المعركة الاهلية السريعة هذه، لم يكن هناك حظر تجوال في الشوارع فحسب، بل توقف الكثير من الناس عن النشر والتفاعل في مواقع التواصل، المواطنون يخافون أي تعليق قد يُساء فهمه فيتحول إلى حطب يغذي نار الحرب الاهلية، أما من كتبوا ونشروا فقد كانت منشوراتهم على شكل مناشدات لوقف القتال الذي بدأ ينزلق بشكل خطير وخطى متسارعة نحو التوسع.

سمع زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر بنداءات الاستغاثة الشعبية، رد بخطابه القصير، اعتذر من الشعب العراقي، أعلن إنهاء اعتصامات أتباعه، تبرأ ممن قُتِلَ أو شارك في القتال من الطرفين... كانت ست دقائق من الخطاب وكأنها مطفأة حريق عملاقة، لقد خمدت النيران.

تنفست بغداد الصعداء بعد ظهر الثلاثاء، الخيام رفعت، والتيار الصدري خرج من المنطقة الخضراء، والقوات الأمنية تعود للسيطرة على المؤسسات السيادية، السيارات عادت لتملأ الشوارع، ومواقع التواصل تعج بكلمات الشكر للسيد مقتدى الصدر على موقفه البطولي، وتحذر من العودة للقتال مستقبلاً.

وعلى الجانب الآخر يبادر الإطار التنسيقي لرفع خيام معتصميه شبه الفارغة وغير الفعالة قرب الجسر المعلق، وقادة الإطار يتسابقون لإصدار ردود الأفعال تجاه الأحداث المتسارعة والذاهبة نحو التهدئة المؤقتة.

ها نحن نعود إلى حيث كنا.

وكيف كانت الأجواء قبل الحرب الأهلية القصيرة؟

كانت الحياة السياسية في العراق عبارة عن صراع محموم حول السلطة وتأسيس الجماعات المسلحة خارج القانون، عدم احترام للدستور، انحياز واضح للقضاء، عدم الاستماع إلى مطالب الشعب، سحق للقوانين تحت أقدام الأحزاب والقوى الحاكمة.

الأحزاب الحاكمة لن تهتدي إلى سبيل العقل، ولن تكتفي بما حدث من انتهاك لحرمة الدم العراقي داخل المنطقة الخضراء، بل هي لا تستطيع أن تفكر.

القوى المسيطرة والمتنفذة لم تكن تنظر للأحداث الدامية بعين المواطن الخائف على بلده من الانهيار، بل تترصد المكاسب التي سوف تحصل عليها حينما تنتهي المعركة، لم يعولوا على انتهائها بهذه السرعة، وأرادوا سفك دم أكثر ومن ثم يشنون هجوماً عنيفاً على التيار الصدري والقضاء عليه.

إلى أين تذهب الأحداث؟

كما في السابق، تأجيل للأزمات وترحيل الحلول، هروب إلى الأمام، وترقيع جديد يضاف إلى الترقيعات الكثيرة السابقة.

لا يتوقع من القوى السياسية التي فشلت في إيجاد الحلول للقضايا والإشكاليات المفصلية طوال التسعة عشر عاماً السابقة أن تغير طريقة تعاطيها مع الأحداث، وكل ما يملكونه هو التأجيل والتشبث بالخطابات والشعارات الرنانة التي لا تحل مشكلة ولا توفر خدمة للبلد الذي نخرته الأزمات.

من الصعب رؤية القوى السياسية العراقية ملتزمة بالدستور والقوانين، والمرحلة الحالية تتطلب العودة لأصل المشكلة المتمثلة بانتهاك حرمة القوانين والقواعد الملزمة للجميع، لو استطاعوا الالتزام بالقانون يمكننا توقع حل، أما غير ذلك من المبادرات الأخرى فهي مجرد نفخ في قربة مثقوبة.

حتى وإن استطاعوا تشكيل حكومة جديدة، وأطلقوا عليها حكومة "خدمة وطنية"، سيفشلون بها، ولا يستطيعون تحقيق طموحات الشعب، إنهم لا يتعظون من تجارب الفشل، ولا يسمعون من غيرهم، وصراعهم سيبقى مستمراً وسنعود إلى أزمة جديدة أشد من أزمة حرب الخضراء القصيرة.

اضف تعليق