q
تتعدد مستويات الجدل والنقاش بين العراقيين وغير العراقيين بخصوص هوية الحكومة الجديدة، مقارنة بالحكومة السابقة، جدل الهوية هذا ليس ترفا كما قد يفترضه البعض، بل هو في صلب الصراع الدائر في العراق بين التيارات المختلفة، ودورها في الحكم وإدارة السلطات وتصميم السياسيات، وهو صراع لا يوفر مساحة من مساحات الوعي...

تتعدد مستويات الجدل والنقاش بين العراقيين وغير العراقيين بخصوص هوية الحكومة الجديدة، مقارنة بالحكومة السابقة، جدل الهوية هذا ليس ترفا كما قد يفترضه البعض، بل هو في صلب الصراع الدائر في العراق بين التيارات المختلفة، ودورها في الحكم وإدارة السلطات وتصميم السياسيات، وهو صراع لا يوفر مساحة من مساحات الوعي، ولا أداة من أدوات التعبئة الا وشملته، يمكن بسهولة رصد وتصنيف طبيعة التوجهات وقراءة مفردات الخطاب عبر صفحات وسائل التواصل ومنصات ومواقع النشر، وفي ثنايا الأبحاث والأوراق السياسية، التي تنشرها مراكز الأبحاث والدراسات، التي تعبر بجلاء عن فهم ما يجري في العراق.

لا تصنف الحكومات فـي الـعـراق عــادة من منهاجها وبرامجها، كونها تحكي عن توجهات فكرية تـؤثـر فــي الـسـيـاسـات، بــل بالهوية السياسية لرئيس الحكومة والقوى الداعمة له، أو المتحالفة والمشاركة في حكومته، ولا يتحدد تصنيف الحكومة مـن الانـتـمـاءات الحزبية لــلــوزراء الـكـرد والـسـنـة، رغــم أن مجموع مقاعدهم يقترب من نصف التشكيلة الحكومية.

إذ إن الغالب عليهم دائما هو التوجه القومي أو الليبرالي باستثناء المحسوبين على التيارات الاسلامية وهي مشاركات محدودة للغاية، التصنيف يتوجه تلقاء رئيس الحكومة وممثلي القوى الاسلامية الشيعية في الوزارة، فباستثناء ايـاد عـلاوي ومصطفى الكاظمي، والى أربعة رؤساء وزارة على الحكم، جميعهم

ينتمون إلى قوى الاسلام السياسي الشيعي، ولأن الفترة التي تلت عام 2003 شهدت صعود تلك القوى إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع ضمنت لها شرعية دستورية، افتقدت إلى الانجاز الكبير.

لذلك وصمت أوساط عديدة حكم الاسلاميين، بأنه فاشل نسبيا ان لم يكن فاشلا بشكل عام، لأنه بلا منجز كبير، ولأنه لم يحقق طموحات وتوقعات الجمهور بعد التغيير رغم الانفاق المالي الهائل، بل إن جماعات سياسية ليبرالية ويسارية وقومية تتهم قوى الاسـلام السياسي بانها مسؤولة عن انتشار الفساد وتغوله، وتتهمها بتوظيف الخطاب الديني لمآرب سياسية، حتى اتخمت الفضاء الاجتماعي بالطقوسية والممارسات الشكلانية دونما تدين وجداني، يكون مانعا من التعدي على القوانين والانظمة والمال العام والفساد بـانـواعـه وهــدر الـوقـت واذكـــاء المشاحنات والجرائم وضعف الانتاجية.

وقــد لخص شـعـار (بـاسـم الـديـن باگونا الـحـرامـيـة) ذروة الخطاب المــنــاوئ لقوى الإسلام السياسي، بل إن كثيرين حملوا هذه القوى مسؤولية تصاعد الضد النوعي المتطرف مـن قــوى الارهـــاب ذات الـتـوجـه السلفي، التي أحرقت البلاد بتفجيراتها واغتيالاتها وتدميرها للمجتمعات المحلية واقتصادياتها وسلامها الاجتماعي.

بعيد حركة الاحتجاجات التشرينية، ومجيء حكومة الكاظمي بطاقم من المستشارين ذوي توجهات علمانية واضحة، صنفت حكومته على أنها حكومة علمانية وقد أوحت هي نفسها بذلك وتعمدت هذا الايحاء لكسب الجمهور المناوئ المحتج على أداء (الإسلاميين)، وللحصول على الدعم الخارجي الرافض هو الآخر لحكومات الإسلام السياسي، كانت مهمة الحكومة الأولى إجـراء الانتخابات المبكرة وإدارة الاقتصاد المتداعي، بفعل فيروس كورونا وتداعياته، من ركود عالمي وانقطاع سلاسل التوريد، وتضخم كبير مع انهيار في اسعار البترول، الذي حرم الـعـراق من ريعه الوحيد، الــذي يملأ أفـواه الناس ويسكتهم عن التفكير الجدي بمشروع اصلاح حتمي للاقتصاد المريض، كان الفساد هـو المـانـع والعائق الكبير الــذي يحول دون الانجاز التنموي والخدماتي، وكان هذا التحدي يأخذ بتلابيب اي سلطة، ايا كانت توجهاتها وفـكـرهـا الـسـيـاسـي، غير أن هــذا الفساد صار لصيقا بحكومات (الاسلام السياسي)، ينسب اليها جذرا واستدامة وتصاعدا، وصار مجيء حكومة غير ذات توجه اسلاموي، يعني أنها ستحد من هـذا الفساد وتحجمه على الأقل لأنه وليد ثقافة وتوجه فكري وسياسي، يجعل الأيـديـولـوجـيـا فــوق الــدولــة والامــة والمصلحة الوطنية، هكذا كانت السردية الشائعة، بل كانت هناك آمال حقيقية معلقة على الـحـكـومـة، لتأتي بـانـجـاز لـم تــأت به سابقاتها، لا سيما في مجال مكافحة الفساد، غير أن الحكايات والقصص المتداولة في السنة الاخـيـرة من عمر حكومة (تصريف الاعمال) بددت الصورة نهائيا، وجاءت رسالة استقالة وزيـر المالية المخضرم، لتكشف أن الفساد في الـعـراق محمي، ومشرعن فعلا من قادة ورموز وزعماء قوى سياسية مختلفة

التوجهات والأيـديـولـوجـيـات، وأن مافيات الفساد وجماعات الضغط والمصالح ووسائلها السياسية والإعلامية، كانت من القوة والرسوخ مـا جعل صـاحـب مـشـروع الــورقــة البيضاء وإصــلاح الاقتصاد يقر بصعوبة مهمته، إن لم يكن فشلها، ومـا كـادت حكومة تصريف الاعمال تنهي أعمالها إلا والشارع العراقي يتداول قصصا عن امــوال ضائعة وسرقات سماها الشارع (سرقة القرن) المليارية، بتندر وسخرية وأسـى كبير، فالحكومة التي بدأت اعمالها بلجنة شهيرة لمكافحة الفساد، وملفات الفساد تثقل كاهلها وكاهل الحكومة الجديدة، التي ينتظر منها الجمهور صراحة وصدقا وشفافية، قد تضطرها إلى خيارين لا ثالث لهما، اما ترك ملفات الماضي ونفض اليد عنها وهذا مايعد تنصلا من المسؤولية.

لكنها مهمة خطيرة قد تعرقل عمل الحكومة ان لم تطح بها، أو التعاطي مع الملف بلا مجاملات أو خطوط حمر وتسمية الامور بأسمائها، وهذه مهمة شاقة وعسيرة هي الأخرى، لأنها ستدخل الحكومة في صراع مع بعض أطرافها التي طالما ورد اسمها في الاتهامات، لا شك أن هذه المهمة ستكون كاشفة عن قـدرة هذه الحكومة على التعامل مع التحديات من منظورات متعددة، لعل أهمها الكشف عن ارتباط الفساد بالقوى المعتاشة عليه، وهي تهمة وجريمة التصقت بقوى الإسـلام السياسي بأجيالها الجديدة وطريقتهم في ادارة الدولة والمال والسلطة.

بينما كشفت تجربة القوى العلمانية في السلطة انها هي الاخرى لم تثبت نظافة يد كما روجت عن نفسها، وأنها متورطة بشكل وآخر بملفات فساد كبيرة، إما بفشلها في الكشف عنها أو بتورط أشخاص معروفين فيها، ثمة من يتحدث عن مفارقات أخلاقية بين التيارات المؤدلجة فـي الـعـراق، ومـقـارنـات عـن فـتـرات حكمها وموقفها من المال والسلطة، الحصيلة العراقية لا تبشر بتفاوت واختلاف كبير، بل إن الفساد أحــرق الأيـديـولـوجـيـات والأحــــزاب، وفضح البناء الهش والانهيار الأخلاقي قبل التنظيمي والسياسي، الـعـراق دخــل فـي عهد حكومة جديدة، بهوية معروفة من القوى التي شكلتها، الامال معقودة في ان تنعطف بالبلاد نحو حقبة مختلفة عن سابقاتها، فهل تستطيع النهوض بمهمتها؟

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق