q
وجود التماثُل والتطابُق بين الكثير من الحضارات، والتماثل والتطابق لا يدعان مجالاً للصراع. خلاصة القول، أن صراع الحضارات ليس حتميةً من حتميات التاريخ، كما يعتقد البعض، على أعتبار ان الحضارات لا تتصارع، ولا تتصادم، وإنما تتفاعل، وتتلاقَح، وتتواصل، ويُكمل بعضها بعضاً، لأنها خلاصة الفكر البشري والإبداع الإنساني...

شهدت بغداد مؤخراً إنعقاد منتدى الحضارات العريقة، بنسخته السادسة، وبمشاركة تسع دول، تمثل أهم وأبرز الحضارات القديمة، ويأتي إنعقاد هذا المنتدى في الوقت الذي يشهد العالم فيه تحديات كبرى، وصراعات متعددة الأوجه، وعليه فإن تعزيز الحوار بين الحضارات هو ركيزة أساسية في تعزيز السلام العالمي، وتحقيق التنمية المُستدامة.

من هنا يمكن القول بأن فكرة الحوار بين الحضارات كان بمثابة رد فعل على مقولة الصدام الحتمي بين الحضارات. وقد شَغل مفهوم صراع أو صدام الحضارات بال الكثيرين من المحللين الاستراتيجيين والمهتمين بالشأن الدولي، وبمسألة العلاقات الدولية تحديداً. حيث طرح عدد من المفكرين الغربيين، خاصة الأمريكيين منهم، فكرة صراع الحضارات أو صدامها باعتبارها حتميةً، ويأتي صامويل هنتنغتون في مقدمة هؤلاء المفكرين، حيث أصدر في عام 1996 كتابه الشهير (صدام الحضارات وإعادة صنع النظام العالمي)، وكذلك فرانسيس فوكوياما الذي أصدر كتابه الشهير أيضاً (نهاية التاريخ). ان ما ذهب اليه هنتنغتون لم يأتي من فراغ، فقد أعتمد الكثير من النصوص التي جاء بها كتاب صراع الحضارات بناء على من سبقه من الباحثيين الذين تطرقوا الى هذا الموضوع من قريب أو بعيد.

ويأتي ارنولد توينبي في مقدمة هؤلاء، ففي العام 1947 ألقى توينبي محاضرة بعنوان ( الصراع بين الحضارات )، والتي تم تضمينها في كتابه ( الحضارة في الميزان ) ويمكن اعتبار هذه المحاضرة نصا ثمينا مرجعيا في الوقت الحالي، فقد أعتبر ان الحادثة الكبرى والأهم في القرن العشرين، والتي سيقف عندها المؤرخون كثيرا في القرون القادمة هي حادثة إصطدام الحضارة الغربية بسائر المجتمعات الأخرى القائمة في مجتمع واحد، وذلك عن طريق تحطيم التراث الاجتماعي الإقليمي للحضارات الأخرى عند إصطدامها بالتراث الأجتماعي الغربي، وان نوعية وافراد هذا التوحد الأجتماعي للعالم لا تكمن أو تتمثل في ميدان الفنون الصناعية والأقتصادية ولا في ميدان الحرب والسياسة وانما في ميدان الدين.

وفي هذا الصدد يؤكد، أن الديانات الأربع الكبرى ذات الرسالة العالمية التي تقوم اليوم في العالم، المسيحية، والأسلام، والهندوسية، والبوذية التي تسود في الشرق الأقصى، هي من الناحية التاريخية ثمرة الصراع الذي دار بين الحضارة اليونانية ــ الرومانية ونظيراتها المعاصرة . إذا ً ينظر توينبي الى تاريخ الحضارات على أنه صراع بين الحضارات، وان هذه الحضارات إنما تقوم على الدين كمعتقد رئيسي ومرجع أساسي في قيام الحضارة. بعد ذلك يأتي الأمريكي صموئيل هنتنغتون، وهو مدير معهد جون أولوين للدراسات الأستراتيجية في جامعة هارفرد، وقد أسند إليه ما بين عامي 1977 ــ 1978 مسؤولية قسم التحليل والأستشراق في مجلس الأمن القومي الأمريكي، ليصوغ نظريته في صراع الحضارات متلقفا خطى فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ .

أما ماذهب اليه هنتغتون في نظريته صدام الحضارات فهو يقول في ذلك، إن شعور الأنتماء الى حضارة معينة سوف يكون له شأن متزايد في المستقبل، وسوف يصوغ العالم الى حدٍ كبير التفاعل بين حضارات ست أو سبع هي الحضارات التالية، الحضارة الغربية، والحضارة الكونفوشيوسية، والحضارة اليابانية، والحضارة الأسلامية، والحضارة الأرثوذكسية، والحضارة اللاتينية ــ الامريكية، وربما الحضارة الأفريقية. والصراعات المهمة القادمة سوف تقوم على طول الخطوط الثقافية التي تفصل بين هذه الحضارات. ويرى هنتنغتون ان الفرق بين الحضارات هي فروق أساسية تتلخص في التاريخ، واللغة، والثقافة، والأهم الدين .

فالدين مركزي في العالم الحديث، وربما كان هو القوة المركزية التي تحرك الناس وتحشدهم، وهذه الفروق الثقافية ليست قابلة للتبديل او الحلول الوسط، ومع تحديد العلاقات المختلطة بمقياس ديني أو إثني فستنشأ تحالفات في صورة متزايدة تستغل الدين المشترك والهوية الحضارية المشتركة وبناء ً على ذلك سيحدث صدام الحضارات . وهناك رأي آخر يقول، إن وراء بروز ظاهرة صراع الحضارات أسبابا ً اجتماعية عائدة الى ان الهيمنة في داخل العولمة، وسيطرت الأستهلاك والتكنولوجيا أديا الى تفجير الاأختلافات والتمايزات والخصوصيات والهويات القومية والعرقية والدينية والثقافية، وأحتدام الصراع فيما بينها، مع بروز ظاهرة واحدية الحضارة، ومحاولة فرض السيطرة من قبل الحضارة الرأسمالية.

وهنا لا بد من التساؤل عن حقيقة هذا الصراع، وطبيعة منطلقاته، والتداعيات المتوقعة لهذا الصراع ؟.

حيث يعتقد الكثير من الباحثين الى ان القول بحتمية صراع الحضارات أو صدامها، يُجَافي سنة التاريخ ويتعارض مع طبيعة الحضارة، فالحضارة لا طابع عرقي لها، وهي لا ترتبط بجنس من الأجناس، ولا تنتمي إلى شعب من الشعوب، على الرغم من أن الحضارة قد تنسب إلى أمة من الأمم، أو إلى منطقة جغرافية من مناطق العالم على سبيل التعريف ليس إلاَّ، بخلاف الثقافة التي هي رمز للهوية، وعنوان على الذاتية، وتعبير عن الخصوصيات التي تتميز بها أمة من الأمم، أو يتفرّد بها شعب من الشعوب. وينطلق أصحاب هذه الرؤية من حقيقة تقول، ان الحضارة هي وعاءٌ لثقافات متنوعة، تعدّدت أصولها ومشاربها ومصادرها، فامتزجت وتلاقحت، فشكّلت خصائص الحضارة التي تعبر عن الروح الإنسانية في إشراقاتها وتجلياتها، وتعكس المبادئ العامة التي هي القاسم المشترك بين الروافد والمصادر والمشارب جميعاً. فالمعروف عن الحضارات الكبرى التي عرفها تاريخ البشرية تتفاوت فيما بينها في موقفها من المادية والروحية، فمنها ما يغلب عليه الجانب المادي، ومنها ما يغلب عليه الجانب الروحي، ومنها ما يسوده التوازنُ بينهما. فهي إذن، سلسلة متعاقبة من الحضارات التي تُخلي كل واحدة منها المجالَ لما سوف يتلوها من حضارة أخرى، مما جعل كثيراً من الباحثين في مجال دراسة الحضارات يذهبون إلى القول بوجود التماثُل والتطابُق بين الكثير من هذه الحضارات، والتماثل والتطابق لا يدعان مجالاً للصراع. خلاصة القول، أن صراع الحضارات ليس حتميةً من حتميات التاريخ، كما يعتقد البعض، على أعتبار ان الحضارات لا تتصارع، ولا تتصادم، وإنما تتفاعل، وتتلاقَح، وتتواصل، ويُكمل بعضها بعضاً، لأنها خلاصة الفكر البشري والإبداع الإنساني.

.............................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق