q
لقد ترتب على انتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي والمحسوبية في المجتمع إن شـغلت الوظائف العامة والمراكز الوظيفية العليا بأشخاص غير مؤهلين وغير كفوئين، ما أثر في انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات. وعليه فإن الفساد بجميع اشكاله وأنواعه هو نتيجة حتمية للفساد الأخلاقي، على اعتبار أن الفساد هو أحد الأعراض...

من المُسلمات التاريخية أن البلدان والأمم التي مـّـرت بظروف إستثنائية وانعطافات تاريخية حادة تحتاج إلى جهد استثنائي من قبل مواطنيها لتخطي تلك الظروف وإصلاح ما يمكن إصلاحه، ويمكن حصر هذا الجهد من خلال التلازم بين محورين أساسيين هما الكفاءة والإخلاص، فبدون هذا التلازم، لا يمكن الحديث عن نهوض متسارع أو تنمية شاملة تتطلبها المرحلة الاستثنائية، وأعتقد أن العراق كبلد في مقدمة تلك البلدان الذي كان استثنائياً في كل شيء، في تاريخه، وجغرافيته وحضارته، وحتى في أزماته.

وقد بلغت استثنائية هذا البلد أعلى مراحلها خلال العقود الأخيرة، نتيجةً لطبيعة النظام السياسي الإستثنائي، وكانت الحصيلة سلسلة من الحروب العبثية الداخلية منها والخارجية، وما تلاها من كوارث ومآسٍ قــَّل نظيرها في بلدان أخرى.

وقد نتج عن ذلك، بنية تحتية مدمرة، واقتصاد ريعي أحادي الجانب، وتحولات اجتماعية ونفسيَّة حادة. وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الركامات الثقيلة لا بد لها من جهود استثنائية حتى يتم رفعها عن كاهل هذه البلاد. وهذا الأمر بلا شك يحتاج إلى عمل متواصل ودؤوب يجمع بين الكفاءة والإخلاص.

وبالرغم من الحماسة الوطنية التي أبداها البعض من أبناء هذا البلد بعد عملية التغيير من الذين يمتلكون الكفاءة والإخلاص ولديهم القدرة والاستعداد لإدارة شؤون البلاد ومؤسسات الدولة في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ العراق، إلا أن هذه الحماسة ذهبت أدراج الرياح بفعل ظهور مجاميع من المافيات والكارتلات الفاسدة القديم منها والجديد، والتي عشعشت بين دوائر ومؤسسات الدولة، حتى أصبح لديها اليد الطولى على تلك الدوائر والمؤسسات.

في حين اندثر فيلق الكفوئين والمخلصين، وسط غلواء هؤلاء المفسدين من خلال تهميشهم ومحاصرتهم وعدم السماح لهم بأخذ دورهم الطبيعي والمفترض في تلك الدوائر. وكانت صيرورة هذا السلوك غير السوي وغير القانوني للفساد بجميع انواعه، فما موجود من فساد اداري ومالي هو بمثابة البذرة الخبيثة، التي نتجت عن زواج غير شرعي بين غياب الكفاءة وعدم الإخلاص، حتى بات يمثل مرض عضال وظاهرة خطيرة تقود إلى انهيار الدولة وتفكك المجتمع.

لقد ترتب على انتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي والمحسوبية في المجتمع إن شـغلت الوظائف العامة والمراكز الوظيفية العليا بأشخاص غير مؤهلين وغير كفوئين، ما أثر في انخفاض كفاءة الإدارة في تقديم الخدمات. وعليه فإن الفساد بجميع اشكاله وأنواعه هو نتيجة حتمية للفساد الأخلاقي، على اعتبار أن الفساد هو أحد الأعراض، التي ترمز إلى وجود خلل بنيوي في النسق الكلي للمجتمع، وبالتالي حدوث خلل في منظومة السلوك والتصرفات، التي تنتج عن تآكل قواعد الأخلاق والقيم لدى المفسدين.

ان أهم ما يمكن التأكيد عليه في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ العراق المعاصر هو البحث عن الأساليب والأطر العلمية والعملية المناسبة للتخلص من تلك السلوكيات الخاطئة، وإجراء عملية مراجعة شاملة للنظم الإدارية والقانونية بهدف استحداث تنظيمات ادارية جديدة، واصدار النظم القانونية واللوائح اللازمة لذلك. ومن تلك اللوائح والنظم هو البحث عن الإنسان المؤهل والمناسب لنضعه في المكان المناسب. لإننا مهما وضعنا من طاقات وإمكانات وتشريعات وقوانين وتسهيلات للعملية الاقتصادية والتنموية، إذا لم يكن على رأسها أو الذين يديرها مخلصون أكفاء لن تتحقق المطالب والأهداف.

إذن الإخلاص هو الذي يمكن أن يعطينا هذه الفرصة وبدونها ستكون الكفاءة بدون الإخلاص مزيداً من التخريب ومزيداً من التدمير، ومن الممكن تعويض النقص الحاصل بالكفاءة عن طريق المزيد من الإخلاص الممزوج بالحس الوطني، وقد تأتي الكفاءة لاحقا ً بفعل تراكم الخبرة والمثابرة، فالكفوء غير المخلص لا يحقق شيئاً إنما قد يخرب اكثر، وربما المخلص رغم قلة كفاءته قد يحقق اكثر من الكفوء غير المخلص، إذن لا بد أن نبحث عن صفات تجتمع كلها لتعطينا الشخص المسؤول في المكان المناسب.

ولعل أخطر ما يمكن خشيته في هذه المرحلة، هو ان يتم التعامل مع هذه المفاهيم الفاسدة كأمر واقع، وأن تتحول إلى بديهيات وأعراف اجتماعية يستوجب التأقلم والتعايش معها، وهذا ما تعمل عليه اليوم وتروج له أكثر من جهة، على اعتبار أن وجودها واستمرار بقائها ارتبط عضوياً مع وجود وبقاء تلك المفاهيم وما نتج عنها

من ظواهر غريبة وأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية تتباين في أشكالها وأحجامها. ان المعالجات الموضوعية لهذه الظواهر الشاذة تستوجب إعادة النظر بمنظومة القيم المجتمعية والسلوكيات المرفوضة قبل مراجعة النظم واللوائح القانونية النافذة. فما أحوجنا اليوم إلى العناصر النزيهة التي تعمل بنـَـفس وطني، وما أحوجنا إلى العناصر التي تجمع بين الكفاءة والإخلاص.

.............................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق