q
تسعى الدول المتقدمة إلى العناية بتشريعات اختيار موظفيها لضمان وصول أكفأ وافضل العناصر لشغل الوظائف العامة وخصوصاً الوظائف العليا، وقد لعبت الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية دوراً كبيراً في تحديد وسائل واساليب اختيار كبار الموظفين، كذلك تطورت اساليب اختيار موظفي الدولة تبعاً لطبيعة الأنظمة السياسية والمفاهيم الايدولوجية السائدة...

تسعى الدول المتقدمة إلى العناية بتشريعات اختيار موظفيها لضمان وصول أكفأ وافضل العناصر لشغل الوظائف العامة وخصوصاً الوظائف العليا، وقد لعبت الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية دوراً كبيراً في تحديد وسائل واساليب اختيار كبار الموظفين، كذلك تطورت اساليب اختيار موظفي الدولة تبعاً لطبيعة الأنظمة السياسية والمفاهيم الايدولوجية السائدة، ففي ظل الأنظمة (الثيوقراطية) كانت الوظائف منحة إلهية يتولى الملك توزيعها على من يراه.

وفي ظل الأنظمة الملكية المطلقة والاقطاعية كانت الوظيفة منحة من الحاكم فله تعيين وعزل ما يشاء من كبار الموظفين دون ضوابط أو قيود وكانت الوظائف تخضع لاعتبارات الولاء والقرابة، وهذا الاسلوب يعرف بنظام الاختيار الحر: وبموجب هذا النظام يتم توزيع الوظائف من قبل رجال الحكم او الادارة دون قيود أو ضوابط وقد برز هذا النظام في الولايات المتحدة الامريكية وكان يعرف بنظام الغنائم والاسلاب، الذي تم اقراره رسمياً من قبل الرئيس الامريكي السابع (جاكسون) عام 1832م، وبموجب هذا النظام فإن الحزب السياسي الفائز يوزع الوظائف والمناصب على اعضاءه واعوانه بدلاً من الموظفين السابقين الذين كانوا ينتمون للحزب الخاسر طبقاً لمبدأ الغنائم تمنح للظافر.

وبسبب عيوب هذا النظام تم العدول عنه الى مبدأ الكفاءة والاستحقاق، والذي أقر بموجب قانون (بندلتون) لأول مرة في الولايات المتحدة الامريكية عام 1883م الذي نص على إنشاء (مجلس الخدمة المدنية) واعتماد معيار الكفاءة لاسناد الوظائف العامة ومنها وظائف الخدمة المدنية، اما في فرنسا كانت الوظيفة العامة سلعة تباع وتشترى وتورث لأنها بمنزلة المُلك لشاغلها وامتياز مقصور على الطبقة البرجوازية القادرة على دفع الاموال.

مع تفشي الفساد والرشوة والمحسوبية، فتدهورت شؤون الوظيفة العامة، ومع وصول نابليون للسلطة اعتمد مبدأ الكفاءة في شغل الوظائف والترقية إلا أنه بانتهاء فترة حكم نابليون وعودة الملكية تم الاستيلاء على الوظائف وتقسيمها كغنائم، ولاحقاً تم اعتماد نظام طريقة المسابقة لتوظيف الاجدر والاكفأ حيث نصت المادة (18) من تشريع 1959 على اعتماد اسلوب المسابقة في اختيار الموظفين لشغل الوظائف العامة عن طريق إجراء الاختبارات (الامتحانات) للقبول ومن خلال مقارنة شهادات ومؤهلات المرشحين للتعيين.

وإضافة لطريقة المسابقة فإن هنالك طريقة التعيين المباشر وحسب تقدير الحكومة وتحديداً فيما يتعلق بشغل الوظائف العليا (كرؤساء الجامعات ومدراء الإدارات المركزية) أو حسب تقدير السلطة المحلية أو الاقليمية لشغل وظائف إدارة مرافق المحافظات أو الاقليم، إضافة لتطبيق اسلوب التعيين المباشر لبعض حالات المواطنين من ضحايا الحرب والمعاقين استثناءاً من مبدأ المساواة لأسباب اجتماعية دون دخول في مسابقة أو اختيار ويقتصر التعيين في مثل هذه الحالة على اشغال الوظائف الدنيا في المجموعة (C)?

وكذلك الحال في مصر حيث يجري التعيين بطريق المسابقة وشريطة اجتياز الامتحان لشغل الوظيفة العامة ما عدا شاغلي الوظائف العليا فيتم اختيارهم عن طريق الحكومة مباشرة، وظهر لاحقاً التعيين بنظام الانتخاب : وبموجب هذا النظام يجري تعيين الموظفين بالانتخاب من قبل غالبية الناخبين المعينين وهو اسلوب نادر في الوقت الحاضر كانتخاب العمد والمختارين واعضاء المجالس المحلية في بعض الدول.

وانتخاب القضاة في الولايات المتحدة الامريكية، يؤخذ على هذا النظام أنه لا يؤدي أي اختيار افضل المرشحين من ناحية الكفاءة والمؤهل الدراسي وإنما تخضع طريقة الاختيار لاعتبارات سياسية وشخصية ودعائية، كما أن المرشح يبقى أسير إرادة ناخبيه من الموظفين مما يؤثر على مكنة اتخاذ القرارات بشكل مستقل.

اما في العراق لم يحدد قانون الخدمة المدنية رقم (24) لسنة 1960المعدل إجراءات ومعايير لتعيين موظفي الخدمة المدنية واكتفى بايراد شروط التعيين في المواد (7) و(8) منه، وأمام سكوت المشرع أصدر مجلس قيادة الثورة (المنحل) تعليمات الخدمة المدنية بشأن تشكيل لجان للتعيين في ديوان كل وزارة برقم (119) لسنة 1979 والتي لا زالت نافذة لغاية الآن، وصدرت تعليمات التعيين على الدرجات الوظيفية الناتجة عن حركة الملاك رقم (4) لسنة 2018? الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (226) لسنة 2018? وبصدور قانون مجلس الخدمة الاتحادي رقم (4) لسنة 2009 ورد في البند (ثانياً) من المادة (9) منه الخاصة بمهام المجلس اختصاص المجلس بالتعيين أو إعادة التعيين في الخدمة العامة والترقية على أساس معايير المهنية والكفاءة إلاّ أن القانون لم يحدد هذه المعايير في صلب القانون ولم يصدر عن المجلس مدونات للمعايير الاساسية والفرعية على شكل ضوابط او مدونات للعمل.

في حين نجد أن بعض هيئات واجهزة الخدمة المدنية حددت معايير للعمل كالنزاهة والشفافية ومنع التحزب والعدالة والتمثيل والمساواة في تولي الوظائف العامة بين الجنسين وعدم التمييز بين المتقدمين لأي سبب، كما هو الحال في هيئة الخدمة المدنية في كندا، وهيئة التعيين في الخدمة المدنية في ايرلندا التي وضعت مبادئ اساسية للجدارة من خلال اصدار مدونة الممارسات التي تتضمن معايير النزاهة والاستقطاب والتعيين والتقييم والتدريب.

اما التعيين في الوظائف العليا نلاحظ ان القرار (1077) في 31/8/1981 لم يحدد شروط معينة لتعيين ذوي الدرجات الخاصة وهذا يتطلب تحديد شروط شخصية وموضوعية لشغل هذه الدرجات لخطورتها وإهميتها وإدخال معايير الكفاءة والجدارة والمساواة والعدالة والشفافية في اجراءات اختيار وشغل وظائف الدرجات الخاصة.

ويلاحظ صدور الكثير من قرارات مجلس الثورة (المنحل) تعالج أوضاع ذو الدرجات الخاصة مما ادى ذلك إلى كثرة التعديلات والتضخم التشريعي وتضارب بعض التشريعات ومثال ذلك قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم (1060) في 25/10/1976 الذي اعتبر وظيفة نائب رئيس لجنة (الطاقة الذرية) من وظائف الدرجات الخاصة، وقرار المجلس المذكور (114) في 29/4/1991 باستحداث منصب (رئيس ديوان مجلس الوزراء) في ملاك ديوان مجلس الوزراء ويكون بدرجة خاصة، وحالياً هذا المنصب لا وجود له.

إذ يتولى إدارة مكتب رئيس الوزراء موظف بدرجة وزير استناداً للمواد (28/أولاً) من النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم (2) لسنة 2019 ? وأيضاً على سبيل المثال قرار مجلس قيادة الثورة (المنحل) رقم (1350) في 29/11/1982 الذي حذف وظيفة (رئيس دائرة) في مركز وزارة الخارجية من وظائف الدرجات الخاصة الواردة في القرار (1077) لسنة 1981 ? ولعل هذا مادفع مجلس الوزراء كما اعلن مؤخراً لوضع (9) شروط لتولي الوظائف العليا وهي ( العمر، الشهادة، الخدمة، سلامة الموقف من هيئة المساءلة والعدالة، عدم ارتكابة جريمة مخلة بالشرف، المقابلة لاغراض التقييم)، والحقيقية ان وضع الشروط غير كافي ما لم يقابل هذه الشروط معايير موضوعية فالشهادة مثلاً يقابلها معيار الكفاءة والاختصاص، والخدمة مثلاً يقابلها معيار النزاهة والسمعة الحسنة والفاعلية والانجازات والحيدة وعدم الانتماء للاحزاب السياسية.

وبالرجوع الى الشروط المعلنة لشغل الوظائف العامة عن مجلس الوزراء لوحظ انها اغفلت اهم شرط لشغل الوظائف العليا الا وهو شرط (عدم التحزب) الذي نصت عليه معظم اجهزة الخدمة المدنية في العالم لان السماح بشغل هذه الوظائف من قبل متحزبين معناه الرجوع الى نظام الغنائم في اسناد الوظيفة العامة ولكون المرشح سيحظى بدعم حزبه وهذا من شانه ان يخل بالعدالة والمنافسة المشروعة لشغل الوظائف العليا، فضلاً عن كونه سيعكس ارادة حزبه على المنصب الذي يتولاه.

لذا ندعو مجلس الوزراء الموقر ومجلس الخدمة الاتحادي الى اجراء مراجعة تشريعية للقوانين التي تنظم عمل الوظائف العليا في العراق واجراء المقصلة التشريعية عليها والابقاء على المفيد والغاء غير المنسجم مع توجهات دستور 2005 وتوحيد شروط ومعايير شغل الوظائف العليا، كما ندعو الى تفعيل معيار الحيادية وعدم التحزب في شغل الوظائف العليا او الدنيا والاكتفاء بمنصب الوزير كمنصب سياسي ، اذ ان ادراج هذا الشرط ينسجم مع قرار المحكمة الاتحادية العليا بالعدد ( 89/اتحادية/ 2019) في 28/10/ 2019 الذي تضمن الغاء المحاصصة السياسية في شغل الوظائف العليا ومن الثابت ان قرارات المحكمة الاتحادية العليا ملزمة للسلطات كافة … والله الموفق.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق