q
ما الدور الذي يُمكِن أن تؤديه الأطعمة البحرية في تعزيز صحة الإنسان عند إدراجها في أنظمته الغذائية مستقبلًا؟ ظهرت دراسة نمذجة حديثة تتقصى الآثار المحتملة على جميع سكان العالم مع زيادة تناوُل الأطعمة البحرية بحلول عام 2030، لتقدم مفاتيح للبدء في الإجابة عن هذا السؤال...
بقلم: لوت لوريتزن

لا شك أن توفير الأطعمة الغنية بالقيمة الغذائية على نحو كاف ومستدام وكذلك تناوُلها، ضروريان لعلاج المشكلات الصحية العالمية الرئيسية مثل حالات نقص التَّغذية. وتُعَد الأطعمة البحرية، التي تشمل في هذا السياق الأسماك والمحار والثدييات البحرية، غنية بمغذيات دقيقة لازمة لمكافحة حالات نقص التغذية الأكثر شيوعًا (مثل نقص فيتامين "أ"، أو الحديد، أو فيتامين "ب12"، أو الكالسيوم). كذلك تُعد الأطعمة البحرية المصدر الرئيسي للأحماض الدهنية البحرية من نوع أوميجا 3، وهي أحماض لها العديد من التأثيرات المُعزِزة للصحة. وفي بحث نُشر مؤخرًا في دورية Nature، يستعرض الباحث كريستوفر دي جولدن وفريقه البحثي1 جهودًا بحثية طموحة تسلط الضوء على الأطعمة البحرية.

مشروع جولدن وفريقه البحثي هو جزء من مبادرة تهدف إلى تصميم أنظمة غذائية بحرية صحية ومُستدامة (انظر: go.nature.com/3tnulm8). فقد أجرى الفريق البحثي دراسات نمذجة، لتقييم الفوائد المُحتمَلة، التي قد تَنتج عن زيادة وفرة الأطعمة البحرية عالميًا، فيما يتعلق بالحد من حالات نقص المغذيات الدقيقة، وتعزيز صحة القلب والأوعية الدَّموية. ووضعوا نموذجًا يوضح احتمالية زيادة إنتاج المأكولات البحرية بحلول عام 2030، وذلك بالاستعانة بسيناريو افتراضي لوصول الإنتاج إلى حده الأقصى الذي تنبأت به منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو).

وخلصت محاكاة الفريق البحثي إلى احتمالية حدوث زيادة تبلغ نسبتها 8% في وفرة الأطعمة البحرية في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2030، بالرجوع إلى سيناريو يحاكي إنتاج الأطعمة البحرية في الوضع الراهن بناءً على التوجهات الحالية. وقد لا يكون هذا الرقم الافتراضي مثيرًا للاهتمام في حد ذاته، ولكن قيمته تكمن في أنه يطرح تقديرات جيدة تَخدَم كأساس لتحليلات الباحثين اللاحقة بشأن الفوائد الصحية. وهذه التحليلات معقَّدة للغاية، فهي تعتمد على البيانات المتاحة، وتنطوي على العديد من خطوات النمذجة المستنِدة إلى افتراضات لها تأثير مُحتمَل على النتائج.

وتجدر الإشارة إلى أنه يصعب الحصول على معلومات غذائية دقيقة، حتى بالاعتماد على الأساليب القياسية النموذجية المستخدَمة لتحديد الاستهلاك الغذائي للأفراد، فهذه الأساليب غير قابلة للتطبيق في دراسة عالمية. ومن ثَمَّ، كما هو الحال في الدراسات العالمية المماثلة، استعان جولدن وفريقه البحثي ببيانات وفرة الغذاء على مستوى الدول، وافترضوا مقدَّمًا وجود صلة وثيقة بين الإمداد الغذائي واستهلاكه في أوساط سكان هذه الدول. وقدَّر الباحثون إجمالي استهلاك الغذاء بتقصي النماذج التي تستخدمها منظمة الفاو ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لنمذجة إمدادات الغذاء بناءً على السعر والوفرة. ومن الواضح أن تقديرات الاستهلاك الغذائي المستنتجة بهذه الطريقة ستشوبها أوجه قصور من حيث الدقة. وقد تؤدي الافتراضات التي قامت عليها نمذجة الباحثين أيضًا إلى انحيازات في اتجاهات البيانات. فضلًا عن ذلك، قد تؤثر الاختلافات الثقافية بين الدول على الكيفية التي ستغير بها الزيادة المفترضة في إنتاج الأطعمة البحرية السلوكياتِ الغذائيةَ المستقبلية في شريحة سكانية محلية بعينها. كذلك قد لا يأكل الأشخاص في الدول الغنية بالضرورة المزيد من الأطعمة البحرية إذا زاد العرض منها، بالأخذ في الاعتبار أن الاستهلاك الحالي منخفض في العديد من الدول التي يتيسر فيها الحصول على الأطعمة البحرية.

كما من الصعب وضع افتراضات حول الأنماط المستقبلية لتصدير المأكولات البحرية واستيرادها. ومن واقع نتائج النمذجة، وجد الباحثون أن أكبر ثلاث دول مُصَدِّرة للمأكولات البحرية — وهي فيتنام والصين والنرويج — ستحقق زيادات كبيرة في إمداداتها المحلية من الأطعمة البحرية. وهذا غير منطقي، بالنظر إلى أنه من المتوقَّع أن الدول التي تصدر بالفعل غالبية إنتاجها ستعمل على توسيع أسواقَ صادراتها، بدلًا من زيادة إمدادها المحلي، في حال رفع مستوى إنتاج هذه الأطعمة. وهذا ينطبق بالأخص على دولة النرويج، التي يوجد بها بالفعل واحد من أعلى معدلات استهلاك الأطعمة البحرية المحلية في العالم2 لذا، من الضروري الأخذ بالاعتبار الافتراضات التي تضمنتها دراسات النمذجة التي تتألف من طبقات متعددة من التحليل، لا سيَّما الافتراضات العامة الخاصة بالدراسات العالمية، لأنها تؤثر على نتائج التحليلات اللاحقة.

وبمجرد تحديد معدل استهلاك الغذاء، سيكون من السهل نظريًا تقدير استهلاك العناصر الغذائية من خلال قاعدة بيانات تحتوي على معلومات حول استهلاك الفرد من الأطعمة. ومع ذلك، قد تشوب بعض أوجه القصور قواعد البيانات، وهذه المشكلة تبرز بالأخص في حال الأطعمة البحرية؛ بالنظر إلى تنوعها الكبير (شكل 1)، إذ لا يؤخذ منها في الاعتبار سوى نسبة ضئيلة. ولعلاج هذه المشكلة، تَولى جولدن وفريقه البحثي إنشاء قاعدة بيانات ضخمة للأطعمة البحرية، واستخدموها بالإضافة إلى قاعدة بيانات كبيرة للمكونات الغذائية، لتقدير الكمية المتوقع أن تُستهلك من المغذيات الدقيقة والأحماض الدهنية البحرية أوميجا 3، على النطاق العالمي مستقبلًا. وقد كانت عملية جمع المعلومات اللازمة لإنشاء قاعدة بيانات للأطعمة البحرية المتنوعة، بحيث تضم البيانات الكاملة عن 2143 نوعًا من المكونات الغذائية، مهمةً جسيمة. وتشير البيانات المؤكدة الخاصة بالباحثين إلى أنها كانت مجهودًا يستحق العناء، وأنها كانت إضافة قيمة للمجال. ومع ذلك، يتعذر التغاضي عن عدم إمكان تفسير بعض أنواع التباين في قياسات الاستهلاك الغذائي، منها على سبيل المثال، التباين الكبير في محتوى الدهون والأحماض الدهنية أوميجا 3 في الأسماك، مع اختلاف الوقت من العام، والموقع، والقطعية المستهلَكة من الأسماك.

وتشخيص حالات نقص المغذيات الدقيقة يصبح ممكنًا عن طريق تحليلات عينات الدَّم. كذلك فإن تحديد حالات النقص الحاد من هذه المغذيات يغدو ممكنًا من خلال رصد علامات جسدية معينة. ومن الجليّ أنه يستحيل جمع البيانات المتعلقة بهذه الحالات عبر دراسة سكانية عالمية. لذلك، قدّر جولدن وفريقه البحثي نِسب السكان المحليين ممن لديهم استهلاك غير كافٍ من المغذيات الدقيقة، كسبيل لتقييم إلى أي مدى يمكن للارتفاع المتوقَّع في استهلاك الأطعمة البحرية عالميًا أن يخفض عدد حالات نقص المغذيات الدقيقة. ومع ذلك، تعتمد احتياجات البشر إلى المغذيات الدقيقة على العُمر والجنس، كما تتباين بين الأفراد. لذلك، وضع الفريق البحثي نموذجًا لتوزيع متوسط استهلاك الفرد من المغذيات في كل بلد وفقًا للعُمر والجنس. بعد ذلك، وضعوا نموذجًا لمنحنيات توزيع استهلاك المغذيات الدقيقة في كل فئة عمرية وجنسية (على سبيل المثال، هذا التوزيع بين السيدات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 20 و30 عامًا)، لتقدير العدد المتوقَّع من الأفراد الذين يُعانون من نقص تلك المغذيات في كل مجموعة.

مع ذلك، لم تتَوفَّر للباحثين بيانات بخصوص التباين في الاستهلاك الغذائي حسب العُمر والجنس إلا من 13 دولة، واضطروا إلى الاستعانة بهذه البيانات في دول أخرى في المناطق الجغرافية نفسها للتَّوصُّل إلى تقديرات الفوائد المتوقعة. وقد يضيف هذا بعضًا من أوجه عدم اليقين ويضفي بعض التحيز في اتجاهات البيانات حول الفوائد الصحية المُتوقَّعة. إلا أن نتائج الفريق تشير إلى أن السيدات والأطفال، وهم الأكثر عُرضة لنقص المغذيات الدقيقة، يُتوقع أن يستفيدوا أكثر من غيرهم من ارتفاع معدلات استهلاك الأطعمة البحرية.

وبوجه عام، لا تشير النتائج التي تَوصَّل إليها جولدن وفريقه البحثي إلى وجود علاقة قوية بين حجم الزيادة المُتوقَّعة في إمدادات الأطعمة البحرية المحلية، والفوائد المُقدَّرة في كل دولة على حدة. على سبيل المثال، يبدو أن إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والأجزاء الجنوبية من آسيا، وهي المناطق التي تؤوي أعلى مُعدَّل انتشار عالمي لحالات نقص المغذيات الدقيقة3، ستشهد انخفاضًا واضحًا في نقص فيتامين "ب12" والزنك، بشكل أساسي، حتى مع الزيادات المتواضعة نسبيًا في إمداداتها من الأطعمة البحرية.

من ناحية أخرى، ترتبط الفوائد المُقَدَّرة للكالسيوم إلى حد بعيد بزيادة الإمداد. وهذه النتيجة مُحَيِّرة لأن أعلى الفوائد المُقدَّرة لزيادة تناول الكالسيوم تقع في دول مثل النرويج والصين، حيث تُعد حاليًا احتمالية التعرُّض لخطر حدوث نقص الكالسيوم منخفضة.

وكما هو متوقع، لاحظ الباحثون بعض أوجه الارتباط بين الزيادة المُقدَّرة في المعروض من الأطعمة البحرية والفوائد الصحية التي تحققها الأحماض الدهنية البحرية أوميجا 3 في كل من أمريكا الجنوبية، وإفريقيا، والشرق الأوسط، وأوروبا. ومع ذلك، لم تكن هناك فوائد مُتوقَّعة تحققها الأحماض الدهنية البحرية أوميجا 3 في سيناريوهات الفريق الافتراضية النموذجية لغالبية دول آسيا، ولأكبر ثلاثة دول مُصدِّرة للأطعمة البحرية، ربما بسبب الاستهلاك الحالي المرتفع للأطعمة البحرية في هذه الدول.

ولا تشير النتائج إلى أي انخفاض في عدد حالات نقص فيتامين "أ" بين السكان الذين لديهم زيادة في حجم المعروض من الأطعمة البحرية في دولهم. لكنها تشير عوضًا عن ذلك، إلى اتجاه عام نحو آثار سلبية ناتجة عن انخفاض تناول فيتامين (أ)، لا سيَّما في إندونيسيا، واليابان، وإيران، والنرويج. ويرجع الباحثون تلك الآثار السلبية إلى أن الأطعمة البحرية تحل محل أطعمة أخرى غنية بفيتامين "أ" هناك، مع أن الأسماك هي واحدة من أفضل مصادر فيتامين "أ"، وخاصةً الأسماك الزيتية وكبد الأسماك. وثمة نقطة أخرى يجب مراعاتها؛ وهي أن الباحثين يعتمدون في تحليلهم على المحتوى الغذائي بأنسجة عضلات المأكولات البحرية، ولا يأخذون في الاعتبار العظام، والأعضاء الداخلية، والأنسجة الدهنية، ومن ضمنها أشياء تؤكَل حاليًا. وقد يؤدي إغفال إمدادات فيتامين "أ" (أو المغذيات الدقيقة الأخرى) التي يوفرها تناوُل هذه الأنسجة، إلى تقليل الفوائد المحتمَلة للأطعمة البحرية.

ولا يُعد النظام الغذائي عادةً المُساهِم الرئيسي في نقص فيتامين "د"، وهي الحالة التي تعزى بشكل أساسي إلى عدم التعرُّض بشكل كافٍ لأشعة الشمس عند خطوط العرض المرتفعة، أو إلى تغطية الجسم. ومع ذلك، يُمكِن الوصول إلى الوضع الأمثل من الحصول على إمدادات فيتامين "د" من خلال تناوُل الأسماك الدهنية وفقًا للتوصيات. وهذا يعني أن زيادة تناول الأطعمة البحرية، قد تحسِّن صحة العظام نتيجة تناوُل فيتامين "د" على نحوٍ كافٍ. وقد يساعد أيضًا تحسين وفرة الأطعمة البحرية في نمو الأطفال، لا سيَّما في الدول منخفضة الدخل، حيث تُعد الأطعمة البحرية مصدرًا مهمًا للبروتين عالي الجودة.

وترتبط الفوائد المُقدَّرة للأحماض الدهنية البحرية من النوع أوميجا 3 بالقيمة الحديّة التي اختارها الباحثون، وهي 0.4 جرام تُستهلك يوميًا، بصرف النظر عن الجنس والعُمر. وتستند هذه القيمة إلى وجود علاقة ملحوظة بين استهلاك هذه الأحماض وانخفاض أمراض القلب الانسدادية عند البالغين. ومع ذلك، لا يوجد توافق في الآراء بشأن المستوى الأمثل للكمية التي ينبغي تناوُلها من هذه الأحماض، وتتباين التوصيات تباينًا كبيرًا في هذا الشأن، بدءًا من عدم تحديد كمية معينة مُوصًى بها، إلى التوصية بتناوُل جرام يوميًا من هذه الأحماض (في حال الأشخاص المصابين بأمراض القلب والأوعية الدَّموية). وقد بدأ التعرف على الدور الأساسي الذي تلعبه الأحماض الدهنية أوميجا 3 في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وتشير الأدلة المتراكمة إلى أن الكمية الإجمالية والاشتراطات المُوصى بها فيما يتعلق بتناوُل هذه الأحماض في ازدياد. كذلك تفيد الأدلة الحالية بأن تعزيز الإمدادات من الأحماض الدهنية البحرية أوميجا 3 قد يكون له فوائد إضافية، على سبيل المثال، لنمو الأطفال أو للأشخاص المصابين بالتهاب المفاصل.

ويطرح بحث جولدن وفريقه البحثي مجموعة من الأساليب المنهجية المتقدمة، وبعض النتائج المثيرة للاهتمام. وبالنظر إلى الصورة الكاملة، نرى أنه من المُحتمَل أن تتحسن الصحة العالمية بوجه عام إذا زادت وفرة الأطعمة البحرية. وتتوقع نماذج الباحثين أن أقصى قدر من المكاسب سيتحقق في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والأجزاء الجنوبية من آسيا. ويَعد الباحثون تقصي حالات سوء التغذية وأمراض القلب المرتبطة بالنظام الغذائي وغيرها من عوامل المرض المرتبطة بنمط الحياة، مقاربة جديرة بالاهتمام ووثيقة الصلة بدراسة الصحة العالمية. وتتمثل إحدى نقاط قوة هذا العمل البحثي في أن الباحثين يضعون نماذج للتغيرات المستقبلية المحتملة في النظام الغذائي بأكمله ويقَيمونها، وذلك بدلًا من مجرد التركيز على تأثيرات زيادة الأطعمة البحرية، لأن تحليلهم يدل على الحاجة إلى الأخذ في الاعتبار الآثار السلبية المُحتمَلة للأغذية البديلة. ويطبق هذا البحث أيضًا المفهوم القائل بأن النماذج قد تكون عنصرًا قيِّمًا يُستعان به عند التخطيط لسياسات الصحة العامة، إذا كانت هذه النماذج تستند إلى معرفة متعمقة بالسياق من أجل وضع توقعات واقعية.

اضف تعليق