q
إسلاميات - عقائد

آداب استجابة الدعاء وشروطها

لماذا لا تستجاب أدعية بعض الناس، وماذا نصنع كي تستجاب أدعيتنا؟-(2)

الدعاء ونحن في مسيرة استكمال الشروط، أي ان لا نيأس من الاستجابة مادامت بعض الشروط غير متوفرة فينا، بل علينا أن ندعو الله تعالى مهما كانت نواقصنا عظيمة ومعايبنا جسيمة وجرائرنا كبيرة، فإن الدعاء عبادة، في حدّ ذاته وهو يوجب غفران الذنوب بنفسه، كما أن...

التنبيه الأول: قال بعض العلماء: إن هنالك شروطاً لاستجابة الدعاء وهناك آداب، وبعض المذكورات في الروايات، كالتطيب مثلاً، آداب وليست شروطاً، ولكن قد يقال إن الآداب شروط، لكن الشروط على قسمين:

الأول: شروط أصل الاستجابة، الثاني: شروط أقربية الاستجابة.

والآداب هي مما توجب أقربية الاستجابة ـ بالمعنى الآتي في التنبيه الآتي من الأقربية الكميّة أو من كون الشرط شرط كمال الاستجابة وتمامها أو شرط فوريتها بدل تراخيها، وإن لم يتوقف عليها أصل الاستجابة، وبوجه آخر: إن (الآداب شروط مخففة) إذ الشرط تارة شرط يتوقف عليه ـ أي على تحققه مع تحقق المقتضي ـ تحقق المعلول حتماً، وأخرى شرط ترجيحي، بمعنى أن المولى وإن اشترطه إلا أنه قد يتخلى عنه ببساطة نسبية، ويوضحه ما نجده بالوجدان من أننا قد نشترط لزيادة راتب موظفنا أو لإعطاء هدية لطفلنا أن يفعل كذا، فإذا توسّل بنا أو توسط لدينا صديق أو شفعت له أمه مثلاً منحناه الهدية أو زيادة في الراتب بدون عمله بالشرط؛ بعبارة أخرى: ان الشرط الحقيقي فكيف بالشرط الاعتباري فقد لا يكون له بديل حتى التوسل والشفاعة مثلاً، يكون له بديل أو يكون في نظر المولى كذلك، ويعود الأمر إلى تزاحم مقتضى ذلك الشرط مع تلك الشفاعة أو التوسل في عالم الجعل لا المجعول، وقد يقال بأن الجامع حينئذٍ هو الشرط، أو أنها شرائط على سبيل البدل، فتأمل.

وقد يقال: إن الآداب على قسمين: فمنها ما يرجع إلى كونها شروطاً ـ كما سبق ـ ومنها ما حبّذ الشارع إليه ليزداد العبد قرباً إلى الله تعالى بالالتزام به، أو يزداد ثواباً، وإن لم يكن ذا مدخلية في أقربية الاستجابة، والمرجع لسان الأدلة ومناسبات الحكم والموضوع، وقد يقود في ذلك إلى التفصيل في الآداب وأنها على نحوين، مما يستدعي التدبر في كل دليلٍ دليل، والله العالم.

الشرط إما شرط لأصل استجابة الدعاء أو شرط لأقربية الاستجابة

التنبيه الثاني: إن الشرط قد يكون شرطاً لأصل استجابة الدعاء، بمعنى أنه لا يستجاب الدعاء بدونه أبداً، وقد يكون شرطاً لأقربية الدعاء للاستجابة لا لأصله، وللأقربية معنيان ثبوتي وإثباتي: أما المعنى الثبوتي فبوجوه:

المعاني الثلاثة لأقربية الاستجابة

الأول: أن تزداد درجة الاستجابة أو تقل حسب توفر ذلك الشرط وعدمه، فمثلاً: من التزم بهذا الشرط فإن 70% من أدعيته تستجاب ومن لم يلتزم فإن 30% من أدعيته تستجاب.

الثاني: أو يكون الالتزام بهذا الشرط سبباً لسرعة الاستجابة.

الثالث: أو يكون الالتزام بالشرط سبباً لأتمية الاستجابة، فمثلاً إذا طلب أن يقضي الله دينه ـ وهو مليون مثلاً ـ فإذا التزم بالشروط قضى الله تعالى دينه كله، وإلا قضى بعضه أي أجابه في الجملة وبحدٍّ ما وليس كاملاً.

ولعل ذلك مما يفسّر الشفاء النسبي لبعض الأمراض، فإن بعض الناس يدعو فيشفى كاملاً وبعضهم يدعو فتزول عنه شدة المرض وتبقى درجة منه، وكما يفسّر الاستجابة النسبية أحياناً لدفع العدو، فقد يدعو فيرتفع شرّ عدوه عنه بالكامل بل قد يتحول إلى صديق، وقد يدعو فتقلّ ضراوة عداوة عدوه له وتقل اعتداءاته عليه، ولا ينفي صحةَ ذلك وتحققه، أن الاستجابة النسبية للدعاء قد تكون لأجل أسباب أخرى كالامتحان مثلاً، فان كليهما ممكن وواقع.

والفرق بين الوجوه الثلاثة: إن الوجه الأول بلحاظ الكمّ المنفصل، والوجه الثاني بلحاظ الكمّ المتصل غير القارّ (الزمان) والوجه الثالث بلحاظ الكيف.

وأما معنى الأقربية للاستجابة الإثباتي فهو: ازدياد درجة احتمال الاستجابة، لدى الداعي كلما عمل بالشروط والتزم بها، وهو فرع الوجه الثبوتي(1) على أنه وجداني إذ كلما ازداد العبد التزاماً بشروط المولى ازداد أملاً وثقة بتلبيته لحاجاته، ولهذا العامل الإثباتي تأثير بوجهٍ على عامل الثبوتي وهو أنه كلما ازداد أملاً بالمولى ازداد المولى به لطفاً وكان أقرب حينئذٍ لاستجابة دعائه.

اجتماع الشروط نادر، فتندر الاستجابة!

التنبيه الثالث: إنه قد يعترض بأن اجتماع هذه الشروط كلها، نادر؛ إذ يندر أن يوجد داعٍ يعمل بالقرآن الكريم كله (وهو الشرط الرابع والعشرون) وقليل من لا يعصى الله تعالى بعد الدعاء ولا يكون قلبه قاسياً ولا ساهياً، ولا...!

فـ: أ ـ كاشتراط كل تلك الشروط مما يدعو لليأس من إجابة الدعوات لعامة الناس!

ب ـ وبوجه آخر: إننا نجد وجداناً، استجابة كثير من الدعوات رغم عدم توفر بضع تلك الشروط؟

الجواب: الاستجابة مع اجتماع الشروط حقٌ، ومع عدمها فضلٌ

والجواب: ليس الأمر على ما تُوهم في (أ) ولا وجه لليأس؛ إذ اجتماع هذه الشروط (وغيرها مما لم نذكره) يوجب، حتمية استجابة الأدعية، بعد إذن الله تعالى ومشيئته، وأما بدون تحقق بعضها، فالدعاء مجرد مقتضٍ، كما سبق في الجواب الأول والثاني، وكثيراً ما يستجاب بفضل الله تعالى أو بالشفاعة ـ وهي من فضله ـ وشبه ذلك، نعم كلما توفر شرط من الشروط كان الاقتضاء أقوى فأقوى والتأثير أكبر فأكبر.

وبعبارة أخرى: استجابة الدعاء بدون بعض هذه الشروط (فضلٌ من الله تعالى) وفضله مأمول (دائماً) كما أنه كثير، فإنه جواد واسع ـ وبه يظهر الجواب عن (ب) أيضاً ـ، وقال تعالى: (وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ‏ءٍ عَليماً)(2)، كما قال: (وَرَحْمَتي‏ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ)(3) وأما حتميتها فـ(فَسَأَكْتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)(4). إن لم نقل باختصاص كتابتها لهم بعالم الآخرة(5).

وأما مع تحقق الشروط فهو أشبه بـ(الاستحقاق) وإن كان الاستحقاق، في جوهره مما يعود إلى فضل الله تعالى أيضاً، لدى التحقيق، وذلك كالفرق بين الملتزم بالطاعات والمتجنب للمعاصي الذي (يستحق) على الله الجنة مع أن (استحقاقه) يعود في واقعه إلى فضله تعالى ـ إذ إن كل ما نفعله ونقوم به من عبادات وطاعات وخيرات ومبرّات فإنه من فضله وتوفيقه بل إنها كلها لا تشكّل أداء لجزء يسير من حقه فكيف (نستحق) عليه الجنة بفعلنا ما هو ليس في واقعه إلا أداء لبعض حقه! ـ.

نعم (نستحق) بأداء حق العبودية الوقاية من النار ودفع العذاب أما (الجنة) فلا مجال لدعوى الاستحقاق فيها أصلاً.

ولإيضاح ما سبق أكثر نقول:

التحرك باتجاهين

تنبيه: إن توفر كل شرط من هذه الشروط يزيد درجة أقربية الاستجابة للدعاء، بمرحلةٍ أو مراحل، وقد يتفضل الله تعالى على عبده بقضاء حوائجه حتى مع عدم توفر بعض الشروط فيهم، وذلك يدعونا للحركة باتجاهين في وقت واحد:

الاتجاه الأول: محاولة توفير كل الشروط السابقة في أنفسنا.

الاتجاه الثاني: الدعاء ونحن في مسيرة استكمال الشروط، أي ان لا نيأس من الاستجابة مادامت بعض الشروط غير متوفرة فينا، بل علينا أن ندعو الله تعالى مهما كانت نواقصنا عظيمة ومعايبنا جسيمة وجرائرنا كبيرة، فإن الدعاء عبادة، في حدّ ذاته وهو يوجب غفران الذنوب بنفسه، كما أن فضل الله قد يشمل عبده فيمنّ عليه باستجابة دعائه رغم بعض نواقصه وعدم توفر بعض الشروط فيه.

ومن فضل الله تعالى أن جعل لنا شفعاء وكثيراً ما تقضى الحاجات بسبب وساطتهم (عليهم السلام) رغم عدم استحقاق العبد إذ (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ)(6) وعلينا في الوقت نفسه تزكية أنفسنا والتحرك بعزم وثبات لنتحلى بكل تلك المواصفات والشروط الحسنة الرائعة الآنفة الذكر.. (اللهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك) آمين رب العالمين.

وسيأتي ذكر موانع ثمانية عن استجابة الدعاء، وهي كلها على سبيل المثال لا الحصر.

الأمل برحمة الله الواسعة

وبعبارة أخرى: إن وجود كل تلك الشروط لاستجابة الدعاء مما لا ريب فيه، إلا أنه لا ينفي (الأمل) بلطف الله تعالى رغم ذلك بمعنى أن من لم يتوفر فيه بعض شروط استجابة الدعاء، فعليه أن لا ييأس من الاستجابة، بل عليه أن يدعو كما عليه أن يسعى لتوفير شروط الاستجابة، ولا يعني عدم توفر بعض الشروط عدم الاستجابة بوجه مطلق؛ وذلك لأن فضل الله تعالى ورحمته الواسعة قد تقتضي الاستجابة حتى مع فقد بعض الشروط وقد قال تعالى: (وَرَحْمَتي‏ وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ‏ءٍ) نعم حتميتها هي لجامعي الشرائط كما قال: (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)(7) كما ورد في الحديث: (كُنْ لِمَا لَا تَرْجُو أَرْجَى مِنْكَ لِمَا تَرْجُو فَإِنَّ مُوسَى (عليه السلام) ذَهَبَ لِيَقْتَبِسَ لِأَهْلِهِ نَاراً فَانْصَرَفَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ)(8) فحتى لو لم ترجُ الإجابة، لِمَا بِكَ من نواقص، فادع الله مع ذلك وتوجّه إلى زيارة الرسول ) وأهل بيته % وتوسل بهم إذ (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسيلَةَ)(9) وكما ورد:

وكَم للّه مِن لُطفٍ خَفِيِّ

يَدِقُّ خِفاهُ عَن فَهمِ الذَّكِيِّ

وكَم أمرٍ تُساءُ بِهِ صَباحا

وتَأتيكَ المَسَرَّةُ بِالعَشِيِّ

كما أن لله تعالى الأمر من قبل ومن بعد وهو فعّال لما يشاء ولا ريب في صحة البداء، إلا أن الأصل كما سبق هو السعي لتوفير شروط استجابة الدعاء. وقد ورد عن أبي ولاد قال: قال أبو الحسن موسى (عليه السلام): (عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ فَإِنَّ الدُّعَاءَ لِلَّهِ، وَالطَّلَبَ إِلَى اللَّهِ يَرُدُّ الْبَلَاءَ وَقَدْ قُدِّرَ وَقُضِيَ وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا إِمْضَاؤُهُ، فَإِذَا دُعِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَسُئِلَ صُرِفَ الْبَلَاءُ صَرْفَةً)(10)، وقال السيد الوالد: (أقول: "قدر" بأن يموت زيد مثلاً، وأمر عزرائيل قضاءً بأن يميته، لكن الدعاء يردهما، لأنه نوع آخر من القضاء والقدر حاكم على النوع الأول، فالمقدّر أولاً بدون الدعاء وثانياً بالدعاء، نظير كون المقدّر أولاً عدم الولد لمن لم يتزوج، وثانياً: الولد إذا تزوج و"الإمضاء" هو الحكم النهائي الذي يأتي بعد الأول، إن لم يكن ثاني وبعد الثاني إن كان)(11).

وعن الإمام الرضا (عليه السلام) قال: (إِنَّ الدُّعَاءَ وَالْبَلَاءَ لَيَتَرَافَقَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ الدُّعَاءَ لَيَرُدُّ الْبَلَاءَ وَقَدْ أُبْرِمَ إِبْرَاماً)(12).

وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ وَقَدْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدْ أُبْرِمَ إِبْرَاماً)(13).

عن حماد بن عثمان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: (إِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ الْقَضَاءَ يَنْقُضُهُ كَمَا يُنْقَضُ السِّلْكُ وَقَدْ أُبْرِمَ إِبْرَاماً)(14).

عن عمر بن يزيد قال: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: (إِنَّ الدُّعَاءَ يَرُدُّ مَا قَدْ قُدِّرَ وَمَا لَمْ يُقَدَّرْ)، قُلْتُ: وَمَا قَدْ قُدِّرَ عَرَفْتُهُ فَمَا لَمْ يُقَدَّرْ؟ قَالَ: (حَتَّى لَا يَكُونَ)(15).

قال الوالد: (أقول: أي له فائدة الدفع، وفائدة الرفع)(16).

وإذا كان ذلك كله كذلك، وهو كذلك، فما بالك بالدعاء تحت القبة الشريفة، فإنه يوجب أقربية الاستجابة للأدعية بدرجات كبيرة جداً كما سيظهر من الروايات القادمة وغيرها. هذا.

الشروط الكثيرة توجب استثناء الأكثر من (أَسْتَجِبْ لَكُمْ)

التنبيه الرابع: إنه قد يعترض على شرطية مجموع تلك الشروط أو على شرطية بعضها خاصة، كالشرط الرابع والعشرين، إن اشتراطها يوجب استثناء الأكثر إذ: (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُوني‏ أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(17) لكن الشروط المذكورة توجب ندرة استجابة الأدعية واستثناء الأكثر قبيح!

أجوبة أربعة، ويمكن الجواب بوجوه، بين ما سبق ضمناً ذِكره، وما سنضيفه:

فضل الله يوجب الإجابة كثيراً رغم فقد بعض الشروط

الجواب الأول: ما سبق من أنها وإن كانت شروطاً لاستجابة الدعاء، لكن فضل الله ورحمته الواسعة كثيراً ما تشمل العبد فيستجاب دعاؤه وإن لم تتوفر فيه بعض الشروط، فلا يلزم استثناء الأكثر، غاية الأمر أن يتغير وجه الاستجابة للدعاء من أن يكون باستحقاق الداعي إلى أن يكون محض فضل الله تعالى، بعبارة أخرى: إنه وإن لم يستجب له، من حيث فقده للشرائط، لكنه يستجاب له من حيث فضل الله (ومنه الشفاعة)، والجزاء في الآية الكريمة: (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُوني‏ أَسْتَجِبْ لَكُمْ) هو فعلية الاستجابة ولا كلام في الآية عن جهة الاستجابة وكونها الاستحقاق أو الفضل، أو فقل: لا كلام فيها عن عِلّية الدعاء في حد ذاته للاستجابة بل قد يكون بضميمة مزيد فضل الله تعالى عليه، هو العِلّة.

الاستجابة أكثرية أو دائمية بنحو آخر أو في زمن آخر

الجواب الثاني: ما سبق من أن الاستجابة قد تكون بنحو آخر أو في زمن آخر(18)، وبذلك يكون الجزاء قد تحقق وهو: (أَسْتَجِبْ لَكُمْ)؛ وبعبارة أصولية: تلك الروايات حاكمة أي هي ناظرة إليها ومفسرة للآية الكريمة وهي إذ تفسر كيفية الاستجابة، وبذلك يظهر أنه لا تخصيص بل هي حكومة، والمآل وإن كان واحداً من حيث النتيجة الخارجية إلا أن اختلاف لسان الحكومة عن لسان التخصيص، يخرجه بتنزيل وبنحو الحقيقة الادعائية عن كونه إخراجاً للأكثر، فتدبر(19).

الروايات منقّحة لموضوع الآية

الجواب الثالث: إن العديد من تلك الروايات منقّحة لموضوع الآية الشريفة إذ الآية تصرح بـ(ادْعُوني) والذي دعى وهو ساهٍ أو وقد علّق قلبه بالناس، لم يدعُ الله حقاً، أو هي منقحة للشرط في الآية الأخرى: (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادي عَنِّي فَإِنِّي قَريبٌ أُجيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ)(20) فلاحظ اشتراطه تعالى (إِذا دَعانِ) والعديد من تلك الروايات تنقح كونه دعا الله حقاً أم دعا غيره.

ومرجع هذا أيضاً إلى الحكومة بوجه آخر.

لا إطلاق لقبح استثناء الأكثر

الجواب الرابع: إن استثناء الأكثر ليس قبيحاً إذا كان لحكمة ما، وبعبارة أخرى: استثناء الأكثر قسمان: قبيح، وهو ما لم يكن له وجه، وحَسَن، وهو ما كان له وجه، فمثلاً من الحسن أن يقول (أكرم أهل هذه المنطقة إلا فساقهم) مع كون الفساق 90% منهم فإنه حسن جداً إذ كان يريد أن يُلفِت إلى أن علّة حكمه بوجوب الإكرام أو برجحانه هو كونهم عدولاً، وإن عِلّة عدم إكرام أولئك كونهم فساقاً، أو كان يريد أن يشجع أهل المنطقة على أن يكونوا عدولاً حيث وجدوا إكرامه وانعامه مختصاً بالعدول، وقد فصّلنا الكلام عن حسن تخصيص الأكثر في ثلاث من الصور في بحث يجدر أن يجال فيه النظر(21).

وفي المقام: فإن من الحسن جداً بعث الناس بقوة نحو الدعاء وتشجيعهم عليه ووعدهم بالاستجابة من جهة، ومن جهة أخرى وعبر مخصصات منفصلة، كما جرى عليه دأب القرآن والحديث، بيان الشروط التي لو لم يعمل بها لما استجاب الله الدعاء والتي يلزم منها ـ على الفرض ـ تخصيص الأكثر. ووجه الـحُسن في الأمرين معاً التشجيع عليهما معاً أي على الدعاء فإنه عبادة في حد ذاته وعلى الالتزام بتلك الشروط فإنها بين مستحبات وواجبات.

وبذلك يظهر أن ذلك ليس من الإغراء بالجهل، بل هو من (الإغراء بالفضل) أو فقل: إنه حثٌ للعبد على الكمال والطاعة والقرب وعلى ما ينفعه بكلا طرفيه، بنحوٍ عقلائي حكيم وإن كان على خلاف ما توهمه العبد، فهذا إغراء بالعدل والفضل، وإن تصوره العبد جهلاً منه أنه إغراء بالجهل!

بل إن من الجهل عدم إغراء العبد بالفضل لمجرد تصور العبد أنه إغراء بالجهل(22)!

الحكمة في فصل المخصصات والشروط عن الوعد بالإجابة

ويوضح لنا ذلك أكثر، فصلُ تلك المخصصات والشروط، عادة، عن آيات وروايات استجابة الدعاء، ووجه الحِكمة في ذلك وجه رائع جداً وهو، إضافة إلى جريان سنة الله في الكتاب وسنة النبي ) وآله الأطياب، إنهما لو جمعا معاً لأوجبا يأس كثير من الناس عن الاستجابة ـ كما ذكر في اشكال سابق والأجوبة التي ذكرناها مما لا يلتفت إليها عامة الناس، بل الخواص فقط عادة ككل بحث علمي آخر، فكان الحل هو بعث الناس من جهة بقوة نحو الدعاء وتحريضهم عليه بأنه موجب للاستجابة (وهو صحيح في حد ذاته، كما أوضحناه في الجواب الأول فإنه ككل مقتضٍ ذو علاقة جوهرية باستجابة الدعاء وإن لم تكن علاقة كميّة)، وهذا ما يشجع الناس على الدعاء بأقصى حدّ، وهو عبادة في حد ذاته ففيه فائدة أخرى لهم، كما أن الدعاء يربط الناس بالله تعالى وهو من أهم الأسباب لحفظ الناس عن الوقوع في المعاصي وفي المصائب أيضاً (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ)(23) وورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (ادْفَعُوا أَمْوَاجَ‏ الْبَلَاءِ عَنْكُمْ‏ بِالدُّعَاءِ قَبْلَ وُرُودِ الْبَلَاءِ، فَوَ الَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَ بَرَأَ النَّسَمَةَ لَلْبَلَاءُ أَسْرَعُ إِلَى الْمُؤْمِنِ مِنِ انْحِدَارِ السَّيْلِ مِنْ أَعْلَى التُّلْعَةِ إِلَى أَسْفَلِهَا وَ مِنْ رَكْضِ الْبَرَاذِين‏)(24) وبنفس المقدار من قربهم إلى الله تعالى بالدعاء ومن حفظهم عن المعاصي ببركته تكون أدعيتهم أقرب للاستجابة، فيكون فصل المخصصات المنفصلة لهذه الحكمة الرائعة. (أي لو وُصِلت بها لتثبط عامة الناس عن الدعاء إذ سيجدون، في وهمهم استحالة الاستجابة أو ندرتها).

ومن جهة أخرى تذكر الشروط في مخصصات منفصلة كي تتكامل الصورة وتتجلى أمام ناظر العلماء والأدلاء على الله، ليشجعوا الناس أولاً على الالتزام بتلك الشروط كي تكون أضمن لاستجابة أدعيتهم، وليردوا إشكال المستشكلين على أننا دعونا فلِمَ لم يستجب لنا، من جهة ثانية!

وهناك حكمة أخرى أيضاً في فصل المخصصات وهي (الامتحان) فإن (الامتحان) فلسفة أساسية جوهرية في كل أنواع تعامل الله تعالى ـ الغيبي والظاهري ـ مع البشر، قال تعالى: (لِيَميزَ اللَّهُ الْخَبيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)(25) وقال: (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدي مَنْ تَشاءُ)(26) وقال: (الم، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبينَ)(27) وقال: و(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(28).

ومن غفل عن فلسفة الامتحان والابتلاء في الكثير، إن لم يكن كل، أفعاله تعالى التشريعية والتكوينية، كالزلزلة وغيرها، جَهِل الفلسفة من مجيء الله تعالى بنا إلى هذا العالم(29)!

لا يقال: لقد وعد الله بالاستجابة، والله غير مخلفٍ وعده!

إذ يقال: الروايات منقحة لوعده، أي ما الذي وعد به؟ وأنه تعالى لم يعد بالاستجابة مطلقاً عند كل دعاء، بل بشرطها وشروطها والشروط أجملتها الآية الأخرى: (أَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُم) وفصّلتها الروايات، أو فقل الآية الأخرى قيدت الأولى وأوضحت المراد منها والروايات شارحة للآية الأخرى وبالمآل للأولى.

وبذلك ظهر أيضاً أن (الامتحان) و(الفتنة) المصرح بها في آيات‏ أخرى هي من (محدّدات) الاستجابة وأنها تكون في هذا الإطار، أو فقل هي قرينة منفصلة كالحافة(30) فيكون (الوعد) متأطراً بهذا الإطار متقيداً به، أي إنه لا وعد في خارج دائرته، فلم يتحقق وعدٌ خارج الدائرة ليتحقق الخلف.

بعض الروايات ضعاف فكيف تخصص الكتاب؟

التنبيه الخامس: إنه قد يقال إن بعض تلك الروايات، مراسيل أو ضعاف فلا اعتبار بها في تخصيص الكتاب.

أربعة أجوبة

والجواب: أولاً: إن المعتبرات منها كثيرة فعليها المعتمد، وأما المراسيل فإن الكثير منها معتضد بروايات أخرى تصل بها إلى درجة الاستفاضة المفيدة للاطمئنان نوعا(31)، بل إن مضامين بعضها مطابق للآيات الكريمة أو لبعض الروايات المعتبرة الأخرى أو للعقل ومستقلاته أو لما يجده الإنسان من وجدانه، فلاحظ؛ وحيث لم نكن في مقام الاستقصاء والاستقراء التام ذكرنا بعض تلك الروايات ولم نذكر ما تعتضد به، بل لعل المتتبع سيجد روايات معتبرة بنفس مضمون بعض الروايات الضعيفة.

ثانياً: إنه ليس من تخصيص الكتاب في شيء، بل هو من (الحكومة) كما أوضحناه سابقاً، ويمكن التفصيل بالقول بأن المراسيل لا تخصص الكتاب ولكنها يمكن أن تفسّره، إذ التخصيص مصادمٌ للمراد الاستعمالي باقتطاع المراد الجدي منه، أما الحكومة فلا تصادِم حتى المراد الاستعمالي لأنها مفسرة له، فهو كالقرينة المتصلة كـ(أسد يرمي) فإن يرمي لا يصادم حتى المراد الاستعمالي للأسد إذ إنه انعقد مفسّراً، ولكن هذا على المبنى وقد فصّلنا الكلام عنه في كتاب (الحكومة والورود) بمناسبة كلام المحقق العراقي وغيره في الفرق بين التخصيص والحكومة، وإن الحاكم المنفصل بمنزلة المخصص المتصّل، لكن هذا الجواب مبني على القول بحجية مراسيل الثقات، وإلا فلا يعقل أن يكون اللاحجة مفسراً أو حاكماً.

ثالثاً: بل قد يقال: إنها لا تعارض الكتاب بتخصيصه، بل إن الآية الكريمة (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُوني‏ أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(32) تخصصها آية أخرى وهي: (وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)(33) وتلك الروايات شارحة للعهد المذكور في الآية الثانية وليست مخصصة بنفسها للآية الأولى، لكن هذا كسابقه مبني على القول بحجية مراسيل الثقات.

رابعاً: إنه على مبنى (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) كما اخترناه وحققناه في ذلك الكتاب، فلا إشكال في تخصيص الكتاب بها لكن بشرط كونها (معتمدة) عند بعض الأعلام كالشيخ الطوسي مثلاً على حسب القيد المذكور في عنوان الكتاب نفسه(34).

خامساً: سلّمنا، لكن الاحتياط في هذه الشؤون، مطلوب؛ إذ العبد يريد قضاء حاجته، وقد ورد خبر ـ ولنفرض أنه مرسل، ولا معاضد له ـ بشرطية التطيب مثلاً أو بشرطية طيب المكسب، فإن العبد حيث تعلق غرضه بتحقيق حاجته قطعاً ـ بإذن الله ـ فما أجدر به أن يعمل الشرط المفروض أنه لا إشكال في جوازه بل رجحانه بذاته شرعاً وإن شك في مدخليته في استجابة الأدعية وقضاء الحاجة فرضاً؟

بعبارة أخرى: إنه من (العنوان والمحصّل)(35) الذي إن قيل بكونه مجرى الاحتياط فالأمر واضح، وإن قيل بكونه مجرى البراءة فإنه لا ينفي حسن الاحتياط بل ينفي وجوب العمل بذلك الجزء أو الشرط المشكوك، وحيث إن المطلوب من استجابة الدعاء لا المنجزية ودفع العقاب (فإنه مندفع بإجراء البراءة حتى في الارتباطيات على المبنى) لذا كان من الراجح الإتيان بكل محتمل الشرطية دون شك.

بعض الروايات لسانها آب عن التخصيص

التنبيه السادس: قد يقال: إن لسان بعض الروايات آبٍ عن التخصيص (باشتراط شروط أخرى للاستجابة)، كقوله (عليه السلام): قال رسول الله ): (أَرْبَعَةٌ لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ حَتَّى تُفَتَّحَ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتَصِيرَ إِلَى الْعَرْشِ: الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ وَالْمَظْلُومُ عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ وَالْمُعْتَمِرُ حَتَّى يَرْجِعَ وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ)(36)، وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (مَا اجْتَمَعَ أَرْبَعَةُ رَهْطٍ قَطُّ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فَدَعَوُا اللَّهَ إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ إِجَابَةٍ)(37)، وقال الإمام الحسن (عليه السلام): (أَنَا الضَّامِنُ لِمَنْ لَمْ يَهْجُسْ فِي قَلْبِهِ إِلَّا الرِّضَا أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فَيُسْتَجَابَ لَهُ)(38).

والجواب من وجوه

أولاً: إن هذه الروايات محكومة بالآية السابقة عليها رتبةً وزمناً وهي قوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)(39) فمهما كان لسانها قوياً فإنها تنطلق من هذه القاعدة (أي من قاعدة الآية الكريمة) أي هي مبنية عليها، وذلك كما لو قال رئيس الشركة لصديقه مثلاً: (والله لو ذهبت إلى المدرسة وتخرجت منها بمعدل جيد لنصبتك مديراً في شركتي) وكان سابقاً قد قال له: (كل وعودي مشروطة بأن تكون أميناً غير خائن) أو ما أشبه، فإن كلامه السابق مقيِّد حتمي.

وبعبارة أخرى: الآية الكريمة بمنزلة القرينة المتصلة الحافّة التي لا ينعقد معها المراد الجدي سواءً أقلنا بانعقاد المراد الاستعمالي أم لا، فتدبر وتأمل.

ثانياً: إن الروايات التي تصرح بالشروط (الخمسة والعشرين الآنفة وغيرها)، حاكمة على هذه الروايات، وقد يكون لسان الرواية آبياً عن التخصيص لكنه غير آبٍ عن الحكومة، والوجه فيه: أن الحكومة لا يُصادم لسانُها لسانَ المحكوم مهما كان قوياً إذ الحاكم مفسِّر وشارح، كما فصّلناه في كتاب (الحكومة والورود) فراجع، ويكفي هنا تبسيط الجواب: بأن مجيء المتكلم بالحاكم هو بمنزلة مجيئه بـ(أي) التفسيرية ولا يرى العرف حينئذٍ تصادماً بينهما فمثلاً قوله (عليه السلام): (مَا اجْتَمَعَ أَرْبَعَةُ رَهْطٍ قَطُّ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ فَدَعَوُا اللَّهَ إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ إِجَابَةٍ) يصح أن يضاف له (أي فيما لو لم يشركوا بالله تعالى) وهو الشرط الثاني السابق، أو (أي فيما لو لم يعصوا الله سبحانه بعد الدعاء) وهو مما سبق من الشروط أيضاً؛ وكذا قوله (عليه السلام): (أَنَا الضَّامِنُ لِمَنْ لَمْ يَهْجُسْ فِي قَلْبِهِ إِلَّا الرِّضَا أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ فَيُسْتَجَابَ لَهُ) لو شفعه بقوله: (أنا الضامن له أي فيما لم يذنب بعده أو فيما لم يدعُ وقلبه ساهٍ لاهٍ) فإنه لا يرى العرف تنافراً حينئذٍ، والحاكم ـ حسبما رآه بعض أعلام الأصوليين ـ هو بمنزلة أي التفسيرية، وإن ذهبنا إلى أنه على قسمين، فراجع.

ثالثاً: ما سبق ونعيده بتصرف وإضافة بما يناسب المقام: (إن الاستجابة قد تكون بنحو آخر أو في زمن آخر(40)، وبذلك يكون الجزاء قد تحقق، وهو (إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ إِجَابَةٍ) و(فَيُسْتَجَابَ لَهُ)؛ وبعبارة أصولية: تلك الروايات حاكمة أي هي ناظرة إليها ومفسرة لهذه الروايات إذ تفسِّر كيفية الاستجابة، وبذلك يظهر أنه لا تخصيص بل هي حكومة، والمآل وإن كان واحداً من حيث النتيجة الخارجية إلا أن اختلاف لسان الحكومة عن لسان التخصيص، يخرجه(41) بتنزيلٍ وبنحو الحقيقة الادعائية عن كونه معارضاً للسان المحكوم مهما كان قوياً، فتدبر).

وبعبارة أخرى: إن قوله (عليه السلام): (لَا تُرَدُّ لَهُمْ دَعْوَةٌ...) غاية الأمر أنه ظاهر في الفورية، لكنه ليس بنص فيها، وبعض الروايات (السابقة) نص في تأجيل الإجابة في بعض الصور أو الحالات، فراجعها؛ وكذلك قوله: (إِلَّا تَفَرَّقُوا عَنْ إِجَابَةٍ) ظاهر في (إجابة الدعاء نفسه) ولكن بعض الروايات الأخرى نص في أن الإجابة قد تكون بإعطائهم الأفضل مما طلبوا: إما في الدنيا وإما في الآخرة، وكذا (فَيُسْتَجَابَ لَهُ)، لكن كيف؟ الكيفية تصرح بها روايات أخرى من روايات الشروط السابقة فتكون حاكمة على ظهور هذه.

رابعاً: إن روايات الشروط (الخمس والعشرين وغيرها) أكثر عدداً وأصح سنداً، من الروايات التي لسانها آبٍ عن التخصيص(42) فترجُح عليها، فهذا على ما ببالي لكنه يحتاج إلى تتبع أكثر فلاحظ.

خامساً: إنه لدى تعارض الطائفتين فالمرجع ـ أو المرجِّح، على المبنيين ـ كتاب الله حيث يقول: (وَأَوْفُوا بِعَهْدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) حسب القاعدة العامة في التعارض بين طائفتين من الروايات(43) لدى التكافؤ أو مطلقاً، فتأمل.

لماذا ندعو ونحن نعلم بعدم استجابة بعض الأدعية؟

التنبيه السابع: وقد يُسأل عن الوجه في بعض الأدعية التي أُمرنا بأن ندعو بها، مع العلم بأنها لا تستجاب قطعاً، كالدعاء بـ(اللَّهُمَّ أَغْنِ كُلَّ فَقِيرٍ، اللَّهُمَّ أَشْبِعْ كُلَّ جَائِعٍ، اللَّهُمَّ اكْسُ كُلَّ عُرْيَانٍ، اللَّهُمَّ اقْضِ دَيْنَ كُلِّ مَدِينٍ، اللَّهُمَّ فَرِّجْ عَنْ كُلِّ مَكْرُوبٍ، اللَّهُمَّ رُدَّ كُلَّ غَرِيبٍ، اللَّهُمَّ فُكَّ كُلَّ أَسِيرٍ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ كُلَّ فَاسِدٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ اشْفِ كُلَّ مَرِيضٍ، اللَّهُمَّ سُدَّ فَقْرَنَا بِغِنَاكَ، اللَّهُمَّ غَيِّرْ سُوءَ حَالِنَا بِحُسْنِ حَالِكَ، اللَّهُمَّ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ)(44).

والجواب: أولاً: إنه يكفي في حُسن الطلب والدعاء، أن يستجاب بعضُه؛ ألا ترى إنك لو علمت بأنك لو طلبت من أبيك مائة حاجة لأعطاك عشرة منها، فإنك ستطلب حتماً مادامت العشرة التي بينها، أية عشرة كانت، مطلوبة ومهمّة؟

ثانياً: ما سبق مراراً من أن كل دعاء يستجاب ولكن تارة بنفسه وأخرى بالأفضل منه إما في الدنيا وإما في الآخر، أي إنه يستجاب هذا الدعاء في حق المؤمنين إما في زمان آخر وإما بنحوٍ آخر فـ(الروح السارية) هي المِلاك، نظير روح القانون ونصه، فتدبر.

ثالثاً: إن الدعاء في حد ذاته عبادة وله ثواب، سواء أستجيب أم لم يستجب، والظاهر أن الدعاء للغير أكثر ثواباً، فقد أمرنا بالدعاء لنتقرب إلى الله أكثر ولكي نحصل على الثواب الأجزل، وأما إجابته تعالى للدعاء وقضائه الحاجة فله الأمر فيها من قبل ومن بعد، وبعبارة أخرى: (الدعاء) له الموضوعية فإن اقترن بالمقدمية والطريقية فقد اجتمعت فيه جهتان وإلا كَفَتْ في حُسنه الجهة الأولى (الموضوعية).

وقد ذكر بعض الفضلاء وجهاً لطيفاً وهو أن هذه الأدعية كلها تستجاب في زمن الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) فإن كان المدعوّ له حياً حينذاك رأى الإجابة في الدنيا وإن كان ميتاً نالته الإجابة في عالم البرزخ لأنه قطعة من الحاجات هنالك، فتدبر؛ وهذا الوجه من صغريات الوجه الثاني.

وبعبارة أخرى: هذه الأدعية هي دعاء باللازم الذي يراد به الملزوم أو يراد به كلاهما معاً؛ وذلك لأن هذه الأدعية لا تستجاب كاملاً إلا في زمن الظهور المبارك، فالدعاء بها كناية عن الدعاء بالظهور وتعجيله كي تتحقق كل هذه الطلبات، وقد ذكرنا في كتاب (المعاريض والتورية) أنه لا مانعة جمع في المعاني الكنائية بين أن يراد منها كلا المعنيين: الموضوع له (وهو الحاجة نفسها، في المقام) والمعنى الكنائي (وهو تعجيل الفرج)، فتأمل وتدبر.

القادم: موانع استجابة الدعاء
القسم الأول: https://annabaa.org/arabic/dogmas/22567

..........................................
(1) نعم قد لا يتفرع عليه، وفي وهمه ـ نظراً لجهله ـ بل قد يتعاكسان، في تصوره، فتدبر.
(2) سورة النساء: 32.
(3) سورة الأعراف: 156.
(4) سورة الأعراف: 156.
(5) إذ يحتمل في تفسيرها وجوه:
الأول: إن رحمته تعالى وسعت في الدنيا البر والفاجر، وهي في الآخرة خاصة بالمتقين.
الثاني: إنها وسعت كل شيء لكن لا تجب ـ حتى في الدنيا ـ إلا للمتقين، وأما الكافر فهو تسعه رحمة الله في الدنيا ببركة المؤمن.
الثالث: إنها تسع كل شيء إن دخلوها، لكن منهم من لا يدخلها لضلالته.
فراجع تفسير مجمع البيان.
(6) سورة المائدة: 35.
(7) سورة الأعراف: 156.
(8) الكافي: ج5 ص83.
(9) سورة المائدة: 35.
(10) الكافي: ج2 ص470.
(11) موسوعة الفقه ـ كتاب الآداب والسنن ـ: ج95/2 ص14.
(12) الكافي: ج2 ص469.
(13) الكافي: ج2 ص469.
(14) الكافي: ج2 ص469.
(15) الكافي: ج2 ص469.
(16) موسوعة الفقه ـ كتاب الآداب والسنن ـ: ج95/2 ص14.
(17) سورة غافر: 60.
(18) راجع الجواب الثالث.
(19) وأما ضعف الرواية أو إرسالها فسيأتي الجواب عنه في التنبيه الخامس.
(20) سورة البقرة: 186.
(21) راجع موقع مؤسسة التقى الثقافية: الدرس 58 من دروس التعادل والترجيح (1436 ـ 1437) وفي موضع آخر أيضاً أكثر تفصيلاً.
(22) ويوضحه أكثر: إن بناء العقلاء على حسن التورية لغرض حسن عقلائي، وعلى ذلك المشهور، بل إن المقام أفضل حالاً من المجاز المصحوب بالقرينة عليه، فتأمل.
(23) سورة الفرقان: 77.
(24) الخصال: ج2 ص621.
(25) سورة الأنفال: 37.
(26) سورة الأعراف: 155.
(27) سورة العنكبوت: 1 ـ 3.
(28) سورة البقرة: 155.
(29) فصّلت الروايات الفلسفة في ذلك، وقد أوضحنا بعض جوانب ذلك في بعض البحوث.
(30) بل حافة إذا لوحظ أن القرآن الكريم وكلامهم (عليهم السلام) كلمة ككلامٍ واحد في المجلس الواحد، فتأمل.
(31) يمكن عدّ (المفيدة...) قيداً احترازياً أو توضيحياً، على المبنيين، فتدبر.
(32) سورة غافر: 60.
(33) سورة البقرة: 40.
(34) يراجع كتاب (حجية مراسيل الثقات المعتمدة) للمؤلف.
(35) المحصل للشيء هو المحقق والموجد له، وهو إما محصل شرعي كالغسلة أو الغسلتين التي اعتبرها الشارع سبباً للطهارة، وإما محصل عقلي وهو السبب التوليدي كالإحراق فإنه محصل للاحتراق، أو إما محصل عادي كالإلقاء من أعلى الذي ينتج عادةً القتل، والدعاء بالنسبة إلى قضاء الحاجة يعد من الأول بوجهٍ، ومن الثالث بوجه، بل قد يقال إن الدعاء محصل شرعي ـ بلطفه وكرمه ـ للاستجابة، فتأمل.
(36) الكافي: ج2 ص510.
(37) الكافي: ج2 ص487.
(38) الكافي: ج2 ص62.
(39) سورة البقرة: 40.
(40) راجع الجواب الثالث.
(41) أي الحاكم.
(42) يدقق إننا قلنا (التي لسانها آبٍ عن التخصيص) لا (مطلق الروايات التي بها وعد).
(43) إن لم تكن إحداهما مباينة للكتاب وإلا فإنها تطرح مطلقاً سواءً أكان لها معارض أم لا.
(44) البلد الأمين: ص222.

اضف تعليق


التعليقات

اينجي
الجزائر
يارب افرج علينا وعافينا من كل امراض2020-03-23
اينجي
الجزائر
اتمنى الشفاء لكل المرض وكل المرض (اتمنى من لام المسلمة ان يدعو الى جدتي بالشفاء لانه مريض ) يارب اشفين واعفي عنا يارب2020-03-23