q
يعـد إصلاح النظام المالي العالمي ضرورة ملحة وواجبة منذ أمد بعيد. يجب أن تكون البلدان النامية التي تتمتع بآفاق نمو جيدة ولديها احتياجات إنمائية حيوية قادرة على الاقتراض بشكل جدير بالثقة وبشروط لائقة في السوق. لتحقيق هذه الغاية، ينبغي لمجموعة العشرين وصندوق النقد الدولي العمل على ابتكار
بقلم: جيفري د. ساكس

نيويورك ــ في إطار قمة المناخ COP26، التي انعقدت الشهر الماضي، أعلنت مئات المؤسسات المالية أنها ستخصص تريليونات الدولارات للعمل على تمويل حلول تغير المناخ. ومع ذلك، لا يخلو الطريق من عقبة كبرى. الواقع أن النظام المالي العالمي يعيق تدفق التمويل إلى البلدان النامية، ويخلق هذا فخا ماليا مميتا لكثيرين.

تعتمد التنمية الاقتصادية على الاستثمار في ثلاثة أنواع رئيسية من رأس المال: رأس المال البشري (الصحة والتعليم)، والبنية الأساسية (في مجالات الطاقة، والتحول الرقمي، والنقل، والبنية الأساسية الحضرية)، والأعمال. تتسم البلدان الأكثر فقرا بمستويات أقل من نصيب الفرد في كل من أنواع رأس المال هذه، وهي تتمتع بالتالي بالقدرة على تحقيق النمو السريع من خلال الاستثمار بطريقة متوازنة في كل منها. في أيامنا هذه، يجب أن يكون هذا النمو أخضر ورقميا، مع تجنب النمو المسبب لمستويات عالية من التلوث الذي ساد في الماضي.

ينبغي لأسواق السندات العالمية والأنظمة المصرفية أن تعكف على توفير الأموال الكافية لمرحلة "اللحاق" بالنمو المرتفع من التنمية المستدامة، لكن هذا لا يحدث. فلا يزال تدفق الأموال من أسواق السندات والبنوك العالمية إلى البلدان النامية ضئيلا ومكلفا للمقترضين، وغير مستقر. يدفع المقترضون من البلدان النامية أسعار فائدة سنوية أعلى بنحو 5% إلى 10% غالبا مقارنة بتكاليف الاقتراض التي تتحملها البلدان الغنية.

يُـعَـد المقترضون من البلدان النامية كمجموعة فئة عالية المخاطر. تمنح وكالات تصنيف السندات بعض البلدان تصنيفات أقل بشكل تلقائي لمجرد كونها فقيرة. بيد أن هذه المخاطر العالية المتصورة مُـبالَـغ في تقديرها، وكثيرا ما تتحول إلى نبوءة تتحقق من تلقاء ذاتها.

عندما تلجأ حكومة ما إلى تعويم السندات لتمويل الاستثمارات العامة، فإنها تعتمد في عموم الأمر على القدرة على إعادة تمويل بعض أو كل السندات عند استحقاقها، شريطة أن يكون المسار الطويل الأجل لديونها نسبة إلى الإيرادات الحكومة مقبولا. وإذا وجدت الحكومة نفسها فجأة غير قادرة على إعادة تمويل الديون المستحقة، فمن المحتمل أن تُـدفَـع إلى التخلف عن السداد ــ ليس بدافع من سوء نوايا أو بسبب عجز عن السداد طويل الأجل، بل بسبب نقص السيولة في متناول اليد.

هذا ما يحدث لكثير من حكومات البلدان النامية. يتصور المقرضون الدوليون (أو وكالات التصنيف)، لسبب اعتباطي غالبا، أن الدولة "س" أصبحت غير جديرة ائتمانيا. ويسفر هذا التصور عن "توقف مفاجئ" للقروض الجديدة المقدمة للحكومات. وفي غياب القدرة على الوصول إلى التمويل تضطر الحكومة إلى التخلف عن السداد، مما "يبرر" بالتالي المخاوف السابقة. ثم تلجأ الحكومة عادة إلى صندوق النقد الدولي للحصول على تمويل طارئ. وتستغرق استعادة الحكومة لسمعتها المالية العالمية عادة سنوات أو حتى عشرات السنين.

لا تواجه حكومات الدول الغنية التي تقترض من الأسواق الدولية بعملاتها ذات الخطر المتمثل في التوقف المفاجئ، لأن بنوكها المركزية تعمل عمل مقرض الملاذ الأخير. ويعد إقراض حكومة الولايات المتحدة آمنا إلى حد كبير لأن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يستطيع أن يشتري سندات الخزانة في السوق المفتوحة، مما يضمن في واقع الأمر أن الحكومة قادرة على ترحيل الديون المستحقة.

ينطبق ذات الأمر على بلدان منطقة اليورو، على افتراض أن البنك المركزي الأوروبي يعمل عمل مقرض الملاذ الأخير. عندما فشل البنك المركزي الأوروبي لفترة وجيزة في الاضطلاع بهذا الدور في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 مباشرة، فقدت دول عديدة في منطقة اليورو (بما في ذلك اليونان، وأيرلندا، والبرتغال) بشكل مؤقت القدرة على الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية. وبعد تلك الكارثة ــ التجربة التي كادت تتسبب في زوال منطقة اليورو ــ عمل البنك المركزي الأوروبي على تعزيز وظيفته كمقرض الملاذ الأخير، فانخرط في التيسير الكمي من خلال عمليات شراء ضخمة لسندات منطقة اليورو، مما خفف بالتالي شروط الاقتراض المقدمة للبلدان المتضررة.

وعلى هذا، تقترض البلدان الغنية عموما بعملاتها الخاصة، بتكلفة منخفضة وبأقل قدر من مخاطر نقص السيولة، باستثناء لحظات تتسم بقدر غير عادي من سوء إدارة السياسات (كما فعلت حكومة الولايات المتحدة في عام 2008، والبنك المركزي الأوروبي بعد ذلك بفترة وجيزة). على النقيض من هذا، تقترض البلدان المنخفضة الدخل والبلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى بعملات أجنبية (الدولار واليورو في الأساس)، وتدفع أسعار فائدة مرتفعة إلى حد غير عادي، وتعاني من توقفات مفاجئة.

على سبيل المثال، نجد أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في غانا (83.5%) أقل كثيرا من نظيرتها في اليونان (206.7%) أو البرتغال (130.8%)، ومع ذلك تصنف وكالة موديز الجدارة الائتمانية لسندات الحكومة الغانية عند مستوى B3، وهذا أقل بعدة درجات من تصنيف اليونان (Ba3) والبرتغال (Baa2). تدفع غانا نحو 9% على الاقتراض لمدة عشر سنوات، في حين تدفع اليونان 1.3% والبرتغال 0.4% فقط.

تخصص وكالات التصنيف الائتماني الكبرى (فيتش، وموديز، وستاندرد آند بورز جلوبال) تصنيفات من الدرجة الاستثمارية لأغلب البلدان الغنية والبلدان ذات الدخل المتوسط الأعلى، لكنها تخصص تصنيفات دون مستوى الدرجة الاستثمارية لما يقرب من كل البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى وكل البلدان المنخفضة الدخل. على سبيل المثال، تخصص وكالة موديز حاليا درجة الاستثمار لاثنتين فقط من الدول ذات الدخل المتوسط الأدنى (إندونيسيا والفلبين).

إن تريليونات الدولارات في صناديق المعاشات، والتأمين، والبنوك، وغير ذلك من صناديق الاستثمار، يجري توجيهها بموجب القانون، أو الضوابط التنظيمية، أو الممارسات الداخلية، بعيدا عن الأوراق المالية ذات الدرجة الأقل من الاستثمارية. وبمجرد خسارة التصنيف السيادي من الدرجة الاستثمارية، يكون من الصعب للغاية استرداده ما لم تكن الحكومة تتمتع بدعم بنك مركزي رئيسي. خلال العقد الثاني من القرن الحالي، جرى تخفيض تصنيف 20 حكومة ــ بما في ذلك باربادوس، والبرازيل، واليونان، وتونس، وتركيا ــ إلى ما دون الدرجة الاستثمارية، وبين الدول الخمس التي استعادت تصنيف الدرجة الاستثمارية منذ ذلك الحين، كانت أربع منها في الاتحاد الأوروبي (المجر، وأيرلندا، والبرتغال، وسلوفينيا)، ولم تكن أي منها في أميركا اللاتينية، أو أفريقيا، أو آسيا (وكانت الخامسة روسيا).

لكل هذا، يُـعَـد إصلاح النظام المالي العالمي ضرورة ملحة وواجبة منذ أمد بعيد. يجب أن تكون البلدان النامية التي تتمتع بآفاق نمو جيدة ولديها احتياجات إنمائية حيوية قادرة على الاقتراض بشكل جدير بالثقة وبشروط لائقة في السوق. لتحقيق هذه الغاية، ينبغي لمجموعة العشرين وصندوق النقد الدولي العمل على ابتكار نظام جديد ومُـحَـسَّـن للتصنيف الائتماني يعبر عن آفاق النمو واستدامة الديون الطويلة الأجل في كل دولة على حِـدة. ثم يجب بعد ذلك مراجعة وتنقيح الضوابط التنظيمية المصرفية، كتلك المعمول بها في بنك التسويات الدولية، وفقا لنظام التصنيف الائتماني الـمُـحَـسَّـن لتسهيل المزيد من الإقراض المصرفي للبلدان النامية.

للمساعدة في إنهاء التوقفات المفاجئة، ينبغي لمجموعة العشرين وصندوق النقد الدولي استخدام قوتهما المالية لدعم سوق ثانوية سائلة في سندات البلدان النامية السيادية. وينبغي لبنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، والبنك المركزي الأوروبي، وغيرهما من البنوك المركزية الرئيسية، العمل على إنشاء خطوط لمبادلة العملات مع البنوك المركزية في البلدان المنخفضة الدخل وذات الدخل المتوسط المنخفض. كما ينبغي للبنك الدولي وغيره من مؤسسات تمويل التنمية الأخرى زيادة منحها وقروضها الميسرة بشكل كبير إلى البلدان النامية، وخاصة الأكثر فقرا. أخيرا وليس آخرا، إذا توقفت البلدان والمناطقة الغنية، بما في ذلك العديد من الولايات الأميركية، عن رعاية غسيل الأموال وتوفير الملاذات الضريبية، فسوف تحظى البلدان النامية بالمزيد من الإيرادات لتمويل الاستثمارات في التنمية المستدامة.

* جيفري د. ساكس، أستاذ التنمية المستدامة وأستاذ السياسة الصحية والإدارة في جامعة كولومبيا، ومدير مركز كولومبيا للتنمية المستدامة وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة. شغل منصب المستشار الخاص لثلاثة أمناء عامين للأمم المتحدة. تشمل كتبه نهاية الفقر، والثروة المشتركة، وعصر التنمية المستدامة، وبناء الاقتصاد الأمريكي الجديد، سياسة خارجية جديدة: ما وراء الاستثنائية الأمريكية، عصور العولمة.
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق