q
لكي نعالج هذا السؤال نرى ان جزءاً كبيرا من السؤال هو خاطيء. لا المعرفة العلمية ولا المعرفة الرياضية هي حقا ما نميل لوصفهما. عندما يكون لدينا تقدير أفضل لشكل الانواع الاخرى للمعرفة، فان المعرفة الاخلاقية ستبدو تشبه تلك الانواع الاخرى للمعرفة. المعرفة الاخلاقية هي أقل اختلافا وغرابة...

كلنا نعرف اشياءً عن الاخلاق، مثل ان حياة الانسان ثمينة وهامة، وان الناس لهم الحق في اتخاذ مساراتهم الخاصة في الحياة. اننا نعرف ايضا انه من غير الأخلاقي انتهاك تلك الحقوق وان علينا التزامات تجاه عوائلنا واصدقائنا والانسانية عموما. هذا النوع من المعرفة هو هام لكنه نوع عادي. السؤال هو ليس ما اذا كنا نمتلك او لم نمتلك تلك المعرفة، وانما السؤال هو أي نوع من المعرفة تلك.

التداخل بين الرياضيات والأخلاق

هناك اتجاه يرى ان المعرفة الأخلاقية هي ليست معرفة تجريبية عادية وانما هي معرفة تجريبية استثنائية. هذا الاتجاه يؤمن برؤية خاصة للرياضيات. وفق هذه الرؤية، كل من الرياضيات والاخلاق تستلزمان نوعا من الادراك الاستثنائي. افلاطون تأمّل في المعرفة الرياضية المتعلقة بالهندسة، معلّقا في مدخل اكاديميته شعار "لا يُسمح بالدخول لمن لايعرف الهندسة". تتعلق الهندسة بمفهوم المثلثات التامة. مدرّس مادة الهندسة في المدرسة الثانوية ربما هو افلاطونيا وفق هذه الطريقة. حين يرسم المدرس مثلثا على اللوحة، بالطبع، هذا ليس مثلث حقيقي، لأن له خطوط سميكة والخطوط ليست ذات استقامة تامة. ما نتحدث عنه هو المثلث المثالي الذي يمثّلهُ الشكل المرسوم على اللوحة". ولكن كيف نعرف عن ذلك المثلث التام المثالي اذا لم نتمكن من رسمه، واذا لم يوجد في أي مكان على الارض؟

نظرية افلاطون تقوم على اننا نرى المثلثات التامة وفق الصورة التي في أذهاننا. وفق هذا الاتجاه تكون المعرفة الرياضية، لمحة او تصوّر لعالم الأشكال الخالصة التي يوجد من ضمنها المثلث الخالص. طبقا لافلاطون، ان المعرفة الاخلاقية هي مشابهة لعالم المثلثات، انها تأتي ليس من خلال النظر الى العالم المادي، وانما عبر تصوّر شكل الخير في العالم الآخر، او عالم المُثل.

الاستماع الى الضمير – المعرفة الأخلاقية

وهناك رؤية اخرى مألوفة وهي فكرة اننا نعرف القيمة الأخلاقية للصح والخطأ عبر الاستماع الى صوت الضمير الموجود فينا. ان الصوت الهادئ في الداخل هو الذي يخبرنا ما اذا كان شيء ما صحيح ام خطأ. لكن المشكلة مع نظرية افلاطون هي انها تتأمل شكلا من التصور – تصور عالم الأشكال التامة – الذي ليس لدينا دليل عليه ابدا. لا أحد وجد ذاكرة تصوّرية مدفونة عميقا في الدماغ، وانه من غير الواضح كيف ستكون حتى عندما تكون موجودة فعلا. هذا التوضيح لا يشبه التوضيح العادي للنوع العادي للمعرفة. انه يشبه توضيح اسطوري يعتمد على نوع اسطوري للتفكير.

النظريات التي تؤكد على اننا نفهم الصح من الخطأ عبر الاستماع الى ضميرنا هي نظريات شائكة ايضا. المشكلة ليست عدم وجود واقعية سايكولوجية، لأنه في الموقف الافلاطوني، تبدو فكرة الصوت االداخلي الهادئ فعلا فيها نوع من الحقيقة السايكولوجية. المشكلة هي في محاولة الإعتقاد انه نوع من المرشد المعصوم من الخطأ.

في مغامرات Huckleberry Finn (1)، يستخدم توين (كاتب الرواية) الاضطراب الداخلي لهاك (القاص) حول قراره في الابلاغ عن الولد (جم) للشرطة، كطريقة في كشف افكار هامة حول الأخلاق والضمير.

لكن السؤال هو من أين يحصل الضمير على المعلومات حول ما هو الصحيح والخطأ؟ كيف نعرف ان الصوت الداخلي الهادئ يخبرنا الحقيقة حول الصح والخطأ؟ مارك توين يجادل ببراعة في مغامرات هاكليبري. ضمير هاك يخبره انه يجب ان يسلّم جم للشرطة. في النهاية، جيم هو عبد. ولذلك، هو يعود لشخص آخر. هاك يلوم نفسه لأنه ساعده ليصبح حرا. ضميره يخبره ان ذلك كان خطأ – عبر مساعدة جيم في التحرر، هو حرم الآنسة واتسون (مالكة العبد) من ملكيتها. ضمير هاك جعله يشعر بالانزعاج من ذلك.

ما نعرفه وما يثق به توين حول معرفتنا هو ان ضمير هاك ليس فطريا وليس معصوما من الخطأ. ذلك الصوت الهادئ في الداخل هو مجرد صدى لثقافته، منسجما مع نظام العبودية السائد في ذلك الزمان والمكان. في النهاية، هاك يتحدى ضميره ويقرر ان لا يسلّم جيم للشرطة.

هل الأخلاق شيء بديهي؟

هناك رؤية اخرى للمعرفة الاخلاقية مرتبطة برؤية مختلفة عن الرياضيات. بديهية اقليدس في الهندسة كُتبت عام 300 قبل الميلاد، وبعد وفاة افلاطون بخمسين سنة، اصبحت نموذجا لما يجب ان تكون عليه المعرفة لما يقارب 2000 سنة. ولكن لدى اقليدس، ليس كل سؤال رياضي يُجاب عليه بتوجيه الذهن نحو الداخل، والبحث عن الأشكال، كما فعل افلاطون. في هندسة اقليدس، انت تبدأ بعدد محدود من المبادئ الاساسية التي تؤخذ كمسلمات. ثم تستنتج اشياءً اخرى من تلك المبادئ عبر خطوات صغيرة ذات صلاحية بديهية. انت تستطيع في هذه الطريقة اكتشاف اشياءً مدهشة، وكذلك كل الحقائق المدهشة للهندسة. النتائج ربما تكون مدهشة لكنها تسير عبر خطوات بديهية من مبادئك البديهية. فهل المعرفة الاخلاقية تشبه ذلك؟

توماس جيفرسون مؤلف إعلان الاستقلال، يقول، "نحن نأخذ هذه الحقائق كمسلمات، ان كل الناس خُلقوا متساوين، وهم مُنحوا من جانب خالقهم حقوق معينة غير قابلة للتصرف، من بينها الحياة، الحرية، البحث عن السعادة. جيفرسون يصوغ بيان الاستقلال كما لو انه يضع مسلمات بديهية ويستنتج منها ان المستوطنات لها الحق في التحرر والاستقلال. انها لاتزال رؤية تصورية للاخلاق، تتطلب نوعا من العين الداخلية المنسجمة مع الكون الاخلاقي.

لسوء الحظ، مختلف الناس ربما يدّعون ان مختلف الحقائق هي بديهية. جورج الثالث لم يعتقد ان المستعمرات يجب ان تتحرر من الانجليز انطلاقا من حقائق بديهية. حقائقه البديهية كانت شيئا ما مختلفا، هي كانت عقائد تشبه الحق الديني للملوك. مختلف الناس يبدو يأخذون اشياءً مختلفة جدا لتكون بديهية، وذلك يجعلنا مرة اخرى نشك في بديهية الأخلاق كطريقة للتصور الداخلي المعصوم من الخطأ. اذا كانت المعرفة الاخلاقية ليست نوعا من التصور التجريبي في العالم، المشابه للمعرفة العلمية، واذا كانت لا تستلزم نوعا من التصور الداخلي لأي من هذه النماذج الرياضية، فما نوع المعرفة اذاً؟

لكي نعالج هذا السؤال نرى ان جزءاً كبيرا من السؤال هو خاطيء. لا المعرفة العلمية ولا المعرفة الرياضية هي حقا ما نميل لوصفهما. عندما يكون لدينا تقدير أفضل لشكل الانواع الاخرى للمعرفة، فان المعرفة الاخلاقية ستبدو تشبه تلك الانواع الاخرى للمعرفة. المعرفة الاخلاقية هي أقل اختلافا وغرابة.

خلاصة

الاخلاق تُعرّف كقواعد للسلوك كما وُضعت وجرى اتّباعها من جانب الناس. هناك ثلاثة انواع من الاخلاق: الاخلاق المعيارية (قواعد تحكم السلوك)، وما بعد الاخلاق metaethics (دراسة الاخلاق ذاتها)، والاخلاق التطبيقية (استخدام عملي للأخلاق في المهن والحياة اليومية). من الأمثلة على الاخلاق، سلوك العاملين ضمن شركة او جماعة. كذلك تتضمن الاخلاق الوصايا العشر او المُثل الاساسية لقوانين مسؤولية التقصير في الادارات المحلية والبلديات. هناك اربعة مبادئ اساسية للأخلاق وهي عدم الايذاء والعدالة والإحسان وإحترام الاستقلالية.

.......................................................................
الهوامش
(1) مغامرات (هاكليبري فن) هي رواية كتبها مارك توين، تتحدث عن هروب فتى من العبودية عبر عبور نهر المسسبي. الكتاب الذي نُشر عام 1885 يكشف عن المواجهات المدمرة للعبودية والعنصرية. هو يبقى احد أهم الكتب في التاريخ الامريكي. يعرض هاك رؤيتين رئيسيتين للحرية في استكشاف اسئلة عن الحرية وثمنها، لو كان الفرد متحرر حقا. كل من هاك وجم يبحثان عن الحرية، مع انهما لديهما افكار مختلفة حول ما تعنيه الحرية. هاك، مثلا، يرغب جدا للتحرر من المجتمع المتحضر. هو يشعر بالاختناق من القيود المفروضة عبر الملابس الثقيلة التي يرتديها والتعليم الرسمي والحياة المدنية (العيش في منزل، والنوم في سرير)، بينما بالمقابل، جم يرغب جدا للتحرر من وضعه كعبد للآنسة واتسون. وبالرغم من الاختلاف في الطبقة والخلفية العرقية، لكن هاك وجم كلاهما يواجهان تهديدا مباشرا يزيد من رغبتهما بالهروب. في القصة يقرر هاك الابلاغ عن جم للشرطة، ولكن بدلا من الذهاب الى المدينة للإبلاغ ضد جم واراحة ضميره، يقوم هك بتقديم الحماية لجم عندما يدخل المدينة.

اضف تعليق