q
لفترة طويلة، ساد جدل بين المتخصصين حول ما إذا كانت العوامل الجينية المؤدية لاضطرابات معقدة، مثل الفصام، يمكن أن تُعزى بالدرجة الأولى إلى تغيرات محددة في الحمض النووي، سواء أكانت تغيرات نادرة أم شائعة. وتقدم دراستان أدلةً على أن كلا النوعين من المتغيرات الجينية يلعب بالفعل دورًا أساسيًا في الإصابة بالمرض....
بقلم: كونراد أوه. إيجبي، بول إف. أورايلي

لفترة طويلة، ساد جدل بين المتخصصين حول ما إذا كانت العوامل الجينية المؤدية لاضطرابات معقدة، مثل الفصام، يمكن أن تُعزى بالدرجة الأولى إلى تغيرات محددة في الحمض النووي، سواء أكانت تغيرات نادرة أم شائعة. وتقدم دراستان نُشرتا مؤخرًا في دورية Nature، أدلةً على أن كلا النوعين من المتغيرات الجينية يلعب بالفعل دورًا أساسيًا في الإصابة بالمرض. إذ تمكنت الدراسة الأولى، التي أجراها فاسيلي تروبتسكوي، وفريقه البحثي، من رصد مئات المتغيّرات الجينية الشائعة، والتي يؤثر كل منها بقدر ضئيل في احتمالات الإصابة بالفصام. من جهة أخرى، نجحت الدراسة الثانية، التي أجراها تارجندر سينج وفريقه البحثي، في كشف النقاب عن حفنةً من المتغيرات الجينية النادرة، والتي يلعب كل منها دورًا كبيرًا في الإصابة بالمرض. وتُبين الدراستان، عند أخذهما في الاعتبار معًا، أن مسببات المرض الجينية، سواء أكانت شائعة أم نادرة، قد تؤدي في كثير من الأحيان إلى الاضطرابات نفسها في العمليات البيولوجية، والتي تفضي إلى الإصابة بالمرض.

دراسات الارتباط على نطاق الجينوم (GWASs)، والتي تحلل اختلافات الحمض النووي بين شخص وآخر، بهدف رصد المتغيرات الجينية الشائعة ذات الصلة بمرض أو صفة معينة، باتت واسعة الانتشار إلى حد أن الباحثين المتخصصين، لا يجفلون عن إجراء دراسات تشمل مئات آلاف المشاركين لفحص مئات المتغيرات الجينية المرتبطة بمرض ما. إذ فطنوا إلى ما يلزم لنجاح دراساتهم؛ فكلما زاد حجم عينة الدراسة، تتابع سيل الاكتشافات الجينية. رغم ذلك، لا يتوفر إلا للقليل من الفرق البحثية موارد معلومات دقيقة، كتلك التي يملكها ائتلاف علوم الجينوم النفسي (الذي شارك أعضاؤه في إجراء الدراسة الأولى من الدراستين سالفتي الذكر)، والذي أثمرت جهوده عن ثروة من الاكتشافات حول ثلاثة عشر مرضًا من الأمراض العصبية النفسية).

بيد أن منتقدي دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، وهم كُثر بالمناسبة، يشيرون إلى أن تأثير المتغيرات الجينية الشائعة في احتمالية الإصابة بالمرض يكون ضئيلًا عادة، لافتين النظر إلى المصاعب التي تكتنف فك شفرة التأثيرات البيولوجية المترتبة على مئات المتغيّرات الجينية التي تؤدي وظائف متباينة، وتوجد مبعثرة في أرجاء الجينوم. ومن ناحية أخرى، على حد زعم هؤلاء، يرجح أن الحياة تطوّرتْ على امتداد ملايين السنين، بحيث يتعذر فك أسرارها في منحة بحثية عمرها خمس سنوات. إلا أنه يمكننا القول، استنادًا إلى دراسة تروبتسكوي وفريقه البحثي، أن ثمار العمل المتأني والمتقن الذي يضطلع به الباحثون في مجال دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، قد بدأ حصادها.

درس تروبتسكوي، وفريقه البحثي، جينومات 76,755 شخصًا مصابًا بالفصام، وجينومات 243,649 شخصًا من الأصحاء، كمجموعة مقارنة. وكشفت الدراسة عن وجود 342 متغيّرًا جينيًّا مشتركًا بين المصابين بالمرض، يمكن أن يؤدوا إلى تعزيز خطر الإصابة بمرض الفصام. ورغم أن كل متغيّر على حدة يسهم في زيادة خطر الإصابة بالمرض بنسبة صغيرة (تقل عن 5%)، فكثرة المتغيّرات التي رصدها الباحثون أتاحتْ لهم مزيدًا من المعلومات عن العمليات البيولوجية التي تتأثر بتلك المتغيّرات.

وفي تحليل بالغ الأهمية للمرض، وضع تروبتسكوي، وأفراد فريقه البحثي، أيديهم على أنواع الخلايا والأنسجة التي تبلغ فيها المتغيّرات المُكتشفة حديثًا والمرتبطة بخطر الإصابة بالفصام، أقصى درجات نشاطها البيولوجي. ومما عزز ثقة الباحثين في صحة نتائجهم، أن معدلات التعبير عن هذه المتغيرات الجينية كانت أعلى ما يمكن داخل أنسجة الدماغ. ورغم أن ذلك قد يبدو واضحًا في اضطراب مثل الفصام، فأعضاء الائتلاف يوضحون أن ما سَمَح بتسليط الضوء على هذه البصمات البيولوجية من بين كافة التأثيرات الطفيفة للمتغيرات الجينية ذات الصلة، هو تنامي حجم مجموعات البيانات التي أتيحت للائتلاف من خلال دراسات كبيرة للارتباط على نطاق الجينوم، نُشرت في عام 2011 (انظر المرجع 77)، وفي عام 2014 (انظر المرجع 88)، بالإضافة إلى دراستهم العملاقة الأخيرة. وقد عزز أعضاء الائتلاف استفادتهم من المزايا التي أتاحتها لهم هذه المعارف، من خلال التركيز على ما يحدث على المستوى الخلوي، فأسفروا النقاب عن ثلاثة أنواع فرعية من الخلايا العصبية ترتبط بصورة وثيقة بخطر الإصابة بالفصام (وهي الخلايا العصبية الهرمية، والخلايا العصبية الشوكية المتوسطة، والخلايا العصبية الحبيبية).

وتتيح لنا دراسات الارتباط على نطاق الجينوم تسليط الضوء على مناطق الجينوم التي تحمل متغيرات جينية ترتبط بخطر الإصابة بالفصام، لكنها لا تدلنا على ماهية الجينات المرتبطة بهذا المرض. وإضافة إلى ذلك، فتوارُث عدد من تسلسلات الحمض النووي المتجاورة، على امتداد كثير من الأجيال، يؤدي إلى نشوء علاقات بين المتغيّرات الجينية المتجاورة. وقد وجدتْ إحدى دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، على سبيل المثال، أن هذا التوارُث يؤدي إلى ارتباط المرض بالعديد من المتغيّرات الجينية الموجودة بالقرب من متغيّرٍ واحد مسبب للمرض. ومن شأن ذلك أن يزيد صعوبة اكتشاف المتغيّر الجيني، أو الجينات المسببة للمرض، من بين مجموعة الجينات المُحتمل تسببها فيه. ولهذا السبب، عكف تروبتسكوي وفريقه البحثي على تنفيذ مشروع مبهر، يهدف إلى «تحديد أهم العناصر الجينية» حسب ضرورة وجودها للإصابة بالمرض، مستخدمين في ذلك مجموعة من التقنيات، لتحديد أدوار 120 جينًا هي الأرجح أن تسبب حدوث اضطراب الفصام. ومن المقرر على مدى السنوات القادمة أن يدرس اختصاصيو الدراسات النفسية الجينية هذه الجينات بعناية.

أما في الدراسة الثانية، فقد عين سينج، وفريقه البحثي التسلسلات الجينية لجميع المناطق المشفِّرة للبروتينات (أي جميع الإكسومات في الحمض النووي) في جينومات 24,248 شخصًا يعانون من اضطراب الفصام، و97,322 شخصًا من الأصحاء هم مجموعة مقارنة. وهدفت الدراسة إلى البحث عن متغيّرات جينية مسببة لاضطرابات وفائقة الندرة، أي لا توجد في أكثر من خمسة أشخاص من المجموعة، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بخطر الإصابة بالفصام، ويرجح أنها تتسم بقدرة على تعطيل وظائف بعض البروتينات. وقارن الباحثون العدد الكلي لهذه المتغيّرات فائقة الندرة المسببة لاضطرابات، والموجودة في إكسومات المصابين بالفصام، مع عددها الكلي في إكسومات الأصحاء المشاركين في التجربة.

علاوة على ذلك، حلل الباحثون جينومات 3402 من الأسر المكوّنة من ثلاثة أفراد (تضم الأب والأم، وابن أو ابنة ممن يعانون من اضطراب الفصام). ويساعدنا هذا النوع من التحليل في الوقوف على المتغيّرات الجينية التي تنتج عن طفرات تنشأ في الأبناء، في مقابل المتغيّرات الجينية التي تصل إلى الأبناء من الوالدين. ووجد الباحثون أن هذه الطفرات المستحدثة، توجد بمعدلات أكبر على نحو ملحوظ في 244 جينًا يُشتبه في ارتباطها بالفصام، مقارنة بالجينات الأخرى. وقد اكتُشفت الجينات المشتبه في ارتباطها بالفصام من خلال المقارنة بين الأشخاص المصابين بالفصام، وغيرهم من الأصحاء، الذين شاركوا في التجربة.

وبدمج مجموعتي البيانات التي حصل عليها سينج، وفريقه البحثي، اتضح لهم وجود عشرة جينات ترتبط ارتباطًا قويًا بالفصام، أحدها يُعرف بـSETD1A (وهو يشفر إنزيمًا يلعب دورًا في تنظيم التعبير الجيني). وكانت دراسات سابقة قد بيّنتْ ضلوعه في اضطراب الفصام9. كذلك وجد الفريق البحثي أربعة جينات أخرى (هي STAG1، وFAM120A، وGRIN2A، وSP4)، وُجدت ضمن 120 جينًا تناولتها دراسة تروبتسكوي وفريقه البحثي. ويدل ذلك على أن المتغيّرات الجينية، الشائعة والنادرة على حد سواء، قد تؤثر على خطر الإصابة بالفصام عبر عمليات بيولوجية مشتركة.

وفي الخطوة تالية، درس سينج وفريقه البحثي، العلاقات بين الجينات العشرة التي رصدوها، وجينات كانت دراسات سابقة10 قد أشارتْ إلى ارتباطها باضطرابات تأخر النمو، واضطرابات الإعاقة الذهنية (يشار إلى هاتين الفئتين من الأمراض معًا بالاختصار DD/ID). وُوجدت علاقة بين ستة جينات، وبين الفصام واضطرابات DD/ID، وهو ما يعزز أدلة سابقة9 أشارتْ إلى وجود علاقات مشتركة بين هذه الاضطرابات. أما اختلاف الطفرات الذي وجده العلماء في ثلاثة من هذه الجينات (GRIN2A، وCACNA1G، وTRIO)، فقد نبه الفريق البحثي إلى الاختلافات البيولوجية بين تلك الأمراض. فبينما ترتبط المتغيّرات الجينية التي تتسبب في بتر البروتينات باضطراب الفصام فحسب، حدثت المتغيّرات التي تُوقع ضررًا أقل، وتتسبب في تغيير تتابع الأحماض الأمينية في البروتين، في كل من حالات الفصام وأمراض DD/ID. والمدهش هنا، هو أن هذا الاكتشاف يشير إلى أن درجة الضرر الذي يلحق بالبروتينات المُتحكمة في النمو العصبي، يمكن أن يسهم في نوع الاضطراب الذي يحتمل للشخص أن يصاب به.

ويستمر مبحث تحليل العلاقة الجينية المشتركة بين اضطرابات النمو العصبي في دراسة اعتَمدتْ على تعيين التسلسل الجيني، نشرها دانكِن بالمر، وفريقه البحثي، في دورية «نيتشر جينيتكس» Nature Genetics، حيث لم يستطع الفريق رصد أي ارتباط جيني بمرض الاضطراب ثنائي القطب على وجه التحديد، من خلال بياناتهم التي شملتْ قرابة 28 ألف شخص مصاب وغير مصاب بالاضطراب ثنائي القطب. بيد أن تحليلًا تجميعيًا لاحقًا، أُجري بعد دمج هذه البيانات مع بيانات سينج وفريقه البحثي، أوضح أن طفرة في جين AKAP11 (وهو جين يشفر إنزيمًا يلعب دورًا في تحديد مواضع البروتينات في الخلية)، تعزز خطر الإصابة بالفصام والاضطراب ثنائي القطب.

وإجمالًا، تدعم هذه الدراسات إجماعًا أخذ في الظهور في أوساط العلماء، حول إسهام عوامل جينية نادرة وشائعة على حد سواء، تعزز خطر الإصابة بالفصام، في كثير من الآليات البيولوجية نفسها. فعلى سبيل المثال، أكدت الدراسات المشار إليها جميعًا الوظيفة بالغة الأهمية التي تلعبها التشابكات العصبية (وهي مناطق اتصال بين الخلايا العصبية) في الإصابة بالفصام. بالإضافة إلى ذلك، تُبين هذه الأعمال البحثية كيف يمكن للدراسات ذات التصميم المختلف أن تدعم بعضها بعضًا. وبالإضافة إلى الجينات المشتركة بين المصابين بالمرض، التي اكتشفها العلماء من خلال دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، وعبر تعيين تسلسل جميع الإكسومات، فالارتفاع الكبير في عدد المتغيّرات النادرة والمسببة لاضطرابات في الجينات التي تشملها دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، يشير إلى أن كثيرًا من المتغيّرات الجينية النادرة الأخرى تنتظر الاكتشاف.

وربما تكون الخطوة المنطقية التالية انتهاج مخطط دراسة يدمج بين نهج كلا الدراستين اللتين أشير لهما في مطلع المقال. فبمجرد اكتشاف مئات المناطق الجينومية المسببة للمرض، من خلال دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، يمكن استهداف تعيين التسلسل الجيني لهذه المناطق، في عينات دراسة أكبر حجمًا بكثير من تلك التي تتيحها الدراسات المكلفة التي تتناول الارتباط على نطاق الجينوم، أو التي تعمل على تعيين تسلسل جميع الإكسومات. وبالإضافة إلى إتاحة تحديد الجينات المسببة للمرض المُتحكّمة في الإشارات المرصودة بدراسات الارتباط على نطاق الجينوم، يمكن للجمع بين النهجين أن يساعدنا في علاج "الفجوات المعرفية البحثية"، التي استعصي سدها بأي من النهجين على حدة، فالوقوف على المتغيّرات الجينية المرتبطة بخطر الإصابة بالمرض، على اختلاف معدلات حدوثها، من شأنه أن يسهم في تحسين فهم الباحثين لكيفية تضافُر الآليات الجينية، والمتغيّرات التي تنظم عمل هذه الآليات، بعضها مع بعض، في مسارات بيولوجية محددة، لتنتجُ المرض عند اضطرابها. ومن بين الأهداف المرجوة كذلك، التمييز بين المسارات البيولوجية التي تمثل تهديدًا مباشرًا بحدوث الإصابة باضطراب الفصام والمسارات التي تشكل سلوكياتٍ قادرة على تغيير خطورة الإصابة بهذا المرض بعد ذلك. وسوف يساعد ذلك بدوره على التمييز بين المسارات البيولوجية التي يمكن أن تستهدفها عمليات تطوير العقاقير، وتلك التي يُمكن أن تستهدفها تدخلات الصحة العامة.

وتشير الدراستان إلى أن النوعين من المتغيّرات، النادرة أو الشائعة، قد يؤثران في الأغلب على الآليات البيولوجية نفسها (غير موضح في الرسم). ويمكن لمقاربة تجمع بين دراسات الارتباط على نطاق الجينوم، وتعيين التسلسل الجينومي، أن تساعدنا في سد "الفجوات المعرفية البحثية" التي تميِّز بين هاتين الطائفتين من المتغيّرات التي تعزز خطر الإصابة بالمرض، وهو ما يتيح فهمًا أعمق للمسارات البيولوجية التي يمكن أن تؤدي إلى الإصابة باضطراب الفصام.

وفي جميع الأحوال، سيكون من الضروري زيادة تنوع المشاركين في دراسات الفصام القادمة، إذا أردنا الكشف عن جميع المتغيرات الجينية التي تعزز خطر الإصابة بهذا المرض. فحتى الآن، انحدر الأشخاص الذين شملتهم الدراسات الجينومية واسعة النطاق، في الأغلب، من أصول أوروبية. ومن ثم، ينبغي أن تمثل المجموعات المشاركة في الدراسات القادمة البشر من جميع أنحاء العالم؛ إذ من شأن ذلك أن يعزز فرص مشاركة مجموعات بشرية مختلفة، كي تحصل على الاستفادة نفسها، من التقدم العلمي والطبي الذي توفره لنا تلك الدراسات. وقد بدأ تروبتسكوي وفريقه البحثي، وسينج وفريقه البحثي، في إحراز تقدم في هذا الاتجاه، وأطلقت هيئات ممولة للبحث العلمي مبادرات عديدة، لدعم مثل هذه الجهود. ومن شأن مواصلة السعي إلى مشاركة شتى الأطياف البشرية في هذا الاتجاه البحثي، أن تسرع وتيرة فهمنا للآلية التي تتضافر بها تأثيرات المتغيّرات الجينية، سواء أكانت نادرة أم شائعة، مع المؤثرات البيئية، لتشكّل خطورة الإصابة بالأمراض العقلية.

اضف تعليق