q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

نظرية اللاعنف: إقران المنهج المعرفي بالسلوك

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

لقد كان الإمام الشيرازي في حياته اليومية وفي علاقاته مع جميع من يحتك بهم ويعملون معه من مسلمين أو غيرهم، كان أمينا على التطبيق السلوكي الحرفي لللاعنف، وتوجد مواقف لا تزال تتوقد في ذاكرة الكثير ممن رافقوا الإمام الشيرازي في حياته ونشاطاته الهائلة، وكيف كان يتعاطى مع الشخص العنيف...

أفضل النظريات التي ابتكرها العلماء والمفكرون، هي تلك التي تحولت من إطارها الفكري المعرفي إلى السلوكي، بحيث هبطت من أبراجها الفكرية المجردة ودخلت في لجة الحياة، واستطاعت أن تمنح الناس طريقا عمليا مستمَّدا من المعرفة والفكر، إذ لا فائدة في النظريات والأفكار التي تبقى تدور في فلك التجريد، وتعجز عن طرق عقول الناس وتغيّر سلوكهم استنادا إلى الفكر والمعرفة.

قدرة المعرفة على التسلل إلى السلوك البشري، تأتي من روح الأفكار وروح المفكر الذي يطرحها، وتتطلب روحية ديناميكية قادرة على تحويل المعرفة إلى سلوك من خلال التعمّق في تفسير وقراءة الطبيعة التكوينية للإنسان، وهو ما وجده الباحثون في الأفكار والمعارف التي طرحها الإمام الشيرازي في نظريته اللاعنف.

ومع أن هناك من سبق الإمام الشيرازي في اجتراح نظرية ومنهج قائم على نبذ العنف، إلا أن الإمام الشيرازي بامتلاكه الروحية الخاصة به، استطاع أن يتميز عن سابقيه كالمهاتما غاندي الذي اعتمد اللاعنف في مقارعة الاحتلال البريطاني للهند، ومصدر هذا التميز يكمن في القدرة على إقران الفكر والمعرفة بالسلوك، وهو ما دأب عليه الإمام الشيرازي في حياته الشخصية التي قدّم فيها دروسا في السلوك اللاعنفي المستمَد من رؤيته ونظريته في اللاعنف.

تنبّهَ الباحثون إلى هذه الخاصية في فكر الإمام الشيرازي، وركّزوا عليها بوضوح، كما نجد ذلك في دراسة للدكتور أسعد الإمارة بعنوان (نظرية اللاعنف في فكر الإمام الشيرازي) يقول فيها:

يتصف الإمام محمد الحسيني الشيرازي في كتاباته بنوع من الروحية الخاصة، حيث يولي عنايته لمسائل عديدة ربما كانت لعلماء تخصصوا في علوم غير دينية، فهو استطاع أن يخلق نظرية متخصصة في اللاعنف أواخر القرن العشرين، بعد المهاتما غاندي، الهندي الذي تخصص في اللاعنف كطريق موصل إلى الأهداف السياسية، وبعد القس الزنجي الأمريكي (مارتن لوثر كينج) الذي اختط لنفسه خط المهاتما غاندي ولكن بتطبيقات في الواقع الغربي الأمريكي، أما السيد محمد الشيرازي، فقد وضع مبادئ لمواجهة اللاعنف واستقاها من المبادئ التي اعتنقها من الأصول الإسلامية المرنة القائمة على أسس مدرسة النبي محمد (ص) وسنته الشريفة وما قال به آل بيت الرسول (ع).

ولم يتوقف الأمر عند حدود التغيير السلوكي، واعتماد المنهج المسالم في علاقات الناس والأمم والدول فيما بينها، بل ذهب الإمام الشيرازي إلى أبعد من ذلك حين تصدى بقوة للموجات الفكرية التي حاولت الإساءة للإسلام، من خلال تصويره على أنه دين عنيف يلجأ إلى القوة في نشر أفكاره ومبادئه، وهو ما نفذته بقوة نظرية اللاعنف للإمام الشيرازي، وأثبت بالدليل القاطع سلمية الإسلام ونبذه للعنف، اعتماد على القرآن والسنة النبوية ومبادئ أئمة أهل البيت عليهم السلام.

نظرة اللاعنف مرآة كاشفة للتطرف

العناصر التكفيرية الضالة التي تُنسب نفسها للإسلام، لا يمكن أن تكون هي واجهة المسلمين الفكرية ولا السلوكية، والتطرف الذي بلغ بهذه العناصر إلى مستويات الجريمة، لن يمثل روح الإسلام ولا تعاليمه ومبادئه، وهذا ما ركّز عليه الإمام الشيرازي في نظريته اللاعنف التي جعلها كالمرآة الفاضحة لمن يريد أن يسيء للإسلام ويُلصق به تهمة اللاعنف وهو منها براء.

وهكذا اتخذ الإمام الشيرازي من مبدأ اللاعنف في المسارين الفكري والسلوكي، ردّاً على الموجات المسيئة للإسلام والتي سعت بكل ما أوتي لها من إمكانيات الإساءة للفكر الإسلامي الحق، مع التركيز على أن المسلمين لا يمكن أن يرتضوا للعنف أسلوبا لحياتهم أو للتعامل مع الآخرين، ولكن هناك من كان يخطط ويسعى بقوة لتشويه الإسلام ومبادئه التي تقوم على السلم والتنظيم والعدالة.

الدكتور الإمارة يؤكد ذلك حين يقول: يمثل أسلوب اللاعنف ردا على الذين شنوا الحرب على الإسلام، ويبدو أن الحرب التي شنتها فئة ضالة على البشرية ادعت الإسلام، جعلتهم يشتطون في حماسهم لمبادئهم المختّزلة للإسلام، فكأن الرد العنيف يأتي من اللاعنف بتبصير الشعوب والأمم بحقيقة اللاعنف كمنهج ينظم حياة المسلمين ويؤمن به المسلمون بكل مذاهبهم واتجاهاتهم.

ولم يكن منهج أو نظرية اللاعنف للإمام الشيرازي شعارا يسعى أن يتجمّل به، أو أن أفكاره ورؤاه في وادٍ والتطبيق في واد آخر، بل حرص الإمام الشيرازي على أن يكون أول المطبقين لهذه النظرية في سلوكه وعلاقاته اليومية مع الجميع، كما أنه أنطلق في ذلك من رؤية إنسانية شاملة، فأكد على أن التعامل اللاعنفي لا يشمل علاقات المسلمين مع بعضهم فحسب، بل أن علاقاتهم مع الأمم الأخرى ينبغي أن تتم في إطار اللاعنف، فنحصل بذلك على عالم خالٍ من التوتر والحروب.

لقد كان الإمام الشيرازي في حياته اليومية وفي علاقاته مع جميع من يحتك بهم ويعملون معه من مسلمين أو غيرهم، كان أمينا على التطبيق السلوكي الحرفي لللاعنف، وتوجد مواقف لا تزال تتوقد في ذاكرة الكثير ممن رافقوا الإمام الشيرازي في حياته ونشاطاته الهائلة، وكيف كان يتعاطى مع الشخص العنيف، وكيف يمتص إساءاته وعنفه ليعطيه درسا في السلوك الأخلاقي القويم.

خطوات عملية لصناعة عالم متوازن

بهذا تحوّلت المعرفة إلى سلوك، وباتت أكثر تأثيرا في الناس واتساعا بينهم، تواصل هذا المنهج في العلاقات العملية اليومية الفردية والجمعية للإمام الشيرازي، وشملت العلاقات التبادلية الجمعية بين أمة المسلمين والأمم الأخرى، حتى صارت أسلوبا مسالما جعل من الحياة أكثر جدوى، حتى أصبح فيها الإمام الشيرازي مثالا يقتدي به كل من رافقه أو قرأ أفكاره وتشبع بها.

يؤكد ذلك الدكتور الإمارة حين يقول: كان السيد محمد الحسيني الشيرازي يمثل في سيرته اليومية مبادئ رؤيته في اللاعنف وأسس نظريته أحسن تمثيل، وكان سماحته متوقد الذهن والضمير تجاه البشرية جميعها، نزيهاً مخلصاً مع ذاته أولاً، وانعكس ذلك على أخلاقياته في التعامل مع الآخرين، فحاز الإجلال الذي كان يحمله الآخرون له، فكان مثالا يقتدى خلال حياته وبعد وفاته.

وتلاقت أيضا المعرفة مع السلوك الاجتماعي في نظرية اللاعنف للإمام الشيرازي، فهي من جهة تطرح أفكارا معرفية بحتة تقوم على تشخيص مشكلات العالم ومن بينهم المسلمين، وفي نفس الوقت تقدم طروحاتها القائمة على تجنب العنف والتطرف والتشاحن غير المبرَّر، ومن جهة أخرى قامت هذه النظرية على تعميق الجانب السلوكي الإنساني، وترسيخ اللاعنف في البنية السيكولوجية للمسلمين، بل العالم أجمع مطالَب بالرضوخ إلى التطبيق السلوكي اللاعنفي.

وهذا ما أكّده الدكتور الإمارة حين قال: لقد أبدع الإمام الشيرازي بطرحه كنظرية معرفية تارة، وأبدع باعتباره شكّل مدرسة اجتماعية إنسانية ذات أبعاد سيكولوجية لمبدأ اللاعنف تارة أخرى، فضلا عن العنصر الفعال في العمل والسلوك أو التنظير العقلي تارة ثالثة.. فقد نسج نظرية واتجاهات حديثة متجانسة عن اللاعنف، تناول خلالها رؤيته وأفكاره وأسلوبه العملي وخلفيته كإطار نظري مرجعي للرؤية الإسلامية، ونجح في ذلك أعظم نجاح.

هي رحلة طويلة بدأها الإمام الشيرازي بالمعرفة والفكر، وركّز فيها على السلم كأسلوب منظِّم تقوم عليه العلاقات بين الأفراد والجماعات، من مسلمين أو غيرهم، العالم كله عليه أن ينضوي تحت خيمة السلام التي شكّلت العمود الفقري لنظرية اللاعنف للإمام الشيرازي، وجمعت بين قطبيّ المعرفة والسلوك، فمن خلال هذا النوع من الإقران (تحويل المعرفة إلى سلوك)، سوف يكون عالمنا أفضل، وهذا ما سعى إليه الإمام الشيرازي في نظرية اللاعنف.

اضف تعليق