q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

في وداع عاشوراء

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

ها أننا نودع اليوم الذي استشهد فيه سيد الأحرار، لكن هذه الذكرى تتجدد في كل عام، لتبقى عِبرة ودرسا لمن يبحث عن راحة الضمير من خلال دعمه لوقفة الحق، وصرخة الردع التي زلزلت عرش الطاغية يزيد، وظلت تتردد في ثنايا الزمن دونما توقف، لتشعل جذوة الرفض القاطع...

(أول دور للنساء في كربلاء هو إيصال مظلومية الإمام الحسين)

الإمام الشيرازي

ها أننا نودع اليوم الذي استشهد فيه سيد الأحرار، لكن هذه الذكرى تتجدد في كل عام، لتبقى عِبرة ودرسا لمن يبحث عن راحة الضمير من خلال دعمه لوقفة الحق، وصرخة الردع التي زلزلت عرش الطاغية يزيد، وظلت تتردد في ثنايا الزمن دونما توقف، لتشعل جذوة الرفض القاطع لكل الحكام المستبدين على مر التاريخ.

نعم هو يوم عاشورائي حزين، وليس هناك ما يماثله في الحزن والفجيعة، ولذلك نحن حزانى وأعني المسلمين، والبشرية كلها تحمل أعباء هذا اليوم وتستمد منه نهضتها، ولكي تنهل من هذا الدرس ما بقي الوجود قائما، وكلما عظم الحزن والألم واشتعلت الفجائع يصبح هذا الحدث الحسيني أقوى وأكثر تأثيرا ورسوخا.

يقول الإمام الصادق عليه السلام عن يوم استشهاد الحسين (ع): (وأما يوم عاشوراء فهو يوم أصيب فيه الحسين عليه السلام صريعاً بين أصحابه، وأصحابه صرعى حوله عراة... وما هو إلا يوم حزن ومصيبة دخلت على أهل السماء وأهل الأرض وجميع المؤمنين... وذلك يوم بكت عليه جميع بقاع أهل الأرض).

لقد اقترنت مفردة عاشوراء بمفردة تعادلها في القداسة، إنها (كربلاء) تلك الأرض التي دارت رحى معركة الحق والباطل فوق تربتها التي تطهرّت بدم سيد الشهداء (ع)، وهكذا صار (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء).

وهذا يعني أن البشرية كلها معنية بما حدث في هذا اليوم من أمر جلل، فالناس جميعا أينما كانوا يعانون من الاستبداد والظلم والفساد، ليس هناك دولة أو نظام أو أمة تخلو من معاداة الحق أو ينتفي من حياتها الاستبداد، والسعي لتغليب الباطل، ولذلك أصبحت الأرض كلها تتطلع بمن يقطنها إلى الخلاص.

ولكن هناك من يتساءل لماذا أرض كربلاء، هي التي صارت مسرحا لواقعة الطف؟، وسرعان ما تأتي الإجابة لتؤكد بأن كربلاء المقدسة هي التي وقع عليها الاختيار الإلهي، لكي تدور فيها وقائع الصراع الأزلي بين الشر والخير، بين الباطل والحق، وقد تأكد هذا الاختيار المسبق عبر أسانيد كثيرة أكدت أن (كربلاء) تم اختيارها قبل معركة الطف، لتكون المكان الذي تدور فيه هذه الجلجلة.

اختيار إلهي لأرض الطف

يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (المعصوم الخامس: الإمام الحسين بن علي):

(اختار الله البقعة المباركة من أرض العراق وهي كربلاء المقدسة لتضم الأجساد الطاهرة التي حلّت بها، وكل من مرّ بكربلاء من الأنبياء والأوصياء (ع) تذكر مصرع الإمام الحسين عليه السلام والخيرة من أهل بيته وصحابته وبكى عليهم وواساهم بدمه أو غير ذلك. وفي الخبر أنّ أمير المؤمنين عليه السلام لما نزل كربلاء في مسيره إلى صفين، أخذ من تربتها المباركة وشمّها، وقال: واهاً لكِ أيتها التربة ليحشرن منك أقوام يدخلون الجنة بغير حساب ـ ثم قال ـ طوبى لكِ من تربة عليكِ تُراق دماء الأحبة).

إذاً ذكر أنبياء وأوصياء أن أرض كربلاء سوف تشهد الفاجعة، وسوف تدور المعركة بين قلة من الرجال المؤمنين بالحق، والداعين إلى رفض الظلم، والمحاربين للاستبداد والمستبدين، وبين كثرة ممن أخذتهم رزايا الدنيا ومباهجها الرعناء، وأغلق بصائرهم الزيف، وخدعهم لمعان المغريات الكاذبة.

الحسين (ع) كان يعرف أن الشهادة بانتظاره، وكان يمكنه تفادي الموت، ولكن عرف (ع) أن ثمن ذلك كبير ومصيري، فأما يتم إعادة الإسلام إلى الجادة الصواب، وتتم معالجة ظواهر الانحراف التي ألحقها الطائش المستبد يزيد بالدين، وأما تستمر ماكنة الانحراف بالمضي قُدما وهذا هو عين المحال، فكان خيار الحسين وأصحابه الأطهار (الشهادة والخلود)، ولذلك كانت النساء خير امتداد له (ع).

الدور الذي تصدت له زينب الحوارء (ع)، كان حجر الزاوية في انتشار القضية الحسينية ورسوخها، وإلحاق الهزيمة الكبرى في الإعلام الأموي المضلِّل، إذن كانت النتائج في هذا الصراع محسوبة، والأدوار محددة مسبقا، وليس تردد أو خوف من توصيل القضية الحسينية بحذافيرها إلى العالم أجمع، وهذا بالضبط ما قامت به النساء، وقادته الحوراء زينب (ع) على أفضل وجه.

عاشوراء والدور الإعلامي للحوراء

وكان لكل امرأة دورها الكبير والمحسوم والمحدّد، حيث الفصاحة والبلاغة التي صيغت بها خُطَب زينب عليها السلام، وقوة الشخصية التي تحلت بها، والصوت الخطابي الجهوري الواثق الذي أدخل الرعب في قلوب معسكر يزيد، وكسْب قلوب الناس الذين عرفوا بحجم الفاجعة، وبقداحة الجريمة النكراء التي ارتكبها أعداء رسول الله (ص) في سبطه وذويه وأصحابه الأطهار.

هكذا كان تأثير دور النساء في فضح يزيد وأدواته من الخانعين المخذولين المتمسكين بأذيال القبح، فكل امرأة منهن عرفت دورها جيدا، وتصدت له بصورة أجود، فكانت أصواتهن الصادحة بمثابة الجحفل الإعلامي الذي كشف وفضح ما أقدم عليه يزيد وزبانيته، من أفعال يندى لها الجبين، مستهدفا بها أبناء نبي الإسلام محمد (ص)، متجاوزا في ذلك جميع الخطوط الحمراء دونما تردد.

فكان الخذلان بانتظارهم، والفضيحة هزّت كيان دولتهم الظالمة، وتلطخت أيديهم بدماء أشرف خلق الله، وتجاوزت على الدوحة المحمدية، في فضيحة تصدت لها النساء الزينبيات وعرّت أفعال يزيد النكراء وجيوشه المجبولة على الظلم والاستهتار والمشبعة بالاستبداد وزيف الدنيا.

الإمام الشيرازي يؤكد ذلك في قوله:

(كان الإمام الحسين (ع) عالماً بما ستقوم به النساء من بعده وكيف أنهن سيوصلن للعالم على مرّ العصور صوت النهضة الحسينية، ويفضحن بني أمية ويحافظن على أهداف الثورة سالمة. فأول دور للنساء في كربلاء هو إيصال مظلومية الإمام الحسين (ع) الذي قُتل ظلماً وعدواناً، وقد قامت كل من النساء بدور خاص، فالسيدة زينب (ع) بخطبتها ومواقفها الحاسمة، والسيدة أمّ كلثوم بتأجيج الضغائن ضد الطاغية، والسيدة سكينة ورملة وليلى وغيرهن (عليهن السلام) بتعميق المأساة. ولولا هذه المواقف الخالدة للنساء في كربلاء لكانت كربلاء غير ما هي عليه اليوم).

نعم لقد أدت النساء دورا إعلاميا عظيما نصر الحق، وأوصل القضية الحسينية إلى الجميع، وأعادت حملة الحق الإعلامية الأمور إلى نصابها بعد أن حاول الإعلام المضلل خلط الأوراق، والتعتيم على حقيقة انتساب المعسكر الرافض ليزيد بأنه لا ينتمي إلى نبي الإسلام، لكن الإعلام الحسيني المضاد الذي قادته السيدة زينب (ع)، أظهر فضيحة يزيد للملأ، وعرف الناس جميعا ما أقدم عليه من فعل شنيع.

ومما يُذكر قبل خروج الحسين (ع) إلى الحجاز ثائرا، إكثاره من قراءة الأدعية، وإصراره على اصطحاب النساء، وقد عرفنا الهدف من ذلك، بعد أن قامت زينب الحوراء والنساء الأخريات بأدوارهن الإعلامية الخالدة، ومع موجات الحزن التي تنقض على قلوبنا ونفوسنا، نتطلع إلى نصرة واقعة الطف والانتصار بها.

وها أننا ونحن نودّع يوم عاشوراء، نستذكر بدايات الحملة الحسينية، وتلك الأدعية الكريمة التي تعودُ للإمام الحسين (ع)، والتي كتبها في لغة تشعّ بلاغةً وبيانا وإيحاء، وتفوح حزناً وخشوعا وتقربا إلى الله تعالى، لاسيما أن سيد الشهداء (ع)، كان قد أكمل استعداده للخروج من الحجاز، والانطلاق نحو كربلاء، لبدء جولة (الطف)، وكسر شوكة الظلم والاستبداد الذي أساء للإسلام والمسلمين.

فقد ورد في كتاب الإمام الشيرازي نفسه قول الإمام الحسين عليه السلام في دعائه المعروف بدعاء عرفة: (إلهي وصفتَ نفسك باللطف والرأفة لي قبل وجود ضعفي، أ فتمنعني منهما بعد وجود ضعفي. إلهي إن ظهرت المحاسن مني فبفضلك ولك المنة عليَّ، وإن ظهرت المساوي منّي فبعدلك ولك الحجة عليَّ).

نعم نحن نودّع عاشوراء، لكننا نتمسك بالحزن، وبالمبادئ التي دعا إليها الإمام الحسين، والقيم التي ثار لترسيخها، لنجعل منها لصيقة بحياتنا، ومنظِّمة لها، كي يعود المسلمون إلى سابق عهدهم، أمة قادت الأمم وأضاءت لها دروب العلم والسلام.

اضف تعليق