q
إن ابتعاد الاعلام الساخر في ثوبه الجديد عن الأدب الساخر في زمانه الجميل عندما كان في قالب العمود الصحفي الساخر، او في لوحات الكاريكاتير، أبعد السياسيين الفاسدين عن احتمال التغيير الحقيقي المرجو من جماهير الشعب، وربما يكون هذا السياسي او ذاك من أكثر المقهقهين على البرامج الساخرة التي تطالهم...

من أهم ما يشغل بال الإعلامي؛ بمختلف انماطه ومسمياته، تحقيق النجاح في السير على خطين متوازيين؛ أن يكون ضيفاً عزيزاً بين افراد الأسرة، يشاركهم مائدتهم المعنوية بتقديم الأفضل، من المعلومة الجميلة والمفيدة، والفكرة السديدة، وايضاً أن يطرق أبواب الحكام بقوة للتنبيه على حالة فساد، او انحراف، او مظلمة يتعرض لها الناس.

سرعة التحولات السياسية، وسرعة التطورات التقنية في عالم الاتصال، حفّز عدداً من الاعلاميين العرب للبحث عن أسرع الوسائل لمواكبة الاحداث السياسية والوصول الى المخاطب (الناس) في آن، ومن جملة هذه الوسائل؛ السُخرية.

ولا أضيف جديداً على المختصين بالشأن الاعلامي، و ايضاً القراء المتابعين، القول: أن الاعلام يبقى وسيلة لنشر الوعي والافكار والمعلومات للمخاطب الذي يحظى بصحافة متخصصة حسب موقعه ومستواه الثقافي، فهناك الصحافة الاقتصادية، والصحافة الرياضية، وصحافة للمرأة، وصحافة للفكر، الى جانب الصحافة العامة التي تعد الشأن السياسي عمودها الفقري، وتعد نفسها حلقة الوصل بين الجماهير العريضة وبين أهل الحكم، او مؤسسات الدولة بشكل عام.

وإذن؛ فهي رسالة انسانية واخلاقية قبل ان تكون أي شيء آخر، أدواتها التحليل والتحقيق في المعلومات، وتحري الدقّة، والبحث عن الحقيقة باسلوب رصين وعلمي يخاطب العقول ويثير دفائنها للتفاعل مع الاحداث والقضايا الساخنة، وهذا ما صعّب أمر إقحام اسلوب السخرية في العمل الاعلامي، فالمعروف قديماً أن السخرية كانت جهداً فردياً وذاتياً، وعندما التحمت مع فنون التعبير الأدبي صارت "أدباً ساخراً" له مساراته وغاياته، انطلق منذ أمد بعيد، ولعل من أبرز مراحله؛ العهد الجاهلي قبل فجر الإسلام، وظهوره على شكل "هجاء" ليكون سلاحاً يواجه به المشركون، رسول الله، صلى الله عليه وآله، وما جاء به من قيم وأحكام سماوية، ثم تطور في الغرب ليكون أحد وسائل التغيير الاجتماعي والسياسي في قالب "الكوميديا السوداء"، التي تثير الضحك في حركات الممثلين على المسرح او في المقالة او غيرها، وفي نفس الوقت تثير مشاعر السخط والاستنكار من صاحب الخطأ او المسبب للظاهرة السيئة في المجتمع.

واذا كان هذا الأدب أمضى مراحل تطوره في الغرب، مع التطور الفكري والثقافي، وصولاً الى التطور السياسي، ليحتل مكاناً له في كيان الصحافة والاعلام، فان المجتمع الغربي كان قد أمضى عدة قرون من التجربة الديمقراطية، و وجود برلمان ونواب يمثلون الشعب، وإن كانت بحدود وأنماط معينة، بينما نلاحظ السرعة الفائقة لاقتحام هذا الأدب للسياسة في المجتمعات الشرقية، والعربية تحديداً في وقت بعد لم تجرب نفسها في الحديث المباشر والجدّي مع المسؤول (الحاكم) وتطالبه بما يجول في خاطرها ويعتلج في صدرها طيلة قرون من الزمن، فهي بالكاد تتملك الشجاعة للمطالبة بحقوقها من الحرية والعدالة والمساواة، وفجأة ترى أنها مدعوة، وبقوة لحفلات سخرية واستهزاء بلا حدود من مختلف وسائل الاعلام من مسؤولي الدولة، وكل من يرتكب خطأ ما، حتى وإن كان إمام جماعة في مسجد!

حدود السخرية وضوابطها

بما أن "الاعلام الساخر" ركب قطار السياسة في البلاد العربية، وحتى الاسلامية، فان العاملين فيه يتمسكون بشعار الحرية على طول الخط، وأنهم يمثلون التظاهرة الجماهيرية ضد الاستبداد، والطغيان، ومصادرة الحريات، وعليه؛ من الصعب تحديد أطر –كما يقولون- قانونية او حتى أخلاقية لهذا الخطاب، إنما هم أشبه ما يكونوا رسُل الشعب الى الحكام الفاسدين!

هذا الاندفاع العاطفي يضع هذا الاعلام، واصحابه أمام تحديات صعبة أهمها:

1- كيفية التفريق بين السخرية من شخص الحاكم المخطئ، وحالة الخطأ التي يقول جميع الساخرين أنهم يستهدفونها فقط دون شخص الحاكم، على أنهم لا مشكلة شخصية لديهم معه، بيد أن النتائج تفصح عن شيء آخر، فالمشاهدين يضحكون ويهزؤن من الشخص قبل الالتفات الى أصل المشكلة، وهذا ما بينه باسم شريف، صاحب أول مبادرة للبرامج الساخرة في الشاشة العربية، عندما سئل في منتدى الاعلام العربي حول "الاعلام الساخر" بدبي (2013)، عن حدود السخرية، فسارع للرفض وانه "لا يقبل بوضع أي قيود على محتوى ما يقدمه، ما دام أنه ينتقد مواقف وتصرفات الأشخاص، ولا ينتقد الأشخاص أنفسهم".

وفي نفس المنتدى كان للاعلامي سامي الريامي رأياً آخر بأن "هناك خيطا رفيعا للغاية، بين الإعلام الساخر والتجريح، الذي يعتبر أمرا مرفوضا يخرج الإعلام من نطاقه الأخلاقي، لافتا إلى أهمية مراعاة الحساسية الاجتماعية والعادات والتقاليد، عند إصدار الرسالة الإعلامية، وإلا كانت الاستجابة معاكسة للاستجابة المرغوب فيها".

2- معايير النشر بيد من تكون: للرقيب المرفوض من الساخر أساساً؟ أم من المشاهد المأزوم والمعطّل ذهنياً تحت وطأة الفقر والتمييز والفساد؟

جميع العاملين في هذا المجال يصرحون بمبدأ الاحتكام الى الجمهور فيما يقبلوه او يرفضوه، كما يتحدث اصحاب البرامج المثيرة للغرائر الجنسية، بأن بالامكان عدم مشاهدتها والانتقال الى محطة اخرى! ولم يوضح هؤلاء آلية استحصال الرأي المعارض، ليس لجمهور البرامج الساخرة فقط، وهم الشباب على الأغلب، وإنما من عامة الجماهير، كون محبي هذه البرامج يعيشون ضمن أسر وعوائل فيها الشيخ الكبير والأم والاطفال.

3- القيم الأخلاقية والدينية الحاكمة في المجتمعات العربية والاسلامية، هي الاخرى تشكل تحدياً كبيراً لاصحاب هذا النمط من الخطاب مهما كانت شرعيته ومبرراته، فان فضح المسؤول الفاسد لا يتطلب بالضرورة استخدام الالفاظ النابية مما يحكم الربط بين نقد ومعارضة رجال الدولة الفاسدين واستخدام هذه الالفاظ، على أنها الأجدر بشخصيتهم! وهو ما من شأنه إعداد الارضية لفوضى أخلاقية في المجتمع تجعل افراده ينقلبون على ذواتهم ومناهجهم التربوية قبل الانقلاب على الساسة اللصوص وتهديد مناصبهم ومصالحهم، ولذا فان "السلم المجتمعي يحدد قواعد لاحترام حرية التعبير دون الاستهزاء من الآخرين، والقواعد الاخلاقية تحمي حرية التعبير"، يقول أحد الاعلاميين العراقيين.

كيف نحمي عقل المخاطب؟

عندما يناقش الاعلاميون في منتدياتهم وبحوثهم "الاعلام الساخر"، نراهم في كثير من الاحيان يلجأون الى الاخلاق في اشارتهم الى نتائج وافرازات هذا الاعلام، وهذا دليل صحّة على حرص هؤلاء الأفذاذ في حماية العقل من الميوعة والتحلل، وتغليب العواطف والمشاعر مما يؤدي الى فقدان المخاطب الحصيف والمتفاعل مع الآراء والافكار الواردة في وسائل الاعلام.

إن ابتعاد الاعلام الساخر في ثوبه الجديد عن الأدب الساخر في زمانه الجميل عندما كان في قالب العمود الصحفي الساخر، او في لوحات الكاريكاتير، أبعد السياسيين الفاسدين عن احتمال التغيير الحقيقي المرجو من جماهير الشعب، وربما يكون هذا السياسي او ذاك من أكثر المقهقهين على البرامج الساخرة التي تطالهم، كما هي مشاعر المسؤولين في الغرب عندما يرون صورهم في الرسوم الكاريكاتورية في الصحف والمجلات، وهي تبين احداث ومواقف لهم، مع بعض الاخطاء هنا وهناك، بما لا يسبب أي تجريح لهذا السياسي في نفوس جماهيره، نفس الأمر في بلادنا، ومنها العراق، فان التجريح والاستهزاء بهذا او ذاك، لن يقلل من شأن القاعدة الجماهيرية لهذا او ذاك، كما لم يغني المشاهد الاخر بأي إضاءة او اقتراح ما يجب فعله.

واذا اردنا الاستفادة من التجارب التاريخية بالامكان استحضار تجربة المجتمع المكّي مع رسول الله في فجر الدعوة، وعندما صدح بالرسالة السماوية، فمن أبرز وسائل مواجهة هذا الخطر الداهم على ثقافتهم وتراثهم الجاهلي؛ الاستهزاء الذي جاء ذكره كمفردة في استخدامات عديدة بالقرآن الكريم، وفي الوقت الذي كان الرسول يثير دفائن العقول ويسعى لإخراج الناس من عبادة الأصنام، والذوات، وتكريمهم بالحرية والقيم الانسانية، كان أقطاب القوم من أصحاب المصالح الاقتصادية يلجأون الى اسلوب السخرية والاستهزاء في قالب الهجاء في الشعر، من اجل تغييب العقل عن تقييم ما يتحدث به رسول الله، والاستغراق في الضحك عليه.

وقد فطن العلماء والباحثون الى ميول الانسان النفسية نحو الاسترخاء والانبساط بواسطة الضحك، وهو ما يسعى لاستغلاله اصحاب المصالح والغايات البعيدة عن العقل والحكمة والبناء الانساني بحجة تفريغ شحنات الغضب إزاء أخطاء معينة دون القطع بجدوائية عملية التفريغ هذه في حل المشكلة من جذورها، او حتى الإسهام في الحل.

........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق


التعليقات

عبدالعالي الزواوي
ليبيا
كلام واقعي و تحليل في منتهي الدقة2021-11-27