q

من الغايات المشروعة أن يسعى البشر صوب الكمال، وأن يلج كل الدروب المتوافرة حتى يجد له موطئ قدم في مملكة الكمال، إنها ليست ضربا من الخيال، ولا هي قمة تقع في قيد المحال، ذلك أن الكمال ليس من فروع المستحيل ولا يتبع له، ونحن هنا نستمع مرارا وتكرارا لجملة أثيرة الى النفس، ونثق بمضمونها، فحين يقول أحد الحكماء (إن الكمال لله)، فليس في هذا خطأ، ولكن في نفس الوقت، لا يعني هذا أن يتوقف الإنسان ويكف عن التسلق نحو المجد والتفوق، بل عليه مواجهة مكابدات الرغبة العارمة ويغذّ الخطى قُدُماً.

إن مجرد كلمة تثبيط يمكن أن تهزم شخصية الإنسان، وقد تكون مفردة إطراء واحدة سببا في دفع البشر خطوات مهمة وكبيرة نحو الهدف، هذا يدخل في باب هوس الناس بالكمال، يرغب الجميع أن تُلصَق بهم توصيفات المديح، فيُقال عنهم بأنهم مثابرون متميزون متكاملون، وفي نفس الحين يرفضون أن يسمهم أي شخص بالجهل أو افتقاد الكمال، هكذا هي تركيبة البشر، فحب الكمال زُرِع في سريرته، وضمن تركيبته العقلية والنفسية، ولا ضير في هذا، إنه الدافع الذي يحث البشر على المُضيّ الى أمام.

في إطار هذا المعنى هنالك كلمات للسيد المرجع صادق الشيرازي يأتي فيها أن (الإنسان مفطور على حب الكمال، فحتى الذي ليس عنده علم يحبّ أن يقال عنه عالِم، ويفرح بذلك. كما أنّ الجاهل لا يرضى أن يقال عنه جاهل وإن كان كذلك حقيقة. وهذا إنّما يدلّ على أنّ العلم له واقعية والجهل كذلك/ المصدر كتاب العلم النافع).

واقع الإنسان يزج به في هذا المسعى، إنه لا يقبل أن يسمه أحدهم بالجهل، كما يرحب أكبر الترحيب بمن يطريه ويشيد بشخصه ويُلصق به صفات التفوق والامتياز، وهذا كما سبق ذكره جزء من تركيبة البشر العقلية والنفسية، ولكن حين يقتحم الإنسان، سواء بصفته الفردية أو بصفة الانتماء لجماعة، معترك الحياة ويشق طريقه في مضامير العمل المغايرة، سوف يواجه عقبات لا حدود لها، والكثير منها قد تكون غير محسوبة، فتصبح مفاجأة من العيار المدمّر للشخصية، في مثل هذه الظروف المتشابكة والمعقدة، هل ينسحب الإنسان عن طموحه في تسلق سلالم الكمال لبلوغ سقوف المجد العالية؟.

بالطبع لا مجال للتلكؤ أو التردد أو التثبيط أو الانهزام، إلا في حالة يسلّم الشخص مصيره في يد اليأس والانحدار نحو الضمور التدريجي ومن ثم الفشل التام والعيش في الهامش ومن ثم الموت، ولكن هل هذه هي غاية خلق مجيء الإنسان للدنيا، أم أنه جزء من ديمومة البناء البشري وبلوغ الكمال، بالطبع كل فرد ينتمي للبشرية عليه دور معروف رسمته له الذات الإلهية، فهو مطالب بأن يعبر بوتقة أو قاعة الاختبار بنجاح، وهذا يجعله مطالب بعبور (الدنيا) بنجاح عبر دور مثالي، فلا يصح أن يستكين الإنسان تحت أي مبرر أو حجة، ذلك أن الذات الإلهية تطالب العباد بترك بصمة الخلق في الوجود، مع مراعاة عبور (الدنيا) بنجاح، فلا يجوز أن ينعزل الإنسان ولا يتحرك ولا ينتج مخافة ارتكاب الذنب ومن ثم فقدانه للسعي صوب الكمال، ذلك أنه مطالب بترسيم خريطة شخصية تقوده نحو السمو والمجد.

هذا التحدي يصنع نوعا من المواجهة والتحدي بين الإنسان وبين طبيعة نشاطه وحيثيات حركته وهو يسعى صوب سلّم الكمال، لكن مع ذلك عليه أن يتسلح بكل وسائل التفوق كالإخلاص والصدق والذكاء وقوة الإرادة والإيمان والإنصاف وسوى ذلك من الخصال الحميدة، من حق الفرد التحرك بعد رسم الأهداف، ليس هذا فحسب، إن كل بشر مطالب بأن ينشط وينتج ويواجه العقبات، ولكن عليه في نفس الوقت أن يحتمي ويتدرع بالقيم حتى لا يكون ظالما، أما كيف يتمكن من ذلك، فإن مراجعة النفس ودعمها بالثوابت تمثل طريقة مثلى لضمان هذه القضية.

السيد المرجع الشيرازي ينبّه على ذلك ويطالب الناس بأهمية الاحتراز والتحفظ ضد الخطيئة، فيقول سماحته: (لنبدأ من الآن في مراجعة أنفسنا كلّ يوم، كلّ في مجال عمله، ولنزنها قبل أن يصعب الأمر علينا أكثر، وقبل أن تصيبنا الغشاوة التي تكون مانعاً من نفاد نور اليقين والعلم إلى أعماقنا/ نفس المصدر السابق). المراجعة طريق لمواصلة الطريق نحو الكمال في إطار حركة نشاط وإنتاج الفرد والجماعة.

وهكذا يتراءى لنا الهدف جليّا ساطعا، فنحن نريد بلوغ الكمال ونكابد العقبات المضادة، نغذّ السير صوب سلّم المجد، تستمر تعترض طريقنا معضلات لا حصر لها، نتعامل معها بحكمة وصبر وذكاء وإيمان وعلمية، لا نكلّ ولا نجزع ولا ننهزم، ولا ننكفئ بحجة عدم المساس بحقوق الناس في احتدام المصالح، كلا أنت مطالب بالوصول الى أهدافك بشرف، فالقمة التي تلوح لك في الأعالي، ينبغي أن تبقى هدفك، ولكن حذارِ من الارتماء في أحضان الخطيئة والظلم والدس والرياء، فلا خير في كمالات مصدرها طريق الشر.

في الأخير هي لحظة احتدام أو كفاح محتدم بين أن تحافظ على نشاطك المشروع للتقدم وبلوغ القمة، مع مواجهة صدمات وعوائق وأزمات مفاجئة، وأهم اشتراط هو عدم الركون الى الانكفاء والعزلة والهرب من الدور الذي يقع على كاهل الإنسان، فالأمر في حقيقته محنة اختبار، ليس أمام الكائن البشري إلا أن يجتازه بنجاح وشرف وضمير ناصع البياض، فمع سعيك فوق سلالم المجد عليك بالكفاح العادل الشريف المنصف لبلوغ ما ينبغي أن يبلغه كل إنسان يمنحه الله فرصة الاختبار الدنيوي.

اضف تعليق