q

يشكل الفكر في مختلف مجالات الحياة الإنسانية ضرورة حتمية لتطورها، فالإنسان كائن يتأثر بالمنتج الفكري ويجد فيه العلاج لمواجهة مشاكله الحياتية، وهذه الصورة لا تخص مجتمع دون آخر، لكن المختلف في الأمر هو إيمان المجتمعات المتقدمة بأهمية ودور الفكر من أجل إستدامة تقدمها بالمقارنة مع المجتمعات المتخلفة التي لا تعتمد الفكر لتطور مجتمعاتها، ولا تزال تركن إلى تفسيرات ماضوية في حياتها، يصيبها الركود وتجد في الماضي وأطروحاته وتفاسيره في التعامل مع مشاكلها اليومية، مما يشع على سيادة التطرف الفكري والسلوكي.

إذا كان هذا الأمر يشمل مجمل مجالات الحياة فهو في المجال السياسي أوسع وأهم، وذلك تأثر الفعل السياسي في حياة الإنسان كفرد وحياة المجموع كمجتمعات، وفي هذا الإطار عند البحث في الفكر السياسي الأمريكي سوف نجد بأنه يسعى إلى تقديم منتجه الفكري من أجل تنظيم الحياة السياسية، لكن هذا الفكر يتنوع بتنوع المجتمع ومعادلات توزيع السلطة والثروة فيه، فالمجتمع الأمريكي سياسياً ليس واحدا، حيث تتعدد إتجاهاته الفكرية بتعدد إتجاهاته السياسية والعكس صحيح، لذلك يبحث كلا الطرفين السياسي والفكري عن الطرف القريب أو الأكثر إنسجاماً معه.

وإذا فصلنا أكثر في الموضوع نجد أن الفكر السياسي الأمريكي في إطاره العام منقسم إلى مدرستين فكرية وهما: مدرسة المحافظين والتي يمثلها سياسياً الحزب الجمهوري، والمدرسة الليبرالية التي يمثلها الحزب الديمقراطي. وكلا المدرستين تسعى فكرياً وسياسياً من أجل إستدامة وجودها، فينشط الفكر المحافظ في تقديم منتجه الفكري الذي يمكن الحزب الجمهوري من الإستمرار سياسياً وينشط الفكر الليبرالي في ذات الشأن بالنسبة للحزب الديمقراطي، وإذا كان الفكر المحافظ يعمل جاهداً على تقوية الدولة والتأكيد على نخبوية السلطة والثروة والحفاظ على الجوانب الثقافية (الدين) والهوياتية، والتأكيد على المشروع الحر إقتصادياً الذي يكون دور الدولة فيه محدود، والدعوة إلى إنغماس أكثر في السياسة الدولية وإعتماد القوة لتحقيق ذلك، فإن الفكر الليبرالي يسعى للإهتمام بتوسيع أكبر للحريات ويدعو إلى الإهتمام بالملف الإجتماعي، ولا يدعو إلى إعتماد القوة في السياسة الدولية.

إذا كان جدلية الفكر والسياسة المتبادلة في أمريكا تسعى إلى التكيف مع مستجدات الحياة، نجد بأن الفكر المحافظ والليبرالي قدم الكثير من المنتج الفكري في المجال السياسي والإجتماعي والثقافي قديماً وحديثاً، مما يجعله صالح للإستخدام عند الحاجة، والمميز في العلاقة بين الفكر والسياسة هذه المرة هو إعتماد القوى السياسية الأمريكية على أطروحات فكرية سابقة لمواجهة مشاكل الحاضر وهذه الصورة برزت في تسعينيات القرن العشرين، حيث توجه المحافظون نحو أفكار أقصى اليمين ليجدوا ضالتهم في أفكار (ليو شتراوس) التي وفرت لهم إطارا للعمل السياسي وخاصة بإعتماد الرئيس بوش الأبن على الكثير من تلامذة شترلوس ليكونوا في مواقع صنع القرار السياسي الأمريكي باسم (المحافظون الجدد)، ولكن بنكه أقرب إلى الفكر السلفي الذي يرفض الواقع ويعتمد الماضي مصدرا في بناء الحاضر.

هذه النزعة نحو ماضوية الفكر لم تقتصر على المحافظين، وإنما شملت الليبراليين الذين ذهبوا أكثر نحو إعتماد الفكر اليساري، حيث يرون بأن الحكومة يجب أن تتدخل لصالح الإنسان (عكس مبدأ الحد من تدخل الحكومة)، أي أنها يجب أن تقضي على الفقر والمرض والجهل والتمييز، من خلال برامج ومن خلال التعليم المجاني، ويمثلها سياسياً الرئيس الأمريكي السابق (أوباما) في مشروعه الصحي (أوباما كير)، وفي الجانب الإقتصادي يمثلها جيداً الإقتصادي الحاصل على جائزة نوبل بول كروغمان في قوله: "أنا أؤمن بمجتمع متساوي نسبياً بدعم من مؤسسات تحد من المغالاة في الثراء والفقر وأؤمن بالديمقراطية والحريات المدنية وحكم القانون وذلك ما جعلني ليبرالياً وأفتخر بذلك".

من خلال ما ذكرناه أعلاه نرى بأن كلا من المحافظين والليبراليين لم يجدوا في الطروحات الفكرية المعاصرة الحل في معالجة المشاكل السياسية والإجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع الأمريكي مما جعلهم يذهبون نحو رؤية سلفية تجد الحل في أفكار أقصى اليمين أو اليسار. فشل كلا المنظومتين الفكرية والسياسية في تقديم معالجات سياسية وفكرية معاصرة تنسجم مع متطلبات المجتمع الأمريكي، كان له الأثر الكبير في فوز الرئيس (دونالد ترامب) من خارج المنظومتين الفكرية والسياسية التقليدية في المجتمع الأمريكي.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2017Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق