q

الفساد يبحث عن البيئة التي تناسبه كي يولَد فيها وينمو ويصبح واقعا يصعب القضاء عليه، فما هي هذه البيئة ومن الذي يخطط لها؟، العامل الأهم لتكوين بؤرة الفساد هو الجهل، الذي يؤدي إلى نخر الفرد والمؤسسة والحكومة والدولة، وبالتالي تتشكل البيئة المناسبة لولادة وترعرع ونمو الفساد، وحين نبحث الآن عن هذه البيئة سنجدها في كل دول العالم، ولكن بنسب متفاوتة، العراق اليوم يحتل نسبة عالية بحسب منظمات عالمية مختصة، فهل هناك خريطة عمل ممكنة وقادرة على وأد هذا الخطر والقضاء عليه؟.

من القضايا المهمة التي يؤكد عليها علماء الاجتماع والاقتصاد وغيرهم، أن الجهل لا ينمو ولا يعيش إلا في دهاليز الظلام، كما هي العناكب التي تهرب من الضوء إلى الزوايا المظلمة، والفساد والجهل صنوان، لا يفارق أحدهما الآخر، فأينما وُجد الجهل والظلام، يوجد الفساد ويزدهر في الخفاء والظلام، حيث تتحرك فيه كل عناصر الشر التي تخشى العمل والتحرك تحت ضوء الشمس، أو تخشى الوضوح والشفافية والعمل أمام مرأى الجميع.

إذاً في آلية القضاء أو الحد من الفساد، تبرز الخطوة الأولى وهي العمل بوضوح بعيدا عن التخفي أو اعتماد سبل الخداع، لهذا لابد من شيوع الشفافية في حركة الإنتاج بجميع أشكالها وأصنافها ونوعياتها وانتماءاتها أيضا، بمعنى يجب أن تكون جميع الأنشطة الرسمية والأهلية، الفردية والجمعية التي لا تدخل ضمن الأسرار الشخصية، تحت البصر والبصيرة، وحسبما يقرّهُ ويرتئيه القانون والقيم المعتمَدة، لكي نضمن تلاشي طبقات الظلام ونرى جميعا نتائج الحراك المجتمعي الرسمي وغيره، ونتجاوز حالات الفساد وشبكاته التي تجد في الجهل والتخلف والظلام مرتعا نموذجيا لازدهارها ونموها، وفي هذه الحالة، أي عندما تكون الخطوة الأولى في خريطة العمل لمكافحة الفساد، اعتماد الشفافية والوضوح، فإننا سنكون قد قطعنا شوطا مهما في مسعى القضاء على بؤر الفساد المعششة في بيئة الجهل.

خطوات القضاء على الجهل

الخطوة الثانية في منظومة العمل لمكافحة الفساد، بعد أن عرفنا الترابط الوثيق بين الجهل والفساد، فما على العاملين في هذا الطريق سوى العمل الجاد فكرا وتخطيطا وتطبيقا للقضاء على الجهل، لأن القضاء على الجهل أو تقليل نسبة تفشيه ينعكس مباشرة على إضعاف بؤر الفساد، وإذا كان الربط بين الجهل والفساد مفهوما، وواضحا، فإن العمل على إبطال أسباب الجهل تُصبح ملزمة للجميع، وخلاف ذلك، فإن القبول بالجهل والظلام وبالفساد نفسه، يعني أمرا مقصودا، هنا لابد أن تتحرك الجهات المعنية لاسيما الجهات والمؤسسات والمنظمات التنويرية منها، للقضاء على الجهل والظلام، كتمهيد لابد منه للقضاء على الفساد، وهذا لا يتم من دون خطط محكمة، يضعها متخصصون في هذا المجال، سواء كانوا من الداخل أو من خارج البلد، ممن لهم تجارب في مكافحة هذا النوع من الأمراض المجتمعية الاقتصادية الخطيرة، التي تستشري كما ذكرنا في المجتمعات القابعة في زوايا التخلف، يتبع هذه الخطوة، خطوة أكثر أهمية تتمثل بطريقة التنفيذ، أي بتحويل هذه الخطط المكافِحة لبؤر الفساد موضع التنفيذ المجدي، أي لا فائدة من التخطيط الجيد واعتماد خريطة عمل قوية ورصينة لمكافحة الفساد ما لم يسعى واضعوها إلى الجانب التنفيذي الصارم والدقيق.

تُرى ما هي الجهة المعنية بمكافحة الفساد، هل الأمر يتعلق بجهة رسمية محددة، بالطبع ستأتي الإجابة بالنفي، لأن الجميع معني بالقضاء على هذه البؤر المدمرة للمجتمع، ونعني بالجميع، ليس القوانين وحدها، ولا الدولة أو الحكومة أو منظمات المجتمع المدني وحدها معنية بذلك، فهناك دور مهم في خريطة مكافحة الفساد، يتعلق بالمنظمات الأهلية المعنية بهذا الأمر ونعني بذلك على وجه أخص منظمات المجتمع المدني ودورها الرقابي الصارم، بل هناك دور مهم جدا، يتعلق بالمواطن نفسه وسعيه الجاد في الإسهام الجاد بالقضاء على هذه الظاهرة الخطيرة، ولابد للمواطن كعنصر هام في المجتمع أن يبادر من موقعه الاجتماعي والعملي بصورة عامة لتقديم أقصى ما يمكن، إسهاما منه في الحد من تنامي بؤر الفساد ومعالجها من خلال عدد من الخطوات التي يستطيع من خلالها تخفيف سطوة هذه الظاهرة وأضرارها الفادحة التي لا تتحدد بإلحاق الضرر بشخصه أو عائلته فحسب، إنما تمتد مضاعفاتها إلى عموم أفراد وشرائح المجتمع، وما ينعكس من هذا الوباء من تداعيات خطيرة لا تستثني أحداً حتى أولئك الذين يسعون إلى صنع بيئة الفساد وإدامتها كونهم يستفيدون ماديا فيما يتعرض الآخرون إلى أضرار فادحة، ولكن حتى الفاسدين أنفسهم سوف تعيش عائلاتهم وأولادهم في مجتمع متخلف، وهذا ليس بصالحهم أو بعائلاتهم.

حملات للتوعية الفكرية والثقافية

ثمة خطوة مهمة أيضا ضمن خارطة طريق القضاء على بؤر الفساد، تخص إطلاق حملات توعية فكرية ثقافية سلوكية لنبذ ومحاربة هذه البؤر الخطيرة، فالجميع هنا مسؤول ولابد للمواطن أن يبدأ بنفسه في مسألة معالجة هذه الظاهرة، ونعني هنا امتناعه أولا عن تقديم الرشوة تحت أي مبرر كان، فلا يجوز للمواطن الواعي إعطاء الرشوة حتى لو تعلق الأمر بتسهيل معاملة أو إجراء معين، إداري كان أو غيره، بل لابد أن يبادر بفضح من يتعاطى الرشوة من دون خوف أو تردد، وبهذه الطريقة يكون المواطن قد تحوّل من عامل مساعد لانتشار الفساد إلى عنصر فاعل لمكافحته، بالإضافة إلى أهمية تطبيق إجراءات الردع القانوني المقترن بالتطبيق.

بالطبع ليس الحكومة وحدها معنية بذلك، ولا المنظمات ولا المواطن وحده بل حتى الموظف الحكومي نفسه معني بهذا الأمر، بمعنى أن هناك موظفين ملتزمين أخلاقيا ووطنيا ودينيا ولا يقبلون أية حالة للفساد مهما صغر حجمها أو أضرارها، وهذا النوع من الموظفين الحكوميين له دور كبير في معالجة ظواهر الفساد والمساعدة في القضاء عليها، حيث ينطلق هذا النوع من الموظفين من القاعدة التي تقول، إذا صلح المجتمع صلحت العائلة، وإذا صلحت الأخيرة صلح الفرد، ويمكن أن نعكس هذه القاعدة وتأثيرها.

ولعل التركيز على الوعي والتثقيف سيأتي بالمرتبة الأولى، كونه يتعلق بطبيعة شخصية المواطن والقيم والمبادئ التي يؤمن بها، ويوجّه سلوكه في ضوئها، هنا لابد أن نثبت أهمية نشر الوعي لمكافحة الفساد بين أفراد المجتمع كافة، من لدن المنظمات والمؤسسات المعنية بالأمر، وجعل ثقافة الزهد والنزاهة، هي الأكثر قيمة والأعلى مرتبة، من حالات الاختلاس أو تعاطي الرشوة وحالات الاختلاس وسواها، ومن المهم أن تبدأ ثقافة الزهد والنزاهة، من أصغر الأعمار وأصغر التجمعات الاجتماعية، ابتداءً بالتجمع او المحيط العائلي، ثم المدرسي، صعودا الى المراحل الأكبر، وذلك لنشر هذه الثقافة وجعلها سلوكا حياتيا معتادا من قبل الجميع، وإذا تم تطبيق هذه الخطوات بصورة دقيقة، فإن النتائج سوف تكون دقيقة وناجحة ومضمونة أيضا.

ومن ضمن خطوات خريطة العمل هذه، ما يتعلق بالقوانين الرادعة وكيفية تطبيقها بعدالة حتى على المسؤولين في الدولة والحكومة دون تمييز، إذ لابد من المبادرة بتجديد وتطبيق التشريعات والقوانين الصادرة بحق الفاسدين والمختلسين والمتجاوزين على المال العام، وإشعار من تدفعه نفسه نحو هذا الاتجاه بالخطر الذي يتعرض له، نتيجة لاقترافه جريمة التطاول على المال العام، وينطبق هذا على دور الأعراف والأخلاقيات التي تعيب مثل هذه التجاوزات على من يقترفها، وتجعلها بمصاف الأخطاء الأخلاقية التي تمس بشرف الإنسان الذي يقوم بها، وإذا ما تم تطبيق خريطة العمل لمواجهة الفساد بطريقة شاملة وباشتراك الجميع، فإننا نكون قد قطعنا خطوات كبيرة ومؤثرة وناجعة في إطفاء بؤر الفساد والقضاء عليها.

اضف تعليق