q
إن إشكالية الخضوع للحاكم حتى وإن كان ظالماً مستبداً تلاشت تماماً في زمننا الحالي بقيام الثورات الجماهيرية التي أزاحت كثيراً من الحكام، حتى مع كون شعوب هذه البلدان تنتمي على صعيد المعتقد للآراء القائلة بالطاعة والخضوع؛ لأن متغيرات الزمن وتطوراته تفرض أن يكون المعتقد متوافقاً مع العقل لا مع تخديره بمدونات أكل الدهر وشرب على ضروراتها ومصالحها وتناقضاتها.

مازالت العاطفة المتوارثة تحكم طبيعة نظرتنا أو أغلبيتنا كمسلمين وعرب على وجه الدقة للأشخاص الذين يحكموننا، فهالات التقديس المبالغ بها، والتي تقترب من التأليه مازالت حاضرة في أذهان كثيرين منا وكأننا نرسخ المقولة الفرعونية (أنا ربكم الأعلى). وبعد كل ما وصل له العالم اليوم من تطور مازالت بعض السلوكيات تدعم منطق الخضوع المذل للحاكم، والمستبد من الحكام على وجه الخصوص.

ولو أردنا تحليل ظاهرة الخضوع للحكام لوجدنا أن لفطرة الالتزام ببعض المُسَلَّمات الدينية حضوراً يكاد يربط بين هذه الفطرة وبين سلوك الخضوع،

ففي بعض المذاهب الإسلامية ثمة إشكالية كبيرة تتعلق بمفهوم (ولي الأمر) لدرجة أن بعض المذاهب تطلق هذا اللقب على كل من يتقلد الحكم في هذا البلد أو ذاك، وحتى إذا كان هذا الحاكم منحرفاً أو ديكتاتورياً ظالماً. وعلى التفسير الخاطىء لمفهوم (ولي الأمر) تجذرت ثقافات كثير من الشعوب الإسلامية، وتم ضبط سلوكيات الناس وفق هذه القاعدة التي ارتدت قميص الفقه والشرعية الدينية، رغم أن أحداثاً كثيرة يحدثنا بها التاريخ الإسلامي عن بعض الحركات المعارضة للحكام الظلمة والمفسدين، والتي كانت مدعومة من فقهاء تعرضوا لإيذاء السلطات، غير أن عقلية الخضوع ظلت هي المستمرة والمتواصلة حتى زمننا القريب قبل أن تندلع موجات ما يعرف اليوم بـ (الربيع العربي).

التوتر بين الحاكم والمحكوم

لا يوجد شيء يمكن له أن يوتر العلاقة بين الحاكم والمحكوم أكثر من انشغال الأول بملذاته وأطماعه ومصالحه الشخصية التي تضمن بقاءه متنعماً في السلطة على حساب معاناة الناس، لذلك نجد أن أكثر حالات الثورة على هذا الصنف من الحكام إنما حدثت للأسباب التي ذُكرت خصوصاً مع تكريس الحاكم لطبقية مقيتة تضعه وبطانته والمتملقين له تزلفاً في حالة من بحبوحة العيش ورفاهيته بينما نجد المخالفين أو لنقل المتحفظين على سلوكيات الحاكم وزبانيته يعيشون في فقر مدقع وعوز، حيث يتعمد حكام الجور ابقاء المعارضين في هذه الوضعية لضمان السيطرة عليهم وجعلهم خاضعين لهم ظناً منهم بأن سياسة التجويع والتدجين ناجحة في

إخماد الصوت الثوري المعارض الذي يمكن أن ينطلق من هنا وهناك لتأليب العامة ضدهم وضد سياساتهم. وطالما نحن في سياق الحديث عن العلاقة التي يحكمها الخضوع بين الناس ومن يحكمهم في إطارنا الإسلامي؛ فقد نجدنا نرجع قليلاً إلى أولى مؤشرات التوتر في العلاقة بين الحاكم والمحكوم والتي تعود لزمن عثمان الذي كثرت في عهده حالات التذمر من تكريس الطبقية التي زاد عليها بأن جعل له بطانة وحاشية من أفراد عشيرته وقد لعبت بمقدرات المسلمين، لدرجة ان يستلم صهره مروان ابن الحكم أموال خمس أفريقيا، بينما يتولى أخوه غير الشقيق الوليد بن عقبة ولاية الكوفة وهو المعروف بميله للخمر واللهو، وحادثة تعطيل إقامة الحد عليه معروفة بعد أن ثبت أنه صلى بالناس وهو سكران وغيرها من المآخذ الكثيرة التي أخذها المسلمون عليه في وقتها.

لقد كان للجانب الاقتصادي دوره في زمن عثمان حيث برز نمطان وقف الأول مع الحاكم لانتفاعه منه ومن عطاياه فساهم في تجميل صورته، بينما وقف النمط الثاني في جانب المعارضة رافضاً سياسات التمييز التي نبذها الإسلام المحمدي الأصيل وإذا به يرى من يحكم بصفة (خليفة) لنبي الإسلام يكرسها بأوضح الصور وبحالة من الغرور والخيلاء جعلته لايقيم وزناً لأحكام الشريعة، فالمهم عنده هو اتخاذ الاجراءات التي تديم زخم سلطويته دون أن يلتفت إلى أنها قد تطيح به مستقبلاً وتؤدي إلى مصادرة حياته. وقد ذكره أمير المؤمنين صلوات الله عليه في أهم وأشهر خطبه المعروفة بـ (الشقشقية) بقوله: "إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله ومعتلفه وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث عليه فتله وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته".

وكلما زادت مظاهر التمايز؛ زادت مساحات التذمر وعززت القناعات بعدم جدوى هذا الحاكم المفسد أو ذاك. ولكن، وبالعودة إلى أصل موضوعنا، ماهو الموقف الذي يتخذه الفقه إزاء الحركات الاحتجاجية الشعبية ضد (ولي الأمر)؟ ولماذا لحد هذه اللحظة يستفيد الحكام الجائرون من المنطق الذي يقضي بأن الخروج على الحاكم مفسدة مهما بلغت مفسدة الحاكم؟

وفي حال تعمقنا في هذه الجزئية؛ سنجد أنفسنا نواجه تناقضاً فقهياً هائلاً في الرؤية الخاصة بالخروج على الحاكم، خصوصاً لو جاء التناقض مؤيداً من مفكرين لهم حضورهم اللامع في الذاكرة العربية ومنهم (ابن خلدون) الذي يصف في مقدمته الثائرين على الحكام الفاسدين بأنهم من الغوغاء، وأنهم في حال موتهم خلال الاحتجاجات فإنهم يموتون "مأزورين غير مأجورين" ، وفي نفس الموضوع نراه لا يتشدد إزاء قضية ثورة الإمام الحسين (ع) التي لم يقل فيها رأياً كرأيه في الثائرين الآخرين، وهذا يدلل على أن صراعاً رهيباً عاشه بين عقيدته المتشددة التي ينتمي إليها، والتي تفرض الطاعة والخضوع لـ (ولي الأمر)، وبين الموضوعية والحيادية التي يجب أن يكون عليها المفكر؛ لذلك نجده وقع في تناقض واضح.

إن إشكالية الخضوع للحاكم حتى وإن كان ظالماً مستبداً تلاشت تماماً في زمننا الحالي بقيام الثورات الجماهيرية التي أزاحت كثيراً من الحكام، حتى مع كون شعوب هذه البلدان تنتمي على صعيد المعتقد للآراء القائلة بالطاعة والخضوع؛ لأن متغيرات الزمن وتطوراته تفرض أن يكون المعتقد متوافقاً مع العقل لا مع تخديره بمدونات أكل الدهر وشرب على ضروراتها ومصالحها وتناقضاتها.

اضف تعليق