q
إن ما ينتج عن عملية صناعة الذات، العملية التي يديرها فن الحياة، يفترض أن يكون (هوية) الصانع. تأسيسا على أن التعارضات التي تجاهد صناعة الذات من دون جدوى أن توفق بينها، وأن التفاعل بين عالم متغير باستمرار وتعريفات ذاتية غير مستقرة أيضا لأفراد يحاولون جاهدين اللحاق بظروف متغيرة...

إن حياتنا سواء عرفنا ذلك أم لم نعرفه وسواء أعجبتنا الحقيقة أم أحزنتنا، هي أعمال فنية. أن نعيش حياتنا كما يتطلب فن العيش، علينا – كما على الفنانين- أن نضع لأنفسنا تحديات تصعب مواجهتها عن قرب، وأهدافا أبعد من إمكانيتنا بكثير، ومعايير للتميز تبدو أعلى بكثير من قدرتنا على مجاراتها. علينا أن نحاول المستحيل. وليس أمامنا إلا أن نأمل، من دون أن نستفيد من تقديرات نثق بها، ناهيك عن التأكد أنه مع المحاولة الطاحنة والمرهقة غالبا سنستطيع أن نكون بمستوى تلك المعايير وأن نصل إلى تلك الأهداف وبذلك نكون على مستوى التحدي. إن الحيرة هي المسكن الطبيعي للحياة الإنسانية، مع أن الأمل بتجاوز الحيرة هو الطاقة الدافعة لمساعي الإنسان.

في تلخيص مميز لتجار حياتية واسعة هي الأكثر شيوعا في مجتمعنا الفردي، يضع فرانسوا دي سنغلي قوائم بالمآزق التي تؤدي أحيانا إلى وضع ممارسي فن الحياة في حالة من الحيرة والتردد الدائمين. مساعي الحياة تتأرجح باستمرار بين أهداف غير منسجمة بعضها مع بعض بل ومتعارضة بشكل واضح –مثل الانضمام ثم الانفصال، التقليد والاختراع، الروتين والتلقائية- كلها مجرد تعارضات مشتقة أو تمثيلات لما بعد التعارض، للتعارض الأعلى الذي تكون فيه الحياة الفردية مدمجة والذي منه لا تستطيع الفكاك: التعارض بين الأمن والحرية – كلاهما مطلوبان بشدة وبقدر متساوٍ ولكن يصعب وبشدة أن يوفق بينهما ويكاد يستحيل تحقيقهما معاً.

إن ما ينتج عن عملية صناعة الذات، العملية التي يديرها فن الحياة، يفترض أن يكون (هوية) الصانع. تأسيسا على أن التعارضات التي تجاهد صناعة الذات من دون جدوى أن توفق بينها، وأن التفاعل بين عالم متغير باستمرار وتعريفات ذاتية غير مستقرة أيضا لأفراد يحاولون جاهدين اللحاق بظروف متغيرة، فإن الهوية لا يمكن أن تكون متماسكة داخليا، ولا باستطاعتها في أية لحظة أن تتنفس هواء النهاية، من دون أن تترك مساحة (أو نزوعا) إلى المزيد من التحسن. إن الهوية في حالة ولادة، كل الأشكال التي تظهر بها تعاني من تناقص داخلي حاد نوعا ما، كل منها يفشل إلى حد ما في أن يلبي الحاجة إلى الإصلاح بينما هو يتوق إليه، كل يفتقر إلى الثقة بالذات التي لا يمكن أن يحققها إلا توقع عمر طويل بشكل مريح. فكما يقترح كلود دوبار (ليست الهوية سوى ناتج عمليات مختلفة ومتزامنة من التفاعل الاجتماعي المستقرة والمؤقتة، الفردية والجماعية، الذاتية والموضوعية، السيرية والمبنية، التي في الوقت نفسه تبني الأفراد وتحدد المؤسسات)، يمكننا أن نلاحظ أن " التفاعل الاجتماعي" نفسه، وعلى نقيض ما كان يظن في كل مكان وما يزال يردد من الآراء، ليس عملية أحادية الاتجاه وإنما هو ناتج معقد وغير مستقر لتفاعل مستمر بين الحنين إلى الحرية الفردية وصناعة الذات، من ناحية، والرغبة التي لا تقل قوة في الأمان الذي لا يستطيع أن يمنحه سوى ختم الموافقة الاجتماعية، الذي تصادق عليه مرجعية مجتمع (أو مجتمعات). التوتر بين الاثنين قلما يهبط لمدة طويلة، ولا يكاد يغيب تماما. يقترح دي سنغلي محقا أن مجازات (الجذور) و (الاقتلاع) (أو، دعوني أضيف، المجاز المتصل بها وهو (الفصل) عند التنظير حول الهويات الحالية، وكلها تتضمن الطبيعة الأحادية لتحرر الفرد من مجتمع الولادة وكذلك نهائية الفعل واستحالة التراجع عنه، من الأفضل تركها وإحلال مجازات إلقاء المرساة ورفعها.

على عكس (الاجتثاث) و (الفصل)، ليس ثمة ما يستحيل التراجع عنه عند رفع المرساة، فضلا عن أن يكون ذلك نهائيا. في حين أن الجذور التي تجتث من التربة التي نمت فيها من المحتمل أن تذوي وتموت، تُسحب المراسي لكي يُلقى بها مرة أخرى في مكان آخر، كما يمكن إلقاؤها بسهولة مشابهة في موانئ كثيرة مختلفة وبعيدة. إضافة إلى ذلك فإن الجذور جزء من تصميم النبتة وشكلها المحدد سلفا – فليس ثمة احتمال أن تنمو منها نبتة من نوع آخر- في حين أن المراسي ليست سوى أدوات تسهّل ارتباط السفينة المؤقت بمكان وانفصالها عنه، وهي وحدها لا تحدد خصائص السفينة وإمكانياتها. الفترات الواقعة ما بين رمي المرساة ورفعها مرة أخرى ليست سوى مراحل في مسار السفينة. اختيار الميناء القادم الذي سترمى فيه المرساة يحده على الأرجح نوع الحمولة التي على السفينة، فميناء مناسب لنوع من الشحنات قد يكون مناسبا مطلقا لنوع آخر.

في المجمل، ما يخطئه أو يصمت عنه مجاز (الاجتثاث) هو ما يغبر عنه مجاز المرساة: تشابك الاستمرار والانقطاع في كل، أو على الأقل في عدد متزايد من، الهويات المعاصرة. مثل السفن التي ترسو تباعا أو بين فينة وأخرى في موانئ محددة، هكذا هي الأنفس في المجتمعات ذات الصلة التي تسعى للانضمام إليها أثناء بحثها طوال العمر عن الاعتراف والقبول وهي تحمل وثائقها التي تُفحص ويُوافق عليها عند كل نقطة من نقاط الوقوف المتتالية، كل مجتمع ذو صلة يضع متطلباته بشأن الأوراق التي تُقَّدم. سجل السفينة وسجل القبطان كلاهما يطلبان غالبا بين الوثائق التي تتوقف عليها الموافقة، ومع كل توقف تجري إعادة فحص الماضي (الذي لا يتوقف عن الازدياد نتيجة لسجلات الوقفات السابقة) وإعادة تقييمه.

هناك بالطبع موانئ مثلما أن هناك مجتمعات، لا تهتم كثيرا بتفحص الوثائق ولا تأبه كثيرا بالماضي أو الحاضر أو القادم من محطات زوارها، فهي تسمح لكل سفينة تقريبا بأن تلقي مرساتها (أو أية " هوية")، ومن تلك السفن (أو الهويات) كالتي يحتمل جدا أن تُرفض عند مدخل أي ميناء آخر (أو عند بوابات أي مجتمع آخر). غير أن زيارة الموانئ (أو المجتمعات) كتلك ليس من الحكمة ويُستحسن تفاديه، ذلك أن فوضى المكان هناك يجعل تنزيل بضاعة ثمينة قرارا أهوج (أو خطيرا). زيارة تلك الموانئ (أو المجتمعات) يمكن أن يكون أيضا خطوة غير منطقية، أو في أفضل الحالات إضاعة للوقت، لأن تلك الزيارات ستحمل القليل من الأهمية حين يتصل الأمر بالحصول على الاعتراف والتأكيد للهويات المصوغة ذاتيا، وهي الهدف الرئيس من الرحلة البحرية.

ومن المفارقة أن تحرير النفس وتأكيدها بشكل فاعل يحتاج إلى مجتمعات قوية لها متطلبات عالية. إعادة صياغة الذات ضرورة، لكن تأكيد الذات يبدو مثل وهم متخيل (ويحتمل أن يُرفض بشكل واسع لذلك السبب بوصفه من أعراض التوحّد أو حالة من خداع الذات). وأي اختلاف ستحدثه كل تلك المساعي المستثمرة في صياغة الذات في موقف الفرد وثقته وقدرته على الفعل لو لم تتحقق الموافقة بخطوتها الأخيرة والهدف منها؟ لكن الموافقة القادرة على إنهاء جهود صياغة الذات لا يمكن أن يقدمها سوى سلطة: مجتمع لسماحهِ قيمة لأنه يملك، ويستعمل، القوة لرفض الدخول.

...............................................................................................................
*هذا المقال ملخص مقتبس من كتاب الأخلاق في عصر الحداثة السائلة، تأليف زيغمونت باومان وترجمة سعد البازعي وبثينة الإبراهيم.

اضف تعليق


التعليقات

الكاتب الأديب جمال بركات
مصر
احبائي
النفس البشرية معقدة الى درجة اعجزت كل من حاول فك رموزها
علماء واطباء النفس كثيرا مايحاولون تفكيكها عند محاولة علاجها
في بعض الأحيان تصلح اساليب العلاج وفي كثير من الاحيان يكون فشلها
احبائي
دعوة محبة
ادعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه...,,,واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات....مركز ثقافة الالفية الثالثة2019-02-14