q
الرسالة الاساسية لـ عقول خطرة هي ان لا وجود هناك لقراءة لنيتشة تجعله مقبول اخلاقيا لجناح اليسار السياسي او الوسط. اي تفسير يصفه بهذا هو غير ناضج وخطير. ان النقاش الحالي هو من النقاشات الملحّة حول نيتشة. نحن نعيش في وقت حيث اليمين المتطرف يتحفز...

عند البحث عن نيتشة في اليوتيوب سنجد هناك رابط شوهد اكثر من ثلاثة ملايين مرة. انه امر مثير للإعجاب لفيلسوف في القرن التاسع عشر. بالمقابل، جون ستيوارت مل لم يحظ باكثر من مائة الف مشاهدة. اذا كان الرابط يكشف عن شعبية نيتشة (1844-1900)، هو ايضا يخبرنا عن الكيفية التي نُظر بها اليه كمرشد ساحر ومحبوب منقطع النظير.

ان الرسالة الاساسية لـ "عقول خطرة" هي ان لا وجود هناك لقراءة لنيتشة تجعله مقبول اخلاقيا لجناح اليسار السياسي او الوسط. اي تفسير يصفه بهذا هو غير ناضج وخطير.

ان النقاش الحالي هو من النقاشات الملحّة حول نيتشة. نحن نعيش في وقت حيث اليمين المتطرف يتحفز احيانا بنيتشة، يعود للظهور مجددا حيث يُقابل باحترام كبير لدى المعلقين المؤثرين مثل غوردن بيترسون، وحيث القادة الشعبويين السلطويين مثل بوتن واردوغان ورئيس الفليبين يتّبعون اسلوب نيتشة في التقليل من قيمة القواعد والحقائق مفضلين الرؤية البطولية للقوة والمصير. وكما بالنسبة لترامب، الحقيقة البديلة او ما بعد الحقيقة، فيها يكون الواقع صدى لفكرة نيتشة بان "لا وجود هناك لحقائق وانما فقط تفسيرات"، هذه الرؤية تصدرت عناوين الاخبار متسائلة ما اذا كان بالإمكان إلقاء اللوم على المانيا في بروز ظاهرة ترامب ام انها مجرد تنبأت به.

الكاتب بينير (Beiner) كان يركز على هجوم نيتشة الواضح على الليبرالية والمساواة بما جعله فيلسوفا مؤثرا لليسار. انها ليست محاولة من نيتشة لإخفاء رؤيته الرافضة للاخلاق الليبرالية. هو أطلق النار عليها من الأعلى. لكي يطرح جداله ضد التفسيرات اليسارية لنيتشة، يعمد بينير الى تكرار بعض تعبيرات نيتشة الشهيرة التي يحرّض فيها على العبودية، وتشجيع التطهير العرقي، وكراهيته العميقة ورفضه للمساواة الانسانية.

بعض الباحثين في نيتشة يمنحون العذر لهذا العنف المتطرف من خلال قرائته باعتباره استعارات غير حقيقية وبلاغات ساخرة، هي لم تكن توجهات ضرورية مرشدة للفعل. رغم ان نيتشة يترك نفسه مفتوحا للتفسيرات، لكن لا دليل على انه ليس خطيرا ومميتا في هذه القضايا.

هناك جزءان اساسيان واضحان لفلسفة نيتشة: هو يجد المساواة انحدارا اخلاقيا مثيرا للاشمئزاز، وهو يريد الانسانية ان تخرج من فكرة الاخلاق العالمية. كل فرد يجب ان يقرر دليله الاخلاقي. مفاهيم الخير والشر يجب الغائها. بينير يذكّر الليبراليين بان الالتزام بالمساواة الانسانية فيما يتعلق بالحقوق والحرية او اعتبارات الكائن الاخلاقي هي المبدأ المعرّف لأي اخلاق في مرحلة ما بعد التنوير. انها لا يمكن التفاوض عليها. لكن أي نوع من المساواة، وأي شفرات اجتماعية مرتكزة على المساواة، هي ببساطة تثير الكراهية الشديدة لدى نيتشة، وبصرف النظر عن قرائتك لأكثر اقوال نيتشة الصادمة، فان فلسفته الاخلاقية لا يمكن ان تمثل أي نوع من سياسات اليسار او الوسط. بالطبع، اليمين المتطرف هم ايضا يشعرون بالاضطراب لو ارادوا إسناد ايديولوجيتهم على اكتاف نيتشة. هو وجد مناهضة السامية سخيفة، ونصح دائما بالبحث عن منظور جديد لفهم العالم. وما هو اكثر جوهرية، ان نيتشة كان واضحا برفضه الراسخ لأي نوع من ذهنية القطيع، اليسار، اليمين او الوسط.

آفاق نيتشة

يسعى بينير الى انجاز ثلاثة اشياء في كتاب "عقول خطرة". اولاّ، هو يعرض فكرة الحدود او الآفاق Horizons كعامل اساسي لكشف نقد نيتشة للحداثة. ثانيا، هو يريد القول بانه –على عكس ما يريده منك كبار الاكاديميين– فانه من غير الصحيح القول بعدم وجود فلسفة سياسية لنيتشة. اخيرا، هو يقول ان كل ما ذُكر آنفا – تحطيم الاخلاق، سيادة الفلسفة السياسية، ومركزية الآفاق- تنطبق ايضا على مارتن هايدجر (1889-1976).

هجوم نيتشة على الديمقراطية الليبرالية لازال يتسبب في اراقة الدماء. المجتمعات الحديثة هي في ازمة روحية، كما يقول نيتشة، بسبب تقديسها الشديد للعقلانية والمساواة. نيتشه يرى هذا كارثيا لأنه يقود الى تحطيم أفاق الثقافة التي يحتاجها الناس لكي يعيشوا حياتهم الحقيقية.

الآفاق الثقافية هي حدود ثابتة من الافكار والتصورات بها يُعرّف الناس بالضبط منْ هم وما هي اهدافهم في الحياة. في هذا الجانب نيتشة يمجّد فوائد الطاعة الطويلة لقواعد معينة، والتي كما يقول تقود الى انتعاش الاشياء التي "لأجلها نستحق الحياة، مثل، الفضيلة، الفن، الموسيقى، الرقص، العقل، الروحانية "(ما وراء الخير والشر، v188، 1886). اليونان ما قبل سقراط امتلكت مثل هذه الآفاق، وكما فعلت الثقافات الاخرى غير الدينية. المسيحية ايضا لديها حدودها التي يجب احترامها، لكن نيتشة يكره المسيحية. تفسير بينير لهذا هو ان المسيحية رغم انها تفرض آفاقا، لكنها لا تسمح بالخلق الذاتي الأصيل لأن عقيدتها بالخلاص تنكر المأساة المطلقة للحياة، او فكرة ان كل شيء ينتهي بالموت وبالنتيجة كل جهودنا بالنهاية تذهب هباءاً. بالنسبة لنيتشة ان الثقافة الحزينة مليئة "بتشاؤم القوة" المطلوبة لمواجهة الفراغ. وبما ان ذلك يتطلب الشجاعة، فهو يجيز التفوق او النبل Nobility. المسيحية، من جهة اخرى، ترسّخ ما يسميه نيتشة "اخلاق العبودية".

ان ما هو اكثر إشكالية للمجتمع الغربي هو انه عبر "موت الاله" (1) وفقداننا ايماننا التاريخي، نكون قد محونا آفاقنا الثقافية، كما يذكر ذلك نيتشة بطريقة بلاغية في" الانسان المجنون"(The Gay science، 1882). بدون آفاق سوف نتحرر من القيود نحو فراغ يبتلع كل المتعة والمعنى من الحياة. هذا، كما يقول بينير، هو اصل كراهية نيتشة الخاصة للمسيحية: انها جسر من القديم النبيل الى الحداثة الساقطة.

ان اقتراح بينير في ان الآفاق توضح كراهية نيتشة للمجتمعات الحديثة يبدو صحيحا. ادّعاء بينير هو "ان نيتشة أراد الابداع والافاق المفتوحة للفيلسوف البطل وأراد الافاق المغلقة والضيقة لكل شخص آخر"(ص36). ولكن كيف تكون الآفاق مفتوحة للسوبرمان لو نال نيتشة رغبته وعاد الى الافاق المغلقة لما قبل ثقافة المسيح؟ وبعبارة اخرى، اذا كان السوبرمان يضع آفاقه الخاصة به فلماذا يشعر نيتشة بالحزن على ازالة الافاق التي جلبتها المسيحية والتنوير لاحقا معهما؟

الشيء ذاته مع هايدجر

فكرة ان نيتشة ليس لديه فلسفة سياسية جرى الدفاع عنها من جانب الباحث البارز في نيتشة وهو بران ليذر Brian Leiter في انسكلوبيديا ستانفورد للفلسفة. هنا هو يجادل بانه رغم ان نيتشة يدّعي انه مفكر سياسي هام، ومع انه لديه الكثير ما يقوله عن مشكلة الديمقراطيات الحديثة، لكن فلسفته السياسية الايجابية تنقصها التفاصيل. الوصفات الايجابية الكامنة في نقد نيتشة هي في الحقيقة تنطبق على الفرد وليس على الدولة وتهتم بالكيفية التي يصل بها الناس العظام الى طاقتهم الخلاقة.

بينير يسمي رؤية ليذر هذه بالسخيفة. فقط لأن الفلسفة السياسية سلبية ذلك لايجعلها غير سياسية. في الحقيقة، ليذر يعرض نفس الجدال في مناقشة الفلسفة الاخلاقية لنيتشة. هو يرى بانها في الاساس سلبية في نقدها اخلاقية القطيع لكنه لايزال يستنتج منها اخلاق ايجابية بافتراض ان الاخلاق الايجابية هي المضاد لما يكرهه نيتشه.

كتاب "العقول الخطرة" بوضوح ينطبق بالتساوي على نيتشة وهايدجر، لكن هايدجر اُلقي عليه اللوم بسبب ما فعله نيتشه. بينير يشير الى ان تحليل هايدجر للمجتمعات الحديثة تأثّر وبطريقة مشابهة بنيتشة. الآفاق تلعب دورا موازيا. ونفس الشيء ايضا ان هايدجر افتقر الى تفاصيل في فلسفته السياسية الايجابية. لكن بينير يقول، كما في نيتشة، نحن لا نستطيع القول ان فلسفته ليست سياسية. هذا الادّعاء يصعب اثباته. من كتاباته وافعاله يبدو من الواضح ان هايدجر كان نازيا على الاقل في جزء من حياته، والافتراض بانه تنقصه الفلسفة السياسية هو غير صحيح.

استنتاج

الكتاب يختتم بتحذير من القناعة بالليبرالية. الليبراليون ربما يشعرون بالأمان من هجوم نيتشة لأنهم يعتقدون ان افتراض المساواة متأسس جيدا لدرجة ان فكرة نيتشة السلبية وكراهيته لا يمكنها زعزعة ذلك الاساس. الاعتقاد بان القيم الليبرالية مقبولة عالميا هو واضح في القواعد المتفق عليها في القرن العشرين خاصة قواعد جون رولس" Proceduralism". يرى بينير ان تفضيل الاخلاق الاجرائية، "هي طريقة للقول اننا بالأساس جميعنا ليبراليون". في الحقيقة، ان المشروع الليبرالي هو بعيد عن الانجاز، في ظل عودة الفاشية والبروز العالمي للسلطوية. بينير لا يتوسع هنا كي يوضح الكيفية التي يرتبط بها تحليله بالمشهد السياسي المعاصر (رغم انه قام بهذا في مقال لاحق في تاريخ شبكة الاخبار). هو ربما اضاع الفرصة هنا لكن جداله يبقى صامدا. نيتشة وهايدجر كشخصين ذكيين مثلما كان نقدهما للحداثة، اعتبرا جزءاً كبيرا من الانسانية لاقيمة له، وهما بديا ليس لديهما شك في استعباده او تحطيمه كليا. ولذلك هما كانا شريرين.

الكتاب: عقول خطرة: نيتشة، هايدجر، وعودة اليمين المتطرف
الكاتب: رولاند بينير
اصدار: مطبوعات جامعة بنسلفانيا عام 2018
عدد الصفحات: 176 صفحة.

.................................
الهوامش
(1) استعمل نيتشة عبارة "موت الاله" ليلخّص تأثير عصر التنوير على مركزية مفهوم الله ضمن الحضارة الاوربية الغربية والتي كانت مسيحية الطابع منذ الامبراطورية الرومانية. التنوير ادّى الى انتصار العقلانية العلمية على الكشف المقدس والى صعود المادية الفلسفية والطبيعية التي استغنت عن دور الاله في شؤون الانسان ومصير العالم.
اعترف نيتشة بخطورة موت الاله على الافتراضات الاخلاقية في اوربا القائمة على الايمان المسيحي التقليدي. "عندما يتخلّى المرء عن الايمان المسيحي، فهو يتخلّى عن الكل: لاشيء ضروري يبقى لديه". المشكلة هي في كيفية الحفاظ على نظام للقيم في غياب الامر الديني. الاستنتاج التنويري لـ "موت الاله" أعطى دفعا للافتراض بان الناس والحضارة الغربية ككل لم تعد تؤمن بالنظام الاخلاقي الديني. موت الاله هذا سيقود، حسب نيتشة، ليس فقط الى رفض النظام الفيزيقي وانما ايضا الى رفض القيم المطلقة ذاتها. ومن هنا فان خسارة الاساس المطلق للأخلاق يقود الى العدمية. هذه العدمية وجد فيها نيتشة الحل عبر إعادة تقييم اسس القيم الانسانية.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق