q
في الجامعات اعداد كبيرة من اساتيذ الادب، لكنهم ليسوا جميعا ادباء او نقادا للادب، وان امتلكوا ثقافة الادب وسبروا اغواره المختلفة وقرأوا رموزه، وهناك كثيرون ايضا من الادباء، ممن يمتلكون قدرا من الموهبة والوعي، لكنهم بلا ثقافة ترصّن ابداعهم، فتأتي نصوصهم حاملة لبعض الدهشة وبقليل من العمق الفني والرؤيوي...

يقال ان كثيرين من كبار رجال الاعمال في العالم، ينحدرون من طبقات اجتماعية مسحوقة، او ذاقوا الفقر والتشرد قبل ان تسنح لهم فرصة صغيرة او عابرة، تمثلت بحصولهم على القليل من المال، فكان بداية انطلاقتهم في مضمار التجارة او ميادين العمل الاخرى المؤدية الى الثروة .. مقابل هذا، يحدثنا الواقع عن ابناء ورثوا عن آبائهم اموالا طائلة، وميدانا تجاريا واسعا، لكنه اضاعوا كل شيء وباتوا معدمين.

لايختلف الامر كثيرا مع قادة الجيوش، فالقائد الذي ينجح في ادارة معركة ويحوّل الهزيمة الى نصر، يمتلك الخارطة والامكانيات البشرية والتسليحية نفسها التي كانت بأمرة سلفه الفاشل .. اين المشكلة اذن؟ .. بهذه المقدمة ندخل منطقتي الثقافة والوعي، الذي يعطي تكاملهما عند اي انسان، في اي ميدان من ميادين الحياة، تفوقا على غيره، ويجعله من المتميزين ... في عالم الكتابة والابداع لايختلف الامر، بل انه الاكثر تجليا.

لان الثقافة تتعامل مع العقول مباشرة، وبمختلف مستوياتها، لذا فالمثقف الذي يمتلك سعة اطلاع (ثقافة) مع (وعي) غريزي، سيبرز حتما في المجال الذي يتخصص فيه، لانه يستشرف ما يعجز عنه الاخرون، فيتحول الى عينهم المبصرة وعقلهم الرديف الذي يصلون من خلاله الى الحقيقة، وان كانت نسبية! فالانسان الواعي يلفت الانتباه اليه منذ الطفولة، بالتقاطاته وسلوكه المعبر عن موهبة، ستعرف طريقها بعد ان يختار مايناسبه من نشاط.

فمثلما يقرأ السياسي الناجح لعبة التوازنات المحلية والدولية ليمرر مشروعه، يقرا رجل الاعمال الناجح مناخ السوق والعمل ويرصده من زوايا مختلفة وبعين المبدع والمبتكر في مجاله، ليسوّق مشاريعه، فيتفوق على منافسيه. ويتمثل ابداع القائد العسكري الناجح ليس في دقة معرفته الخرائط التي امامه، بل بابتكار اساليب جديدة في تنفيذ خططه، لم ينتبه اليها غيره.

الثقافة تمثل المتراكم من المعلومات المختلفة عبر العصور، وهي متاحة لمن يقرأ ويطّلع، لكن الوعي يبقى محكوما بقدرات ذاتية تولد مع الانسان، فليس الجميع على درجة واحدة من الوعي الذي يجعل صاحبه اقدر على هضم المعلومة وتمثلها، ومن ثم اعادة انتاجها في حواراته او كتاباته، لذلك ليس كل واحد منا يمكنه ان يكون مبدعا، لان الابداع لايكتسب بالقراءة والاطلاع وانما هو رديف الموهبة.

في الجامعات اعداد كبيرة من اساتيذ الادب، لكنهم ليسوا جميعا ادباء او نقادا للادب، وان امتلكوا ثقافة الادب وسبروا اغواره المختلفة وقرأوا رموزه. وهناك كثيرون ايضا من الادباء، ممن يمتلكون قدرا من الموهبة والوعي، لكنهم بلا ثقافة ترصّن ابداعهم، فتأتي نصوصهم حاملة لبعض الدهشة وبقليل من العمق الفني والرؤيوي!

وبذلك لاتحقق ما يصبو اليه كاتبها الذي يصبح رقما في قائمة طويلة.. لايختلف الامر مع النقاد، فليس كل من يقرأ اكبر عدد من النظريات النقدية يمكنه ان يكون ناقدا مهما، لان النقد موهبة، شأنه شأن الشعر والقصة وغيرهما، فما لم يكن الناقد ذا عقل متوهج وملتقط جيد للافكار، يصبح تراكم المعلومات في راسه عبئا عليه، ويتحول هو الى حبيس الكتب التي قرأها، لانه غير قادر على التفاعل معها لتجاوزها واكتشاف ما بين سطورها، فتراه كثير الاستشهاد بما قرأ، بمناسبة او من دونها ليعطي القارئ انطباعا بانه مثقف، ويستعرض مرجعياته القرائية اكثر مما يتمثلها ويهضمها ويعيد انتاجها برؤية تعكس وعيه الخاص، بل ان بعض النقاد يمكن وصفهم ب(حفّيظة كتب) او (درّاخين) كما نسميهم في اللهجة الدارجة، ولذلك لاتكتسب كتاباتهم الاهمية التي تجعلها صامدة امام الزمن او تكون مرجعا يعتد به .. هؤلاء وغيرهم من القراء الاستهلاكيين هم سجناء الكتب، لانها تتحول الى اخطبوط يكبلهم، وتمنعهم من التأمل العميق في ذواتهم ومحيطهم الحي .. هؤلاء اخطأوا الميدان الذي يجب ان يكونوا فيه فخسروا مرتين!

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق