q
ربما يجد البعض أنَّ في طرق أبواب التاريخ القريب والبعيد هروبا من الواقع وتداعياته، فيرتمي بنفسيته المتعبة على أريكة الماضي ليس استذكارا واستعباراً وهو يحملق بعيني الإستطلاع في سقف الحوادث والسوانح، وإنما خلوداً برزخيا بين طيات وسادة الوقائع عن عالم لا يريد تذكراه ويأمل نسيانه...

ربما يجد البعض أنَّ في طرق أبواب التاريخ القريب والبعيد هروبا من الواقع وتداعياته، فيرتمي بنفسيته المتعبة على أريكة الماضي ليس استذكارا واستعباراً وهو يحملق بعيني الإستطلاع في سقف الحوادث والسوانح، وإنما خلوداً برزخيا بين طيات وسادة الوقائع عن عالم لا يريد تذكراه ويأمل نسيانه.

ولكن أنى له ذلك وأوتاد التاريخ ضاربة بجرانها على أرضية واقعه لا تحول عنه فكاكا قابضة على رقبته كعاقلة البعير، ما له من الأمر إلا أن يقبل التاريخ والواقع معا بحلوه ومرِّه، قبول ناظر فطين، يستعبر من التاريخ حتى يكون على عبور الواقع بمرارته أقدر، على أن التاريخ في سجله صفحات بيض وأخرى سود وما بينهما ألوان قوس قزح، فالتاريخ لوحة تشكيلية متعددة الألوان شكلت خطوطها الدقيقة والعريضة أنامل الزمن بخيار الرعية وأشرارها وأشرار الرعاة وخيارهم.

مع إطلالة العام الميلادي الجديد 2021م صدر في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 112 صفحة كتيب (الإسلام في أميركا) للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي، أعده للطبع الأديب العراقي الشيخ محمد فلاح العطار المقيم في لوس أنجلوس منذ ثلاثة عقود بعد أن استقطع الصفحات (377- 420) من الجزء الثاني من كتاب "معجم المشاريع الحسينية" للكرباسي الصادر في لندن عن المركز الحسيني للدراسات سنة 2015م في 638 صفحة من القطع الوزيري

صدور هذا الكتاب ساقنى إلى تحرير هذه المقدمة القصيرة عن التاريخ، لأن ما حرره المؤلف يقود القارئ إلى سبر التاريخ والإرهاصات الأولى إلى تكوين ما يعرف اليوم بالقوة العظمى (الولايات المتحدة الأميركية)، إرهاصات فيها من الصور المظلمة ما تجعل النفس غير قادرة على هضم ما أقدمت عليه ماكنة الحروب الأولى من إبادة جماعية لسكان أميركا الأصليين، وما جاءت بها سفن العبيد من ملايين البشر من أفريقيا إلى هذه القارة البعيدة الواقعة بين المحيط الأطلسي شرقا والهادي غربا.

ولأني كقارئ أولده الزمان في الشرق الأوسط وتحديداً في رئته (العراق)، تراني وبعفوية انتقل ذهني من كتاب (الإسلام في أميركا) للكرباسي المولود في كربلاء المقدسة سنة 1947م إلى كتاب (المثل العليا في الإسلام لا في بحمدون) للمرجع الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المولود في النجف الأشرف والمتوفى سنة 1954م، وما بين صدور الكتابين ستة عقود هي كل سني حياتي في هذه العاجلة حتى الآن.

عندما انتهيت من الصفحة الأخيرة مما جاد به قلم الكرباسي آلمني ما ناله سكان أميركا من أذى وما حفَّ تاريخ اكتشاف القارة من تزوير وتحريف، وكلما تناهى إلى المسمع إسم أميركا أدرك حجم معاناة الشعب العربي والمسلم من جراء السياسات الأميركية في الشرق الأوسط منذ النصف الأول من القرن العشرين الماضي وحتى اليوم كما وضع إصبعه على جرحها الشيخ كاشف الغطاء في كتابه الذي حرره ردًا على جمعية أصدقاء الشرق الأوسط الأميركية (American Friends of the Middle East) التي تأسست في نيويورك سنة 1951م بخطاب الدعوة الموجه إليه في 15/3/1954م من نائب رئيس الجمعية غارلند إيفانز هوبكنز (Garland Evans Hopkins) المتوفى سنة 1965م لحضور مؤتمر حوار الأديان في بلدة بحمدون بلبنان.

وفي خطاب الرد القاصم أطلق الشيخ كاشف الغطاء على قادة الحروب في واشنطن وصف "شياطين الأبالسة" قبل أن يطلق مؤسس الجمهورية الإسلامية في إيراني السيد روح الله الخميني على أميركا الشيطان الكبير "شيطان بزرگ" منتقدا بشدة ساسة البيت الأبيض دون الشعب الأميركي.

أميركا.. النشأة

يعود تاريخ القارة الأميركية إلى سنة 1492م، وهو العام الذي نزل فيه تحت العلم الإسباني المبشِّر والرحالة الإيطالي كريستوفر كولومبوس (Christopher Columbus) المتوفى سنة 1506م شواطئ سان سلفادور، وفي العام 1507م أُطلق على القارة إسم أميركا نسبة للمبشر والرحالة الإيطالي أميركو فسبوبتشي (Amerigo Vespucci) المتوفى سنة 1512م.

هذا التاريخ الذي عليه الخرائط والمصنفات الأوروبية لا يلغي تاريخا أقدم من هذا بمئات أو آلاف السنين لشعب عاش بين كنف هذه القارة ووديانها وأنهارها، يلاحق الكرباسي في مصنفه تاريخ وجوده ونشأته وما جرى عليه من ويلات منذ أن مدّ الأوروبيون منذ القرن الخامس عشر الميلادي أذرعهم إلى هذه القارة.

ويغوص الكتاب في التفاصيل لينتهي إلى أن الولايات المتحدة الأميركية في الوقت الحاضر التي يبلغ نفوسها نحو 330 مليون نسمة تتشكل من خمس مجموعات بشرية أميركية أصالة ومتأمركة، وهم على النحو التالي:

الجنس الأحمر: وهم سكان أميركا الأصليون الذين لم يبق منهم إلاّ مليونا إنسان، وهم متوزعون على الولايات.

الجنس الأسود: وهم المهاجرون الزنوج الذي رُحِّلوا من بلادهم في القارة الأفريقية بغرض الإستعباد وتعزيز إقتصاد الإقطاعيين والسماسرة والشركات الكبرى.

الجنس الأصفر: وهم من أصول صينة والأسكيمو الذين نزح آباؤهم إلى هذه القارة طلبا للعمل.

الجنس الأدَمي: وهم الذين هاجروا إليها من الشرق الأوسط وما جاورها لطلب العمل والتعليم وهروبا من الإضطهاد والحروب الداخلية في بلدانهم.

الجنس الأبيض: وهم الأوروبيون الذين انتشروا في البلاد وسيطروا عليها منذ القرن الخامس عشر الميلادي.

وحيث كان السكان البيض يشكلون نهاية القرن الثامن عشر الميلادي نحو 83 في المائة من سكان أميركا و13 في المائة للسود و4 في المائة من الآسيويين، فإن النسبة في بداية الألفية الثالثة انحدرت بشكل كبير إلى 70 في المائة للبيض و20.16 في المائة للسود والبقية للمجموعات البشرية الآسيوية، ويؤكد المعد الشيخ العطار بأن الجنس الأبيض في الوقت الحاضر يشكلون 60 في المائة من سكان أميركا.

وهذا التحول الكبير في التركيبة السكانية يمكن قراءته بوضوح من خلال إنتخاب المجتمع الأميركي لأول مرة رئيس أسود هو باراك حسين أوباما (Barack Hussein Obama) الذي حكم أميركا لدورتين في الفترة (20/1/2009- 20/1/2017م).

رسوا بسفنهم هناك

يميل المؤلف إلى أن المسلمين عرفوا القارة الأميركية قبل أن يتعرف عليها كولومبوس أو فسبوتشي بنحو قرنين من الزمان، وأنهم كانوا هناك، كما وأن كولومبوس كان مع قافلته البحرية عدد من المسلمين والغرض من ذلك كما يفيد أن: (بعض المصادر الأخرى تشير أن الهنود الحمر كانوا يتكلمون العربية بالإضافة إلى لغتهم فجلب كولومبوس في سفرته الثانية إلى القارة الأميركية بعض المسلمين الإسبان ممن يتكلمون العربية والإسبانية بغرض التفاهم معهم)، كما أن كولومبوس: (عندما وصل بسفينته إلى كوبا في محرم 898هـ - تشرين الثاني 1492م- شاهد أثراً لمسجد على قمة أحد الجبال وله مآذن ونقوش ومكتوب على جدرانه بعض الكتابات العربية).

ويشير المؤلف واستناداً إلى ما ورد في مجلة المقتطف المصرية في عددي آب أغسطس 1926م وشباط فبراير 1945م عن مجلة العالم اليوم (The World Today magazine) إلى وجود كلمات عربية في لغة الهنود الحمر تعود إلى العام 1290م أي قبل اكتشاف كولومبوس لكوبا والأميركتين بمائتي عام.

بل وبعض المصادر ترجع معرفة سكان شمال أفريقيا بالقارة الأميركية إلى ما قبل الميلاد بثلاثة قرون، وفي أحسن الفروض أن مستكشفين مسلمين من المغرب وآخرين من مالي سبقوا إسبانيا في اكتشاف القارة الأميركية بنحو 180 عاماً، فيما ترى بعض المصادر أن سقوط الدولة الإسلامية في قرطبة سنة 1236م وإشبيلية سنة 1248هـ وغرناطة سنة 1492م وإضطهاد الكنيسة للمسلمين وتخييرهم بين الموت صبراً أو الدخول في دين المسيحية أجبرت البعض منهم على الإمخار في ظلمات المحيط والوصول الى شواطئ القارة الأميركية.

ومن المفارقات أنَّ الإضطهاد الذي مورس بالضد من مسلمي إسبانيا في القرن الخامس عشر الميلادي وما قبله ودفعهم إلى اللجوء نحو القارة الأميركية، يتكرر في القرنين العشرين والواحد والعشرين، كما يشير إلى ذلك المحقق الكرباسي وهو في معرض الحديث عن تزايد هجرات العرب والمسلمين من آسيا وأفريقيا بسبب: (إرتفاع نسبة الإضطهاد الأمني والسياسي والفكري والإقتصادي من مجمل الأقطار الإسلامية) وهي بلدان أنظمتها في أكثرها من صنائع السياسة الغربية والأميركية.

نمو صاعد

تزايد الهجرات بين فترة وأخرى في صفوف المسلمين جعل الإسلام أكثر نموا في أميركا يصاحبه في ذلك زيادة الأميركيين الداخلين في الإسلام من كل الأجناس، وحسب تعبير الشيخ العطار في تعليقه: "إنَّ الذين يتحولون إلى الإسلام في الغالب لأسباب عدة هي: إنهم لا يعتقدون بالمسيحية، أو التزاوج من الجنسين، أو بسبب قراءتهم للقرآن والتمعن فيه، وعدد اليهود المتحولين قلة جداً، هذا فإن عدد المتحولين في الأعم الأغلب نصفهم من البشرة البيضاء والنصف الآخر من البشرة السمراء وفي الغالب سببه الإضطهاد"، والمعد بهذا يؤكد ما ذهب إليه المؤلف بأن: (من أسباب تنامي عدد المسلمين وتضاعف نفوسهم في الولايات المتحدة الأميركية هو الإضطهاد الذي مورس بحق الجنس البشري الأسود، وسحق حقوقهم، وقد وجدوا في الإسلام روح التساوي ونبذ العنصرية واحترام حقوق جميع شرائح الشعب فتوجهوا نحو الإسلام واعتبروه مصدر قوة لهم).

في الواقع لا توجد أرقام معتد بها عن عدد المسلمين في أميركا الا ما تورده بعض المؤسسات المسيحية او المسلمة، ففي العام 2010م ذكروا أن نسبة المسلمين هي 0.9% من السكان إلى جانب 70.% للمسيحية و 1.9% لليهودية، و22.8% لا دين، و0.7% للبوذية ومثلها للهنودسية، أي أن المسلمين يأتون في المرتبة الثالثة، في حين أن المؤلف ذكر أن نسبة المسلمين في عام 1993م هو 5.48% من مجموع 274 مليون أميركي، ومع ارتفاع عدد السكان فإن نسبة المسلمين ازدادت بشكل مضطرد بسبب الهجرة والتحول والتوالد، ويعتقد المؤلف بوجود دوائر أميركية تعمل بشكل حثيث على تقليل عدد المسلمين والوقوف أمام تناميهم في المجتمع الأميركي، ويؤيده في ذلك الشيخ العطار الذي هو على احتكاك مباشر مع المجتمع بحكم مركزه الإجتماعي والديني إماما للجمعة والجماعة في المركز الحسيني في لوس أنجلوس حيث يؤكد: "إن النسب التي تعلن رسمية ليست بصحيحة لأنها مسيسة لصالح جهات هي على تضاد مع المسلمين، ولذلك لابد من الإنتباه إلى أن عدد المسلمين هو أكثر بكثير مما يعلن، إن الإسلام هو ثاني أكبر دين بعد المسيحية، وعلى سبيل المثال فإن الجالية اليهودية لا يتجاوز عددهم خمسة ملايين ولكن الإعلام يذكر بأن نفوسهم يتجاوز اثني عشر مليونا وربما ذكر أكثر من خمسة عشر مليونا".

هذه النمو في عدد مسلمي أميركا توثقها الزيادة الملحوظة في عدد المساجد والجوامع والمراكز والمؤسسات الدينية، ففي العام 2002م بلغ عدد دور العبادة (1209) مساجد و(173) مدرسة إسلامية، ومع نهاية العام 2020م فإن عدد المؤسسات الإسلامية في عموم أميركا المعترف بها بين مسجد وحسينية ومركز بلغ (4000) أربعة آلاف كما يؤكد المعد مضيفا: أما غير المعترف بها فحدث ولا حرج وأكثر من 450 مركزاً خاصاً بالمسلمين الشيعة، وفي ولاية كاليفورنيا وحدها يوجد (40) مركزاً يحيي ذكرى عاشوراء إلى جانب 150 مسجداً مما يشكل المسلمون في عموم كاليفورنيا الأكثر نفوسا تأتي بعدها نيويورك.

ومن مظاهر هذا النمو فوز المحامية الفلسطينية الأصل السيدة رشيدة حربي طليب بمقعد في مجلس النواب عن الحزب الديمقراطي الأميركي لولاية ميشيغن لتصبح أول مسلمة في تاريخ المجالس التشريعية في أميركا، ومثلها السيد ألحان عبد الله عمر الصومالية الأصل التي نالت مقعدا في مجلس النواب عن ولاية مينيسوتا.

وهذا الواقع المتغير في التركيبة الإجتماعية الأميركية هو الذي جعل الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون يقرر الإحتفال في البيت الأبيض بذكرى حلول شهر رمضان الفضيل باقامة وليمة إفطار كل عام وتبعه بوش الثاني ثم أوباما وألغاه الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2017م.

لاشكَّ أن الكثرة العددية أمر حسن، ولكن الفعل هو الأكثر تأثيراً حتى وإن جاءت من أقلية، وعندما يأخذ قادة أميركا مصالح المسلمين في الداخل والخارج بنظر الإعتبار عند ذاك نستبشر خيراً، وإلا فإن حديث الشيخ كاشف الغطاء في (المثل العليا) يبقى قائما وهو يخاطب ساسة البيت الأبيض: (ما أدري هل تنخدع الدول العربية بوعودكم الخلابة الكاذبة، وبالاسلحة الرمزية المزيفة، وبالمساعدات الدولارية المبهرجة التي برهنت التجارب انها كالسراب إذا جاءه العطشان لم يجده شيئاً، تدفع أمريكا دولاراً واحداً لتأخذ عوضه عشرة بل مائة ... وكيف نعتمد على الدول الاستعمارية لتسليحنا، وهل حقا يريدون تسليحنا وهم أعداؤنا ونحن أعداؤهم. فهل يطمئن الشخص ويعطي سلاحه الى عدوه، نحن أعداء الحكومات الاستعمارية بالطبع ولسنا أعداء شعوبها ... أما نحن فلا تربطنا بأمريكا والدول الاستعمارية أية مصلحة هم يريدون لنا الفقر والجهل والتأخر في شتى النواحي، في التسلح والعمران والزراعة والصناعة لنبقى خاضعين لهم وراضين بنهب ثروات بلادنا الطبيعية، ونحن نريد العلم والسعادة والتقدم... هم يريدون لنا التفرق والتفكك والتخاصم، ونحن نريد الاتحاد والاخاء، وهم يريدون الحروب والفتن والثروات، ونحن نريد السلم والأمن)، نعم كما يؤكد الشيخ كاشف الغطاء: (يمكن ان نتعاون مع الدول الغربية عندما تأتي حكومات تحسن النية معنا ويظهر لنا بوضوح تغيير سياستها)، وتنامي قوة المسلمين في الداخل الأميركي له أن يقرب زمن هذا التعاون البناء القائم على قاعدة الإحترام المتبادل.

الرأي الآخر للدراسات- لندن

اضف تعليق