q
يتعلم المتنبئون في وال ستريت بسرعة قواعد استحقاقية اللوم. ومثل تجار السندات والأسهم، تفرض عقلية "التقييم حسب سعر السوق" المساءلة الـفِـكرية على الاقتصاديين، وحتى خبراء استراتيجيات السوق في بعض الأحيان. وهنا يصبح من المفيد أن يكون لديك إطار تحليلي مقنع ينبئك بالخطأ الذي وقع ولماذا...
بقلم: ستيفن روتش

نيوهافين ــ أعمل في مجال التنبؤات الاقتصادية منذ ما يقرب من الخمسين عاما. بدأت عملي في أوائل سبعينيات القرن العشرين، مع الفريق البحثي في الاحتياطي الفيدرالي في واشنطن العاصمة، قبل أن أنتقل إلى وال ستريت للعمل في ذات المجال لأكثر من ثلاثين عاما. ولأكثر من عشر سنوات، كان مقري في البرج العاجي في جامعة ييل ــ حيث ما زلت أمارس هوايتي في التنبؤ من وقت إلى آخر، لكني أعمل بشكل أساسي في التدريس، والكتابة، والتحدث.

على مدار هذه الفترة الطويلة، كان سجلي في التنبؤ مختلطا. كانت لي بضعة توقعات لا تنسى في مجلس الاحتياطي الفيدرالي، حيث حذرت من ركود حاد في منتصف السبعينيات ثم تضخم عنيد في وقت لاحق من ذلك العقد. لكني أنظر بأكبر قدر من الفخر إلى تعاوني مع لاري سليفمان في بناء أول نموذج تنبؤ في مجلس الاحتياطي الفيدرالي تحت مسمى "الصندوق الأسود" والذي أعتقد أنه لا يزال مستخدما إلى حد كبير حتى يومنا هذا. عملنا على مدار الساعة لعدة أسابيع لبرمجة جداول بيانات مترابطة على الكمبيوتر (في ذلك الوقت لم يكن أحد سمع بشيء من ذلك القبيل قَط) كبديل للممارسة الشهرية المفردة التي كانت تجرى قبل ذلك يدويا على آلة مونرو الحاسبة. وكان نهجنا النقدي المزعوم النقطة المقابلة لنموذج الاقتصاد القياسي الشهير الذي استخدمه مجلس الاحتياطي الفيدرالي على نطاق واسع.

كانت جهودي في وال ستريت أكثر موضوعية. حيث واصلت التنبؤ لكني ركزت بشكل أكبر على تطورات الصورة الكبيرة مثل ديون الشركات وإعادة الهيكلة في أواخر الثمانينيات، والمناقشات حول الإنتاجية في التسعينيات، والتعافي العالمي بعد الأزمة في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم موضوعي المفضل، الصين وتأثيرها على الاقتصادي العالمي. كان سجل تنبؤاتي في وال ستريت طيبا بالقدر الكافي لتمكيني من الحفاظ على الأمن الوظيفي في مورجان ستانلي، رغم نجاتي بأعجوبة عدة مرات.

كانت محاولة توقع أسعار الفائدة الجزء الأقل تفضيلا لدي في عملي. ولسبب وجيه. لا زلت أتذكر دخولي إلى غرفة اجتماعات الخدمة المصرفية الاستثمارية القديمة في مورجان ستانلي، ورؤيتي لمخطط التوقعات الذي أعده سلفي لسوق السندات ملقيا على الأرض رأسا على عقب. كنت عازما على تجنب ذلك المصير. وعندما بدأ تاجر السندات المفضل لدي يناديني بوصف "رجل السهم"، اتخذت قرارا تنفيذيا بفك الارتباط وتوظيف خبير استراتيجي في أسعار الفائدة. وكان البقاء للأصلح كما أتصور.

كان من الواجب عليّ أن أدرك الأمر بشكل أفضل عندما تركت موقعي كمتنبئ متقاعد الصيف الماضي وكتبت مقالا يحمل عنوانا لا يُـنسى، "الركود المزدوج القادم في أميركا". زعمت أن انتعاش ما بعد الجائحة ــ الارتفاع القياسي الذي بلغ 33% على أساس سنوي في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من عام 2020 بعد انكماش حاد مماثل بنسبة 31% في الفترة الثانية ــ ليس أكثر من "يويو حسابي".

لكن تلك البصيرة الألمعية لم تكن الهدف حقا. فقد واصلت مؤكدا على أن التعافي الناشئ كان من المرجح أن يُـجـهَـض بِـفِـعل انتكاسة، كما حدث في ثماني من حالات الركود الإحدى عشرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وبعد بضعة أشهر، انطلاقا من ارتياحي لبعض المؤشرات الاقتصادية التي صادفت طريقي، ارتكبت خطيئة التنبؤ الأفظع على الإطلاق: تحديد تاريخ بعينه. كتبت في حقيقة الأمر أن الركود المزدوج القادم من المرجح أن يحدث بحلول منتصف عام 2021.

تُرى هل كان ذلك أسوأ أخطائي في التنبؤ طوال مسيرتي المهنية؟ يبدو الأمر كذلك بكل تأكيد. فبدلا من الانتكاسة التي كنت أنتظرها، أجد الآن حديثا واسع الانتشار حول طفرة مفتوحة النهاية. والآن يتحدث الفريق الجيد التدريب الذي خلفني في مورجان ستانلي، والذي كان عنيفا ومحقا في تنبؤه بارتداد حاد على هيئة حرف V من صدمة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، عن زيادة بنسبة 10% على أساس سنوي في النمو الاقتصادي الأميركي في النصف الأول من عام 2021. هذا ليس بالضبط الانخفاض الذي كنت أتوقعه أنا قائد فريقهم السابق. ولو كنت لا أزال جالسا على ذلك المقعد، كنت لأستشعر دون أدنى شك عودة كوابيس وأشباح أمني الوظيفي.

يتعلم المتنبئون في وال ستريت بسرعة قواعد استحقاقية اللوم. ومثل تجار السندات والأسهم، تفرض عقلية "التقييم حسب سعر السوق" المساءلة الـفِـكرية على الاقتصاديين، وحتى خبراء استراتيجيات السوق في بعض الأحيان. وهنا يصبح من المفيد أن يكون لديك إطار تحليلي مقنع ينبئك بالخطأ الذي وقع ولماذا.

كان نداء الركود المزدوج مستندا إلى ثلاثة اعتبارات: السابقة التاريخية، ونقاط الضعف الباقية منذ أمد بعيد، واحتمال حدوث صدمة أخرى. كان تاريخ دورات الأعمال السابقة في صفي. ومع بقاء معدلات تشغيل العمالة والناتج الحقيقي عند مستويات أقل كثيرا من الـذُرى التي بلغتها قبل الجائحة ــ وخاصة في ما يتصل بالنشاط المباشر وجها لوجه في قطاع الخدمات الشديد الأهمية ــ بدا الأمر وكأن هناك حجة مقنعة لصالح نقاط الضعف الباقية منذ أمد بعيد. أخيرا، مع تسبب موجة جديدة من الإصابات بمرض فيروس كورونا في نوفمبر/تشرين الأول، وديسمبر/كانون الأول، وأوائل يناير/كانون الثاني في فرض الإغلاق الجزئي في نحو ثلاثة أرباع ولايات أميركا، بدت الحجة لصالح صدمة أخرى معقولة. وبتجميع كل هذه العناصر، خلصت إلى أنها مسألة وقت فقط قبل أن يحدث ركود آخر.

ماذا حدث إذن؟

في الأساس، تبين أن الصدمة قصيرة الأمد ــ أيضا لثلاثة أسباب: اللقاحات، والطبيعة البشرية، و"اقتصاد بايدن". بينما كان الأميركيون يسجلون طلباتهم للحصول على اللقاح، انخفضت معدلات الإصابة بمرض فيروس كورونا إلى 26% فقط من أعلى مستوياتها في أوائل يناير/كانون الثاني. أشار هذا التطور، جنبا إلى جنب مع مسار التطعيم المتسارع بشكل حاد، إلى احتمال اكتساب مناعة القطيع في وقت أقرب من المتوقع، فضلا عن نهاية سريعة للجائحة. ثانيا، في تجاهل للأشكال الجديدة المقلقة من مرض فيروس كورونا، بدأ الأميركيون الذين نفد صبرهم وقادتهم السياسيون المطاوعون يخالفون قيود الصحة العامة الموصى بها. ثالثا، جرى فتح بوابات الفيضان المالي على نحو غير مسبوق: ففي أعقاب حزمة قيمتها 900 مليار دولار في أواخر 2020، جاءت خطة الإنقاذ الأميركية بقيمة 1.9 تريليون دولار في مارس/آذار، والآن هناك اقتراح بضخ 2 تريليون دولار بغرض التحفيز الإضافي للبنية الأساسية والذي أطلق عليه وصف "خطة الوظائف الأميركية".

مع اقتراب نهاية مرض فيروس كورونا، تحول كل هذا إلى حافز مالي قوي مساير للتقلبات الدورية، والذي ساعد إلى جانب التسهيلات النقدية غير المسبوقة الجارية في جعل طفرة الازدهار رهانا وحيد الاتجاه. وبدأت المؤشرات الاقتصادية الدائمة التقلب التي كانت تتجه نحو الانخفاض في أواخر العام الماضي تشق طريقها نحو الارتفاع بقوة.

في النهاية، بفضل التقاء الـعِـلم، والسياسة، والروح البشرية التي لا تقهر، سقطت توقعاتي التي خالفت الإجماع بحدوث ركود مزدوج. لم يكن هذا أول أخطائي في التنبؤ، لكنه ربما يكون أفدحها. والاعتراف بالذنب الآن لا يكفي. إنها عودة واجبة إلى البرج العاجي.

ستيفن س. روتش، عضو هيئة التدريس بجامعة ييل والرئيس السابق لمورجان ستانلي آسيا ، ومؤلف كتاب "غير متوازن: الاعتماد على أمريكا والصين".

اضف تعليق