q
على الرغم من تحذيرات سابقة، لم تتمكن جهات تصنيع الأدوية من إعداد مخزون كافٍ من المُركَّبات لمكافحة الجوائح الفيروسية، فهل يمكنها أخيرًا أن تهتدي إلى طريقة تكفل الاستعداد لما هو قادم؟ فقد كان عام 2003 نذير شؤم فيما يتعلق بالأمراض المُعدية الناشئة. فقد قفزت سلالتان فتاكتان من سلالات فيروس...
بقلم: إيلي دولجين

على الرغم من تحذيرات سابقة، لم تتمكن جهات تصنيع الأدوية من إعداد مخزون كافٍ من المُركَّبات لمكافحة الجوائح الفيروسية، فهل يمكنها أخيرًا أن تهتدي إلى طريقة تكفل الاستعداد لما هو قادم؟

كان عام 2003 نذير شؤم فيما يتعلق بالأمراض المُعدية الناشئة. فقد قفزت سلالتان فتاكتان من سلالات فيروس الإنفلونزا من عالم الطيور إلى البشر في هونج كونج، وهولندا. وكان نوع جديد من فيروسات كورونا ينتشر في أرجاء العالم في ذلك الوقت، مُسبِّبًا مرضًا غامضًا أصبح يُعرف بالمتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة، أو "سارس" SARS. وتخوف العديد من الخبراء من أن نكون بصدد انطلاق جائحة عالمية.

ولحسن الحظ، لم يتحقق أسوأ السيناريوهات في هذه الحالة، لكنّ الوضع وقتها كان ينذر بخطر وشيك، جعل روبرت ويبستر، وهو من أهم العلماء المتخصصين في إنفلونزا الطيور، يبدأ في حث العلماء وواضعي السياسات على الاستعداد للفاشية التالية. وكان من بين أهم التوصيات التي أصدرها ويبستر: تطويرُ أدوية تستهدف طائفة واسعة من المُمْرِضات الفيروسية، والحرص على الاحتفاظ بمخزون منها1، لكنّ باحثي الدراسات الدوائية لم يُصغوا لنداء ويبستر، فبعد أن خفَّت حدة التهديد الذي شكَّله مرض "سارس"، تلاشى الاهتمام بالمسألة، ودفع العالَمُ ثَمنَ ذلك غاليًا. فحسبما يقول ويبستر، الذي يشغل الآن منصب عضو فخري بمستشفى سانت جود لأبحاث الأطفال في ممفيس بولاية تينيسي: "كان يتوجب على المجتمع العلمي تطوير مضادات فيروسية شاملة في مواجهة سارس. ولو حدث ذلك، لكان لدينا الآن بعض المخزون للتصدي لكوفيد"، وهو مرض يُسبِّبه "سارس-كوف-2" SARS-CoV-2، وهو فيروس قريب تطوريًّا من الفيروس المسؤول عن الإصابة بـ"سارس".

جاءت الصرخة التحذيرية التالية في عام 2012، عندما انتشرت في بضعة بلدان متلازمة الشرق الأوسط التنفسية "ميرس" MERS، التي كان سببها فيروس آخر قريبًا تطوريًّا من فيروس "سارس-كوف-2". ومع ذلك، افتقرت ترسانتنا الدوائية - إلى حد كبير – إلى الأدوية المطلوبة، وهي حقيقة يَعتبِرها جيه برادنر، رئيس معاهد نوفارتس لأبحاث الطب الحيوي في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، "أمرًا مؤسفًا".

كما أردف برادنر قائلًا: "إنه لأمر مُخز. كان من الممكن أن نكون أكثر استعدادًا للجائحة"، "إنه لأمر مُخز. كان بإمكاننا أن نكون أكثر استعدادًا لمواجهة الجائحة".

وباستثناء النجاح المحدود الذي حققه عقار "ريمديسيفير" remdesivir، وهو علاج طُوِّر في الأصل لعلاج التهاب الكبد الوبائي "سي"، ومرض الإيبولا، لم تكن هناك على أرض الواقع أية عقاقير واعدة يمكن اختبار كفاءتها، وتوزيعها على وجه السرعة للتصدي لفيروس "سارس-كوف-2". ويتحسّر الباحثون على أنه لم يكن هناك مزيد من الخيارات لمواجهة الجائحة، حيث تقول كارا كارتر، وهي رئيس قسم الاكتشافات البيولوجية بشركة التكنولوجيا الحيوية "ديوبوينت ثيرابيوتيكس" Dewpoint Therapeutics، التي تقع في بوسطن بولاية ماساتشوستس الأمريكية، ورئيس الجمعية الدولية لأبحاث مضادات الفيروسات: "إننا بحاجة إلى ترسانة من الأدوية".

تلوح في الأفق حاليًّا مبادرات جديدة لإنشاء تلك الترسانة، فعلى سبيل المثال، تخطط معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (NIH) لبرنامج رئيس يهدف إلى تطوير علاجات ضد السلالات المتحورة من فيروس "سارس-كوف-2"، وغيره من الفيروسات الأخرى التي يمكن أن تُسبب جائحة جديدة. وهناك تحالُف جديد مدعوم من مجال الصناعة يستهدف فيروسات الإنفلونزا، وفيروسات كورونا. كما تأمل تحالفات أخرى في إنتاج مضادات فيروسية للمُمْرِضات الأبعد صلةً لفيروسات كورونا، التي تهدد بالتسبب في حدوث جائحة.

وهذه المشروعات لن تنطلق من نقطة الصفر، فقد شهد العام الماضي مجموعة من الجهود التي تهدف إلى اكتشاف الأدوية، تضع "سارس-كوف-2" على رأس أولوياتها، بيد أنه مع تركيز صناعة الأدوية في أغلب الوقت على مدار تاريخها على بضع فيروسات معينة فحسب، مثل فيروس نقص المناعة البشرية، والتهاب الكبد الوبائي "سي"، يظل العثور على وسائل لمحاربة التهديدات المعروفة والمُحتملة هدفًا صعب المنال.

و"أمامنا الكثير من العمل الضروري"، حسبما يقول نات مورمان، عالم الفيروسات من جامعة نورث كارولينا في تشابل هيل، لكنْ يبقى السؤال: ما الخيار المتاح لدى المجتمع العلمي؟ حول ذلك، يقول مورمان: "لا نريد أن نعيش عامًا آخر مثل سنة 2020، وإذا أنجزنا العمل المطلوب الآن، فلن نضطر لمواجهة هذه التجربة في المستقبل".

عقاقير جاهزة للعمل

كان التوصل إلى عقار "ريمديسيفير" ثمرة تفكير مدروس ومُحكم من جانب الباحثين العاملين في مركز اكتشاف الأدوية المضادة للفيروسات وتطويرها (AD3C)، وهو مشروع مدعوم من معاهد الصحة الوطنية الأمريكية، أُطلق منذ سبع سنوات. ويهدف هذا المشروع إلى فرز مكتبات الأدوية الموجودة حاليًّا، بحثًا عن مُثبِّطات للإنفلونزا، وفيروسات كورونا، وفيروسات ألفا (مثل تلك المسؤولة عن داء الشيكونجونيا)، والفيروسات المُصفِّرة Flavivirus (أي المُمْرِضات المسببة لحمى الضنك، وزيكا، وغيرهما). وفي عام 2017، كشف الباحثون بمركز اكتشاف الأدوية المضادة للفيروسات وتطويرها عن إمكانيات عقار "ريمديسيفير" المضادة لفيروس كورونا في التجارب التي أُجريت على نماذج حيوانية2، وفي الوقت نفسه تقريبًا، أظهرت التجارب التي أُجريت خلال حالتي تفشٍّ لمرض الإيبولا في أفريقيا أن العقار آمن للاستخدام على البشر.

ومن هذا المنطلق، عندما اندلعت جائحة "كوفيد-19"، كان عقار "ريمديسيفير" جاهزًا للاستخدام بالفعل. وأمكن إدخال العقار سريعًا إلى التجارب التي تُجرى على البشر لاختبار قدرته على مواجهة فيروس كورونا الجديد. وفي تجربة كبيرة استمرت ثلاثة أشهر في أوائل عام 2020، تناول فيها أفراد مجموعة المقارنة دواءً وهميًّا، أظهر الأطباء أن الدواء يُسرِّع من تعافي مرضى "كوفيد-19" من نزلاء المستشفيات3 لكن فائدة ريمديسيفير لم تتعد ذلك، إذ لم تتمكن دراسات إكلينيكية من تأكيد أن العقار يقدم أي فائدة تُذكَر للمرضى4 واتسم الدواء كذلك بأنه باهظ الثمن، وصعب التصنيع، ويجب إعطاؤه عن طريق الوريد في المستشفيات، وكلها سمات غير مرغوب فيها في خضم انتشار جائحة.

ويمكن لعقار آخر مضاد للفيروسات، يقترب الآن من الحصول على تصريح باستخدامه، أن يعالج بعض هذه المشكلات، وهو عقار "مولنوبيرافير" Molnupiravir، الذي يمثِّل خيارًا آخر، من عقار أسهل تصنيعًا يؤخذ عن طريق الفم، كما وُجِد أنه يُقصِّر مدة القدرة على نقل العدوى بين الأشخاص المصابين بـ"كوفيد-19" ممن تظهر عليهم أعراض المرض. وجدير بالذكر أن التجارب الإكلينيكية التي تجري حاليًّا على قدم وساق بشأن هذا العقار قد اقتربت من مراحلها النهائية.

وبالمثل، فهذا العقار درسه للمرة الأولى5 علماء مركز اكتشاف الأدوية المضادة للفيروسات وتطويرها في فترة ما قبل الجائحة، الذين اكتشفوا كذلك أدلة ومؤشرات واعدة فيما يخص قدرة العقار على مواجهة فيروسات ألفا، والفيروسات المُصفِّرة. وحسبما يرى ريتشارد وايتلي، رئيس المركز، واختصاصي الأمراض المعدية للأطفال من جامعة ألاباما في برمنجهام، فإن جميع هذه الأدوية الواعد تعمل ككتل بنائية جينية مزيفة تعوق قدرة الفيروسات على نسخ جينوماتها بدقة كاملة. وبدلًا من إدخال قواعد الحمض النووي الريبي السليمة أثناء التنسخ الفيروسي، يخدع الباحثون إنزيمًا فيروسيًّا يسمى "البوليميراز"، لكي يُدخِل مشتقات الأدوية إلى عملية النسخ. وفي ضوء أن بوليميرازات البشر لا يمكن خداعها، فالفيروسات فقط هي التي تتأثر. (تُستخدم عقاقير مماثلة في علاج التهاب الكبد الوبائي "بي"، وفيروس نقص المناعة البشرية، وعدة فيروسات أخرى).

وبالنظر إلى أن اكتشاف الأخطاء الجينية ليس مساحة تَبْرَع فيها الفيروسات بشكل عام، فهذه الأنواع من العلاجات، التي تُسمَّى نظائر النيوكليوسيد، غالبًا ما تكون فعالة مع عدة عائلات فيروسية. وفي الوقت ذاته، فإن هذه الأدوية المضادة للفيروسات التي ترتبط مباشرة بالإنزيمات وتعوق وظيفتها، والتي يمكن القول إنها تشكل الغالبية العظمى من مضادات الفيروسات، لا تتمتع عادةً بمثل هذا المفعول الواسع على مدى العائلات الفيروسية المختلفة. ومن حيث المبدأ، يمكن للعلماء تصميم أدوية تتصدى لكثير من الفيروسات، وذلك من خلال مهاجمة المناطق الجينية التي احتفظت بحالتها على مدى تطوُّر الفيروس، والتي تتألف من البروتينات المطلوب استهدافها، حسب وصف جاسبر فوك-وو تشان، الباحث في مجال الأمراض المعدية الناشئة من جامعة هونج كونج، الذي يضيف قائلًا: "من الناحية التقليدية، كان النهج الساري دائمًا ما يستند إلى طريقة: علة واحدة...عقار واحد".

وقد أسدت هذه الفلسفة خدمة كبيرة للصناعة فيما يتعلق بصنع أدوية جديدة لفيروس نقص المناعة البشرية، أو التهاب الكبد الوبائي "سي"، "لكنها أثبتت عدم فعاليتها فيما يتعلق بالتصدي السريع للأوبئة أو الجوائح"، حسب قول تشان.

أهداف صعبة

من نَواحٍ عديدة، تعود الفعالية المحدودة لمضادات الفيروسات الموجودة حاليًّا، بشكل أساسي، إلى طبيعة الفيروسات ذاتها. فالأنواع الأخرى من المُمْرِضات، مثل البكتيريا، والفطريات، والطفيليات، يمكن احتواؤها بسهولة أكبر، لأن خصائصها الخلوية تتيح الكثير من الأهداف التي يمكن أن تتصدى لها الأدوية. فلو نظرنا إلى البنسلين مثلًا، لوجدنا أنه يعوق عملية تكوّن جدار الخلية البكتيرية، أما مضادات الفطريات من عائلة الآزولات، فهي تسبب اضطرابًا في غشاء الخلية.

وتتيح الفيروسات عددًا أقل كثيرًا من المستهدَفات القابلة للتأثر بالأدوية، لما لها من جينوم مُدمج مضغوط، وافتقارها إلى التشريح الخلوي. ويمكن أيضًا أن نضيف إلى ذلك معدلات التنسخ الفيروسي المرتفعة، إذ يُعتقَد مثلا أن الإصابة بعدوى "سارس-كوف-2" النمطية تنتِج أكثر من مليون جسيم فيروسي عند كل شخص في اليوم الواحد6، إلى جانب ما يصاحب ذلك من تحور جيني ملازم، فلا عجب في نهاية المطاف من أن غالبية مضادات الفيروسات الموجودة حاليًّا ثبت عدم فعاليتها في علاج "كوفيد-19".

و"مرونة الفيروسات" هو مصطلح يعني أن العقار الذي يتميز بمفعول ضد الهربس، على سبيل المثال، لن يكون له - على الأرجح - تأثير ضد فيروسات كورونا. ولهذا السبب، فإن أليخاندرو تشافيز، وهو متخصص في الهندسة الحيوية، وباحث في الأدوية المضادة للفيروسات في مركز إيرفينج الطبي التابع لجامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، يعبّر عن تشككه في أن يكتشف أي شخص "مُثبِّطًا سحريًّا يمكنه أن يتصدى لكل شيء ببساطة".

من هنا، فهو يضيف قائلًا: "غاية أملنا هو أن نجد مُثبِّطات فعَّالة ضد عائلة فيروسية بأكملها، إذا كنَّا محظوظين حقًّا". فالسيناريو الأفضل يتلخص في اكتشاف مُثبِّط لعموم فيروسات كورونا، لكنْ ربما يتمثل الهدف الأكثر منطقية في تطوير دواءٍ لمجموعة فرعية من فيروسات كورونا، مثل فيروسات كورونا ألفا، التي تُسبِّب حاليًّا عدوى غير فتَّاكة للبشر، والحصول على دواء مختلف لفيروسات كورونا بيتا، وهي مجموعة الفيروسات المسؤولة عن الإصابة بـ"سارس"، و"ميرس"، و"كوفيد-19".

وبمجرد التعرف على السلالة الفيروسية، "تنطبق مبادئ اكتشاف الأدوية نفسها"، حسب قول مارنيكس فان لوك، رئيس قسم مُسبِّبات الأمراض الناشئة بوحدة الصحة العامة العالمية، التابعة لشركة "جونسون أند جونسون" Johnson & Johnson في بيرس، بلجيكا. فكما يوضح، يحتاج الباحثون إلى إيجاد "بؤر قابلة للتأثر بالأدوية" على أسطح الإنزيمات الأساسية التي توجد بالشكل نفسه عند الفيروسات القريبة تطوريًّا من بعضها البعض، والتي يمكن استخدامها لتصميم الجزيئات النشطة في الأدوية.

وهكذا يكون الحال - على الأقل - إذا كان الدواء مُوجَّهًا نحو الفيروس ذاته، لكنْ بدلًا من ذلك، يهدف بعض الباحثين في مجال الأدوية إلى اعتراض المسارات التي تستولي عليها مجموعة كبيرة من الفيروسات في أجساد البشر لأغراضها الخاصة. وأحد هؤلاء الباحثين - على سبيل المثال - هو جيفري جلين، الذي يطور عقارًا يُعطِّل إنزيمًا منظِّمًا للدهون، تستغله فيروسات عديدة لتعزيز قدرتها على دخول الخلايا والتنسخ. ومن خلال تثبيط هذا الإنزيم، "فإنك تُجرِّد الفيروس من القدرة على الوصول إلى الوظيفة التي يعتمد عليها في العائل"، حسب وصف جلين، وهو متخصص في أمراض الجهاز الهضمي، وفي علم الفيروسات الجزيئي في كلية الطب التابعة لجامعة ستانفورد في كاليفورنيا.

وثمة استراتيجية أخرى لمكافحة الفيروسات تعتمد في عملها على العائل، ابتكرها اثنان من المتدربين السابقين في فريق جلين، وهما: نام-جون تشو، عالِم المواد من جامعة نانيانج التكنولوجية في سنغافورة، وجوشوا جاكمان، اختصاصي الهندسة الكيميائية من جامعة سونجكيونكوان في سيول. طوَّر هذان الباحثان أدوية ببتيدية صغيرة تُحْدِث ثقوبًا في الأغلفة الدهنية الموجودة حول الفيروسات المُغلَّفة7 وتأتي هذه الدهون من السطح الغشائي للخلايا البشرية، لكنّ الببتيدات تخترق الدهون المُغلِّفة للفيروسات فقط، لا الخلايا، بفضل الاختلافات في حجم بِنْية الغشاء، ومدى مرونته عند التعرّض للضغط.

ويصف تشو هذا الغطاء الدهني بأنه "القاسم المشترك" لجميع الفيروسات المُغلفة، وهي مجموعة تشمل الفيروسات المُصفِّرة، وفيروسات ألفا، وفيروسات كورونا، والفيروسات الخيطية، وفيروسات النسخ العكسي، وغيرها. ولا توجد سمة أخرى مشتركة على نطاق واسع بين جميع هذه الفيروسات المتنوعة. ولهذا السبب، يعتقد تشو أن مضادات الفيروسات التي تعتمد في عملها على المضيف قد تملك إمكانات أكبر كأدوات نستعد من خلالها للجائحة القادمة.

تتيح البيولوجيا البشرية أيضًا العديد من الأهداف التي يُحتمل أن تكون قابلة للتأثر بالأدوية أكثر مما تتيحه الفيروسات. وبالإضافة إلى ذلك، تتميز الفيروسات بأنها أقل قدرة على تطوير مقاومة ضد مضادات الفيروسات التي تعتمد في عملها على المضيف. فقد يحتاج البروتين الفيروسي إلى مجرد طفرة أو اثنتين فقط لتثبيط ارتباط العقار به، على سبيل المثال، في حين أن علاجًا يعتمد في عمله على المضيف بإمكانه أن يجبر الفيروس على اللجوء إلى عمليات خلوية مختلفة تمام الاختلاف.

ويخشى بعض العلماء من احتمالية أن يؤدي العبث بالمسارات الجزيئية البشرية إلى آثار جانبية غير مرغوب فيها، لكن شيريت إيناف، عالمة الفيروسات، واختصاصية الأمراض المُعدية من جامعة ستانفورد، تعتقد أن تلك المخاوف المتعلقة بالسمية مُبالَغ فيها. وتقول إيناف: "نعالج جميع الأمراض الأخرى من خلال استهداف وظيفة المضيف"، كما أن شركات الأدوية تستطيع اكتشاف الجزيئات وأنظمة الجرعات التي يمكن للأشخاص تحَمُّلها، دون ظهور أعراض جانبية. لماذا إذَن يكون الحال مختلفًا مع مضادات الفيروسات؟ وتضيف إيناف قائلة إنّ "علاج حالات العدوى الحادة لا يتطلب سوى عدة أيام" - وليس شهورًا، أو سنوات، كما هو الحال فيما يخص الأمراض المزمنة، "مما يساعد أيضًا على تقليل السمية التي يتعرض لها المضيف".

خطوات على طريق التأهب

ربما يوفر مزيج من الأدوية التي تعتمد في عملها على المضيف، والأدوية الأخرى ذات المفعول المباشر، أفضل حماية في مواجهة التهديدات الفيروسية المستقبلية، بيد أنه مهما كانت الاستراتيجية التي يتَّبعها العلماء، يتفق الخبراء على أن أي عقار مُخصَّص للاستعداد للجائحة ينبغي أن يكون قد خضع لاختبارات كاملة على الأقل، تُجرى على نماذج حيوانية، وأن يخضع لبعض التجارب في متطوعين أصحاء من البشر. و"بعد ذلك، عند اندلاع جائحة، يمكننا توزيع تلك الأدوية سريعًا بأفضل نطاق للجرعات المناسِبة للبشر"، حسبما يقول عالم الكيمياء كيلي تشيبالي، رئيس مركز اكتشاف الأدوية وتطويرها من جامعة كيب تاون بجنوب أفريقيا.

وسوف يتمثل الهدف في اعتماد مثل هذا العقار وتوزيعه عند تلك اللحظة الحاسمة التي تستلزم تصرفًا سريعًا، أي عند عدم توفر أنواع أخرى من أدوية الاستجابة السريعة، مثل اللقاحات، أو العلاجات بالأجسام المضادة.

باشر مطورو الأدوية بعضًا من هذه الجهود الاستباقية في أعقاب تفشي "سارس"، وذلك في مختبرات لاهويا، التابعة لشركة "فايزر" Pfizer للأدوية في كاليفورنيا، على سبيل المثال، إذ تمثلت استجابة العلماء لتفشي المرض في عام 2003 في تصميم جزيء8 يُثبِّط بروتينًا بعينه، يُعَد أساسيًّا لعملية تنسُّخ فيروس كورونا المسبب لهذا المرض، وهو إنزيم يُعرف باسم البروتياز الرئيس (Mpro)، الذي يتولى تقطيع سلاسل طويلة من البروتينات الفيروسية إلى أجزائها الوظيفية.

وعلى مدار ستة أشهر تقريبًا، "كان الجهد المبذول مكثفًا للغاية"، حسب قول عالم الكيمياء روب كانيا، الذي قاد مشروع "سارس" التابع لشركة "فايزر"، لكن حالات العدوى سرعان ما تلاشت. وبعد الإبلاغ عن آخر حالات الإصابة بفيروس "سارس" في عام 2004، أجّلت شركة "فايزر" وشركات أخرى تعمل على عقاقير التصدي للفيروس برامجها، إذ لم تكن هناك سوق مستقبلية للعلاج. وكما يُبيِّن تيموثي شيهان، عالم الفيروسات من جامعة نورث كارولينا، الذي عمل سابقًا في مجال المستحضرات الصيدلانية: "من الصعب إقناع شركة بصنع عقار مضاد لمُمْرِض غير موجود بالفعل".

ولكن فرصة إدخال تحسينات على أبرز العقاقير الواعدة بشكل يسمح باستخدامه إكلينيكيًّا لم تُتَح أبدًا لفريق كانيا البحثي، ناهيك عن اختبار العلاج على الفئران، أو على البشر. ولذلك، فعندما ظهر فيروس "سارس-كوف-2"، وكشفت التحليلات الجينومية أن بروتين Mpro للفيروس يكاد يطابق بروتين المُمرِض الأصلي المسبِّب لمرض "سارس"، (المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة)، كان يتوجب على الباحثين إجراء قدر كبير من الضبط الكيميائي الدقيق. وبحلول الوقت الذي أصبح فيه الدواء جاهزًا للاختبار على البشر9 وإنْ كان قد اختلف في الشكل النهائي بصورة طفيفة، كانت الموجة الأولى من الجائحة قد هدأت بالفعل، ولقي قرابة المليون شخص حتفهم بسبب الإصابة بالعدوى في أرجاء العالم.

دخل ذلك العقار، المُسمَّى "PF-07304814"، طور التجارب في سبتمبر الماضي في صورة علاج يُحقن عن طريق الوريد. وعلى الرغم من أنه كان بالإمكان تطوير الأبحاث بصورة أكبر، فعلى الأقل لم تبدأ شركة "فايزر" من الصفر، كما تقول تشارلوت أليرتون، رئيسة قسم تصميم الأدوية بالشركة. ورغم أن الشركات الأخرى تعمل على تعطيل المستهدف ذاته، فإن "فايزر" هي الشركة الوحيدة المصنعة للأدوية التي تمتلك مثبطًا تجريبيًّا لبروتين Mpro في التجارب البشرية التي تُجرى حاليًّا، بل تمتلك اثنين في حقيقة الأمر، فبخلاف دواء "سارس" المُعاد تطويره، الذي أنتجته شركة "فايزر"، بدأت الشركة خلال الشهر الماضي تجاربها على عقار واعد مختلف، يؤخذ عن طريق الفم، هو "PF-07321332".

وحول ذلك، تقول أليرتون: "أشعر بالسعادة لأننا كنا في وضع يسمح لنا بالتحرك سريعًا، ولأننا كنا قد انتهينا من الأعمال التحضيرية". وتردف قائلة: "لكنني تمنَّيت لو كنا قد استطعنا أن نقطع شوطًا أطول، فهل كان بإمكاننا بالتالي تقديم خيارات العلاج في وقت أقرب؟ بالقَطْع نعم".

صيحة تنبيه

في الوقت الحالي، تتعهد الشركات التي لم تكن قد بذلت المستوى نفسه من العمل الشاق، بألا يتكرر هذا مستقبلًا، إذ يقول جون يونج، الرئيس العالمي لقسم الأمراض المعدية في شركة "روش" Roche للأدوية، التي يقع مقرها في بازل بسويسرا، إن الجائحة كانت بمثابة "صيحة تنبيه"، ويضيف قائلًا: "إن ظهور الجائحة التالية ليس إلا مسألة وقت، وعلينا في مجال الصناعة أن نكون مستعدين لمواجهتها". "من الصعب إقناع شركة بصنع عقار مضاد لمُمْرِض غير موجود بالفعل".

وتحقيقًا لهذه الغاية، فإن قادة تحالف "كوفيد للبحث والتطوير" (CoVID R&D Alliance) - الذي يضم أكثر من عشرين شركة تعمل في مجال علوم الحياة، وشركات رأس مال استثماري، اتحدت معًا خلال العام الماضي؛ للتصدي لجائحة "سارس-كوف-2" - بصدد إطلاق مشروع جانبي مُوَجَّه نحو إنتاج مضادات فيروسات واسعة المجال، لعلاج فيروسات كورونا، وفيروسات الإنفلونزا. وحسبما أورد إليوت ليفي، رئيس قسم استراتيجيات العمليات والبحث والتطوير في شركة "أمجن"Amgen، التي تقع في مدينة ثاوزاند أوكس بولاية كاليفورنيا الأمريكية، والذي يترأس تلك الجهود، فالمجموعة تخطط لدفع ما يقرب من 25 مضادًّا فيروسيًّا واعدًا، لخوض التجارب الأولية على البشر، وتشييد البِنْية التحتية للتجارب الإكلينيكية اللازمة لإجراء الاختبارات بالتوازي عندما تظهر جائحة فتاكة تالية.

وتراود حكومة الولايات المتحدة طموحات مماثلة كذلك، إذ يقول فرانسيس كولينز، مدير معاهد الصحة الوطنية، إن مضادات الفيروسات المناوئة لفيروسات كورونا تمثل "المهمة الأولى"، لكنه صرَّح لدورية Nature بأن المبادرة "كانت تسعى بالتأكيد إلى أنْ تمتد لتشمل عائلات فيروسية أخرى، إذا أتيحت التمويلات لذلك".

وثمة جهود مكملة أيضًا، تتمثل في مشروع أُطلق عليه "مُسرِّع البحوث والتطوير لمكافحة فيروس كورونا في أوروبا" Corona Accelerated R&D in Europe Project، وهو مشروع مدته خمس سنوات، بتكلفة قدرها 75,8 مليون يورو (ما يعادل 90,1 مليون دولار أمريكي)، يستهدف إيجاد علاجات لكلٍّ من جائحة "كوفيد-19" الحالية، ولأية فاشيات مستقبلية لفيروسات كورونا. ويأمل مورمان وغيره من الباحثين في جامعة نورث كارولينا، من خلال مبادرتهم المعروفة باسم: "تطوير الأدوية المضادة للفيروسات السريعة الناشئة"، في جمْع 500 مليون دولار من الحكومات، والجهات الراعية للصناعة، والمؤسسات، لتطوير مضادات فيروسية واسعة المجال، ومباشِرة المفعول.

وفي الوقت ذاته، تكثف شركات أدوية كبرى جهودها الداخلية حاليًّا، فعلى سبيل المثال، تقوم شركة "نوفارتس" Novartis حاليًّا بتحسين مُثبِّط يعمل على التصدي لجميع فيروسات كورونا، وتحديدًا إنزيم Mpro. وحسبما يقول جون تالاريكو، رئيس قسم البيولوجيا الكيميائية والعلاجات في شركة "نوفارتس"، فإن الشركة أمامها فترة تُقَدَّر بعام واحد - على الأقل - للبدء في التجارب الإكلينيكية على البشر، وبعده ربما نكون قد استطعنا السيطرة تمامًا على جائحة "كوفيد-19". ومع ذلك، وحسب قوله أيضًا، تلتزم شركة "نوفارتس" بدفع هذا البرنامج قُدمًا إلى الأمام.

ويستدرك ليفي بقوله: "معدل الاستثمارات الواردة من قطاع الصناعة حاليًّا لا يتناسب مع التهديدات المحيقة"، ولهذا السبب، يأمل ليفي في جمْع ما يقرب من مليار دولار أمريكي من شركات الأدوية وحدها لمشروع "تحالف كوفيد للبحث والتطوير"، من أجل التأهب لمواجهة الجوائح. ويقول إن الأموال الإضافية يمكن أن تأتي أيضًا من المنظمات غير الربحية، وغيرها من الأطراف المعنية المباشِرة.

ويشعر آندي بلامب، رئيس قسم البحث والتطوير بشركة "تاكيدا فارماسوتيكال" Takeda Pharmaceutical في كامبريدج بولاية ماساتشوستس، وأحد قادة التحالف، بالتفاؤل بشأن فرص نجاح البرنامج. ويقول معلقًا: "في الوقت الحالي، يوجد زخم وراء هذه الجهود، نظرًا إلى الطابع المُلِحّ لأزمة تفشي "سارس-كوف-2"، بيد أنه لا يرغب في أن نعود إلى الحالة السابقة من اللامبالاة، كما حدث بعد "سارس"، و"ميرس"، فنحن – على حد قوله - "بحاجة إلى استغلال هذه الفرصة على الفور".

اضف تعليق