q
الأزمة الحقيقية والمعضلة الكبرى، بدأت منذ تناقضت مشروعات الدولة مع مشروعات الأمة، وأصبحت الدولة تمارس كل جبروتها في سبيل إقصاء الأمة بنخبها وعلمائها واهتماماتها عن مسرح الحياة السياسية والثقافية للعالم الإسلامي. فالاستبداد السياسي الذي تمارسه الدولة، أخذ طريقه للتوسع والانتشار على قاعدة تهميش الأمة وإقصائها...

من الطبيعي أن تتمايز بنية المجتمع عن بنية الدولة، إذ لكل طرف أدواره ومقتضيات مختلفة عن الآخر، إلا أنه مـن غير الطبيعي أن تتناقض أهداف الدولة ومشروعاتها عن أهداف ومشروعات الأمة.

إذ أن هذا التناقض، هو الفجوة الكبرى التي حدثت في التجربة الإسلامية التاريخية، ودخلت واستوطنت من خلالها الأزمات والمآزق والمعضلات والتداعيات الذي لا زال واقعنا يعاني من آثارها وتأثيراها.

فالأزمة الحقيقية والمعضلة الكبرى، بدأت منذ تناقضت مشروعات الدولة مع مشروعات الأمة، وأصبحت الدولة تمارس كل جبروتها في سبيل إقصاء الأمة بنخبها وعلمائها واهتماماتها عن مسرح الحياة السياسية والثقافية للعالم الإسلامي.

فالاستبداد السياسي الذي تمارسه الدولة، أخذ طريقه للتوسع والانتشار على قاعدة تهميش الأمة وإقصائها عن الفعل السياسي والحضاري.

إذ أن مراقبة الأمة ومحاسبتها للحكام وحضورها الدائم على مسرح الأحداث، كان يحول دون تغوّل الدولة واعتمادها المطلق على القهر والبطش والاستبداد في الإدارة والحكم.

وحين تتأزم العلاقة بين الدولة والأمة، تبرز على السطح كل العناوين الفرعية التي أعطى لها الإسلام مضمونا جديدا، أو حالت قيمه ومبادئه دون التعصب الأعمى لتلك العناوين الفرعية. فالعشيرة والقبيلة مثلا أصبحت في التجربة الإسلامية التاريخية، كيانات اجتماعية طبيعية، تمارس دورها في التضامن الداخلي والدعوة وبناء المجتمع الجديد. ولكن حينما تتخلى الدولة عن مشروع الأمة الحضاري والسياسي، أو تتناقض خيارات الدولة مع خيارات الأمة، فإن كل العناوين الفرعية المتوفرة في الجسم الاجتماعي والسياسي للمسلمين، تبدأ بالبروز القلق وممارسة أدوار مختلفة وخطيرة. وفي بعض الحقب والتجارب كان لعودة هؤلاء الناس إلى عناوينهم الفرعية تأثيرات سلبية خطيرة على وحدة الأمة والمجتمع الإسلامي.

وذلك لعـودة هؤلاء إلى المضامين الجاهلية أو السيئة وذات البعد العصبوي إلى عناوينهم الفرعية.

ولذلك نستطيع القول أن تكامل الأمة والدولة في التجربة الإسلامية، هو الكفيل بصهر كل العناوين الفرعية في بوتقة الأمة ومشروعاتها الحضارية. ودائما تبدأ محنة المسلم الكبرى، حينما تبتعد الدولة ككيان سياسي وإداري عن الأمة وخياراتها. وتتأزم العلاقة بين المجتمع والــدولة حينما تمارس الدولة عمليات التهميش و الإقصاء لقوى الأمة الذاتية (الأهلية)، وتسعى نحو إضعاف الأمة، حتى يتسنى لها القيام بكل شيء على مختلف الصعد بدون حسيب أو رقيب.

لذلك فإن حضور الأمة وحيويتها وجهادها، واستمرار تطور قواها الذاتية، هو الضمان الوحيد لعدم تغوّل الدولة وتحولها إلى كيان يختزل إمكانات الأمة في مؤسساته وأطره، ويحركها وفق مصالحه الضيقة. إننا مع الدولة القوية القادرة على الدفاع عن سيادة المسلمين وعزهم واستقلالهم، ولكن قوة الدولة الحقيقية لا تتأتى إلا من خلال ممارسة الأمة بمؤسساتها ومنابرها الأهلية والمدنية لدورها وحريتها.

حيوية الأمة وقوتها، هو طريق صناعة الدولة القوية، وأي طريق يتجه إلى صناعة قوة الدولة بعيدا عن هذا الخيار، فإنه يؤدي بنا إلى الدخول في نفق مظلم من العلاقة المتوترة وذات الطابع الصراعي بين الدولة والأمة.

وهذا النفق المظلم، هو الذي يعطل المجال الحضاري الإسلامي من القيام بدوره الكوني.

ومع اتساع دائرة انحراف السلطنة العثمانية، وتضخم نزعة الاستبداد لديها، واشتداد استخدام العنف والقوة تجاه الآراء الحرة والأفكار الجديدة. لدرجة أن المؤرخين أطلقوا على السلطان عبد الحميد اسم (السلطان الأحمر) كتعبير عن سياسة الشدة والغلظة والاستبداد التي ينتهجها. مع اتساع هذه الدائرة التي أصبحت ككرة الثلج، حيث أن السلطنة بدأت تواجه أزماتها وإشكالياتها بالمزيد من استخدام العنف والقوة والقهر، بدأت النخب الثقافية والسياسية، تطرح مشروعات بديلة عن السلطنة العثمانية. وأضحت الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية للعالم الإسلامي آنذاك سجالا محموما بين اتجاهات ثلاث:

1- السلطنة العثمانية بما تشكل من رمزية تاريخية وثقل روحي وامتداد جغرافي وقوة عسكرية.

2- القوى الاستعمارية الجديدة، التي بدأت تنشط على ساحة العالم الإسلامي وذلك لتثبيت أقـدامها ودحر عدوها التاريخي الذي أصابته في تلك الآونة أعراض الضعف والمرض.

3- النخب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي لم تكن على رأي واحد، وإنما هي عبارة عن قوة جديدة، وذات مرجعيات مختلفة، وثقافات متباينة، إلا أن القاسم المشترك بين هذه النخب، هو إيمانها بضرورة تغيير الواقع المعيش، والسعي نحو تحديث العالم العربي والإسلامي.

ومن خلال هذه السجالات المستديمة، تمخضت مشروعات سياسية وفكرية كثيرة، وبدأت تتوالد التحالفات والإستقطابات الجديدة، وتبرز التناقضات في تشخيص الواقع وطرق معالجته، وبدأت القوى الاستعمارية تمارس مكرها وكيدها ودسائسها لتوجيه هذه السجالات ومن وراءها إرادة التغيير في تجاه يخدم مصالح المستعمر، ويثبت حقائقه السياسية والعسكرية والثقافية على الأرض العربية والإسلامية. وبفعل عوامل عديدة ذاتية وموضوعية، طرح شعار الاستقلال القطري، كخيار إستراتيجي بالنسبة إلى العديد من الأقاليم العربية والإسلامية.

وبدأت النخب السياسية والثقافية بحشد الجمهور تجاه الهدف الجديد.

وهكذا ولدت الدولة الوطنية في المجال العربي والإسلامي، وهي تحمل مأزقها وأزمتها. فهل الدولة الوطنية هي خيار نهائي، أم هي مقدمة ضرورية للوصول إلى الدولة القومية.. ووفق أي قواعد تتشكل علاقة هذه الدولة الوطنية مع شقيقاتها، وكيف تكون علاقة الجميع بالحلم القومي وبالأمة.

(ومما زاد وهن الدولة العربية على وهنها السابق، هو أنها لم تتمكن من اكتساب الشرعية الأيدلوجية اللازمة. حيث تتداخل في الوعي والوجدان العربي الإسلامي عامة، حلقات الولاء القطري المحلي والقومي والإسلامي. ورغم كل المحاولات التي بذلت لاستنبات مشروعية تاريخية وأيدلوجية للكيانات القطرية العربية المستجدة من خلال استدعاء الأدبيات القومية الغربية، ومن خلال النبش في السجلات التاريخية القديمة. ومع ذلك فقد ظل قطاع واسع من الرعايا، ينظر إلى هذه الدولة بعين الـريبة والشك، ولم يـر فيها في أحسن الحـالات سوى محـطة عبور إلى ما بعدها).

وأضحت المشكلة الأساسية التي تواجه الدولة الوطنية في العالم العربي والإسلامي، هي غياب مفهوم الأمة الشامل عن فضائها ومحيطها السياسي، وعدم قدرتها على تجاوز الثقل المعنوي والثقافي لمشروع الوحدة القومية أو الإسلامية.

والأمة محورها الأساس هو الدين. فالجماعة البشرية التي تتمحور حول دين وعقيدة، وتسعى وتعمل على تحويل هذا الدين أو تلك العقيدة إلى وقائع وحقائق. هذه الجماعة البشرية يطلق عليها مصطلح (الأمة).

ولقد حاولت الدول المنحرفة والاستبدادية في التجربة الإسلامية التاريخية، أن تغيّر من محور الأمة وقطبها الأساس، فجاءت دول سعت أن تكون القرابة هي محور الجماعة، وأخرى العنصر العربي وهكذا. ولذلك نجد أن في التاريخ كانت هناك صراعات وانقسامات على هذه القواعد. فحاول البعض التمييز في العطاء، وإعطاء الفرص والمناصب السياسية الهامة إلى شخصيات معيار إختيارها ليس الكفاءة والقدرة، وإنما القرابة الدموية. ومع اتساع رقعة الإسلام بدأ التمييز على قاعدة العرب والموالي، ولقد أحدث هذا التمييز في التجربة الإسلامية التاريخية العديد من الصراعات والحروب والثورات.

فالمحور الأساسي لمفهوم (الأمة) هو الدين والعقيدة، لذلك فإن مفهوم الأمة سيرورة تاريخية، إذ مع اتساع رقعة الإسلام تتسع دائرة الأمة ومسؤولياتها.

لهذا نجد أن التوجهات العامة والتكاليف الاجتماعية والحضارية، التي أرسى دعائمها الدين الإسلامي لم تتوجه إلى آحاد الأمة أو كيانها السياسي (الدولة)، وإنما هي توجهت بشكل مباشر إلى الأمة. فهي المسؤولة عن تنفيذ تلك التوجهات، وهي الحاضن إلى القوى المـؤهلة لتحويل تلك التكاليف إلى وقائع قائمة في المجال الاجتماعي والحضاري.

قال تعالى [واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين لكم آياته لعلكم تهتدون * ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون * ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد وما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم].

فالوحدة كقيمة إسلامية وإنسانية كبرى، يتجه التكليف فيها إلى الأمة. فالوحدة تبدأ من الدوائر الاجتماعية الصغيرة، حتى تصل إلى الدوائر الكبيرة. فالأمة هي المسؤولة الأولى عن خلق الوحدة بوعيها وإرادتها وتصميمها على تجاوز كل العقبات المتوفرة في الواقع المجتمعي التي تحول دون ذلك.

وقال تعالى [وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا...].

فالعمران الحضاري يتطلب حضورا حيويا للأمة وشهودا متواصلا من قبل القوى والأطر التي تجسد إرادة الأمة، حتى يتحقق الرقي الحضاري.

فشهود الأمة ووسطيتها، هو الشرط الضروري للتقدم الشامل.

وتاريخيا كان للأمة بمؤسساتها ومنابرها وإمكاناتها الأهلية، الدور الرئيسي والجوهري في توسع رقعة الإسلام، وتذليل الكثير من العقبات التي تحول دون استمرار حركة الفتح الروحي والحضاري.

واستخدمت في سبيل ذلك وسائل حضارية كالدعوة بالتي هي أحسن إلى الدين الجديد، والتواصل الإنساني، وصناعة القدوة الحسنة، التي تمارس فعلا دعويا متواصلا من خلال سلوكها وحركتها العامة.

وفي إطار مشروع الأمة الحضاري، الذي يتجه إلى الأقوام والشعوب الأخرى لإشراكها في عملية العمران الحضاري وفق القيم الجديدة التي جاء بها الإسلام.

لم تمارس (الأمة) أي فعل عنفي أو لم تستخدم وسائل القهر والبطش في سبيل إخضاع الشعوب الأخرى. وإنما قامت بنشر العلم والمعرفة بوسائل حضارية، وتحولت بيوتات العلم ومراكز المعرفة في الأمة إلى مراكز إشعاع علمي – حضاري، أخذت على عاتقها تعميم قيم الدين الجديد، وتعريف الآخرين بقيم الإسلام ومثله ومبادئه.

ومنذ انطلاقة الإسلام " سعى لاستيعاب القبلية عن طريق توسيعها لتشمل الأمة التي يُفترض أن تنمو تدريجيا لتشمل العالم. ويعتبر أعضاء القبيلة أنفسهم إخوة على أساس قرابة نسبية. يتخذ الإسلام مبدأ الأخوة القبلي منطلقا لكنه ينسف أساسه البيولوجي ويوسعه ليشمل جميع أعضاء الأمة. هذا التوسيع للمفاهيم يحولها إلى نقيضها، فتصبح منطلقا لتكوين جماعة واسعة قائمة على أسس إنسانية شمولية بدل أن تبقى محصورة في الجماعة الضيقة لكل ما هو خارج إطارها".

وبهذه الطريقة حقق الإسلام تحولا نوعيا في الواقع المجتمعي، إذ تم صهر كل العناوين الفرعية في دائرة الأمة (مع احترام كامل للخصوصيات الذاتية)، وتم تأسيس الدولة والتجربة السياسية على قاعدة الأمة الجديدة.

فالأمة في التجربة الحضارية، هي الإرادة الكبرى لإنجاز مشروعات الإسلام الحضارية. فهي التي أوصلت الإسلام إلى أصقاع المعمورة، وهي التي احتضنت المجاهدين والعلماء والذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية الدعوة والإرشاد، وهي التي أبدعت وسائل عديدة لاستمرار مشروعات صناعة الخير على مختلف الصعد والمستويات. وهي التي أمدت مشروعات الفتح الحضاري بالكفاءات البشرية المؤهلة والقادرة على ممارسة دورا متميزا في هذا المجال.

فمن مؤسسات الأمة العلمية والتربوية، برز آلاف العلماء والفقهاء والمجاهدين والمصلحين، الذين مارسوا أو قاموا بأدوار جوهرية وحاسمة في عمليات النهضة والبناء.

ومن مؤسسات الأمة الخيرية والأهلية والتطوعية، تم دعم الدعاة والمجاهدين، وتوفير كل مستلزمات الانطلاق في رحاب المعمورة. ومن هذه المؤسسات برزت إمكانات الأمة الاقتصادية والإنتاجية، التي أصبحت جزءا رئيسيا في حركة الاقتصاد والإنتاج لعالم المسلمين. ومن بركات هذه المؤسسات، تم رعاية واحتضان كل الحلقات الضعيفة في المجتمع والأمة.

فالأمة هي التي قامت بالأدوار الكبرى في سبيل إنقاذ العالم من جاهليته وخلاصه من كل المعوقات التي تحول دون انطلاقته.

ونحن هنا لا ننكر دور الدولة في التجربة الحضارية والإسلامية، فالدولة في المنظور الإسلامي ضرورة شرعية وحضارية وذلك لأنها "المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة و الإنسانية، وإنقاذه مما يعانيه من ألوان التشتت والتبعية والضياع".

فما دامت الدولة في المنظور الإسلامي ضرورة شرعية وحضارية، لذلك ينبغي أن يهتم بها المسلمون ويجعلها دائما مع خيارات الأمة. ولا ريب أن فعالية الأمة وحركية المجتمع، هي من العوامل الجوهرية والضرورية التي تحول دون تغوّل الدولة أو ابتعادها عن خيارات الأمة ومطامحها الكبرى.

اضف تعليق