q
يعلمنا التاريخ بان مسيرة الالف ميل في اي تحول حضاري كبير تبدأ بحلم. ينشأ الحلم رد فعل على واقع معاش بائس ومؤلم ومظلم. وفي لحظة ما قد يبدو امام الانسان انه من المستحيل او الصعب جدا تغيير هذا الواقع، فيلجأ الى الحلم للتخفيف من وطأة الم ذلك الواقع...

يعلمنا التاريخ بان مسيرة الالف ميل في اي تحول حضاري كبير تبدأ بحلم. ينشأ الحلم رد فعل على واقع معاش بائس ومؤلم ومظلم. وفي لحظة ما قد يبدو امام الانسان انه من المستحيل او الصعب جدا تغيير هذا الواقع، فيلجأ الى الحلم للتخفيف من وطأة الم ذلك الواقع. وسيكون من بين الحالمين اشخاص منحهم الله القدرة على انتاج الافكار والمفاهيم ردا على الافكار والمفاهيم التي يمثلها الواقع المرير.

فيبدأون بطرح فكرة جديدة تمثل رد فعل حالم ووردي على ذلك الواقع. ومثل هؤلاء يمتازون بصفة اخرى هي الثقة العالية بانفسهم وقدرتهم على تغيير الواقع وتحقيق احلامهم. وتدفعهم هذه الثقة العالية الى سرد حلمهم على المقربين منهم. ويصادف ان بعض هؤلاء المقربين يشاركونهم نفس الحلم. وبمرور الوقت تتشكل فئة من الناس الحالمين الذين اطلق عليهم المؤرخ البريطاني المعروف ارنولد توينبي اسم "الاقلية المبدعة"، ويمكن ان نضيف اليها صفة اخرى هي "الحالمة". ينطلق افراد هذه "الاقلية المبدعة الحالمة" الى المجتمع الاوسع، ويبشرون الناس بالحلم، ويدعونهم الى ان يحلموا معهم.

ويصادف ايضا ان اناسا من الذين وصلتهم الدعوة كانوا يشعرون بالالم والاسى من فداحة المعاناة التي يمثلها الواقع المعاش فياخذون بالحلم معهم بواقع افضل حيث لا معاناة ولا بؤس ولا الم. وهذا تنطلق مسيرة الحالمين بعد ان كثر عددهم وكبر حجمهم لتتحول الى حركة اجتماعية تنشد التغيير وتعمل على تشييد واقع جديد يخلو من البؤس وصعوبة العيش وتدني مستوى الحياة. وغالبا ما ينجح هؤلاء بزرع بذور النهضة في مجتمعهم فيحصل التغيير في نهاية المطاف الذي قد يطول امده او قد يقصر.

واذا كان يصعب على البعض تقبل ان يكون النبي محمد (ص) من بين هؤلاء الحالمين وهو يتحسس الالم من واقع مجتمعه العقائدي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي البائس فذهب وحيدا الى غار حراء ليحلم بواقع افضل حتى اتاه الوحي الذي صوّر له هذا الواقع الجديد الذي يشمل ملك كسرى وقيصر، ومن ثم تحقق هذا الحلم على يديه بعد ١٠ سنوات، اذا كان يصعب علينا ان ننظر اليه من هذه الزاوية وهو نبي مرسل، فسوف نبحث عن رجال او نساء حالمين غيره، لنعثر بعد ١٠٠ سنة من هجرته الى المدينة، على محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، عم النبي محمد (ص) الذي كان يسكن في قرية نائية بالشام ليحلم فيها بدولة يحكمها ولده تخلف دولة الامويين، فوجه دعاته في تلك السنة "في الافاق"، وكان لهم ما حلموا به بعد ٣١ سنة حين تمكنوا من الاطاحة بالدولة الاموية واقامة الدولة العباسية.

وبعد عدة مئات من السنين، وحين كانت انكلترا تئن تحت وطأة حكم اقطاعي مستبد، كان عدد من الاشخاص يحلمون بحكم ديمقراطي تسود فيه كلمة الشعب وتقيد فيه سلطة الملك المستبد، فكانت وثيقة الماگناكارتا في عام ١٢٥٨ اولا، ثم الثورة الانگليزية الموصوفة بالمجيدة Glorious Revolution، عام ١٦٨٨ التي عُزل إثرها الملك جيمس الثاني حاكم إنجلترا وإسكتلندا وإيرلندا في شهر تشرين الاول من ذلك العام. وكانت اولى الثورات في التاريخ الحديث والتي اعقبت الحرب الأهلية الإنجليزية (١٦٤٢-١٦٥١)، ومعاهدات وستفاليا عام ١٦٤٨، لتبدأ مسيرة طويلة كان من معالمها انطلاق الثورة الصناعية في بريطانيا منذ اواسط القرن الثامن عشر.

وظهر في فرنسا عدد من الحالمين الذين ضاقوا ذرعا باوضاعها السياسية والاقتصادية، وكان في مقدمتهم جان جاك روسو الذي الف كتابه الشهير "العقد الاجتماعي" سنة ١٧٦٢ والذي الهم الفرنسيين بعد ٢٧ سنة ليقوموا بثورة ١٤ تموز عام ١٧٨٩ والتي غيرت وجه اوروبا منذ ذلك اليوم.

كانت الثورة الاميركية التي اقامت اقوى دولة حتى الان حلما راود عقول نفر من الرجال اطلق عليهم المؤرخون اسم "الاباء المؤسسون". تمكن هؤلاء عبر النضال المستميت لعدة سنوات من توحيد المستعمرات الثلاث عشرة، التي كونت الولايات المتحدة في البداية، وقادوا الحرب من أجل الاستقلال عن بريطانيا العظمى، وبنوا إطارًا حكوميًا للولايات المتحدة الأمريكية الجديدة على أسس جمهورية خلال العقود الأخيرة من القرن الثامن عشر. حدد المؤرخ ريتشارد ب. موريس في عام 1973 الشخصيات السبع التالية كالآباء المؤسسين المحوريين: جون آدمز، بنجامين فرانكلين، ألكساندر هاميلتون، جون جاي، توماس جيفرسون، جيمس ماديسون، وجورج واشنطن استنادًا إلى الأدوار الأساسية والمهمة التي لعبوها في تشكيل الحكومة الجديدة في البلاد. كتب هؤلاء، واخرون، "إعلان الاستقلال" الذي اعتمد ٤ تموز من عام 1776، مُعلناً استقلالها عن بريطانيا العظمى.

كان ماركس وصديقه انجلز يحلمان بثورة عمالية تكتسح الانظمة الرأسمالية وتقيم النظام الاشتراكي. وكتبا لهذا الغرض "البيان الشيوعي" عام ١٨٤٨ الدي وردت في سطره الاخير الجملة التالية: "العمال ليس لديهم ما يخسرونه سوى أغلالهم". ثم الف ماركس الجزء الاول من كتابه الكبير "راس المال" عام ١٨٦٧ و لم يعش لنشر الجزأين الثاني والثالث المخطط لهما، فاستكملهما ونشرهما بعد وفاته صديقه فريدريك إنجلز. وبعد ٥٠ سنة قاد الروسي الحالم لينين الثورة الشيوعية في روسيا في عام ١٩١٧، التي اقامت الاتحاد السوفياتي، اكبر امبراطورية في القرن العشرين.

وفي عام ١٩٦٣ اعلن الاميركي الاسود من اصل افريقي مارتن لوثر كنك انه يحلم بالغاء التفرقة العنصرية في الولايات المتحدة والقى كلمته المشهورة "لدى حلم" " I have a dream " التي قال فيها: "لدي حلم بأنه في يوم من الأيام أطفالي الأربعة سيعيشون في شعب لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم".

بعد ٤٦ سنة اصبح الاسود من اصول افريقية واب مسلم باراك أوباما واسمه الكامل باراك حسين أوباما الابن الرئيس الرابع والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية في عام 2009 وأول رئيس من أصول أفريقية يصل للبيت الأبيض.

وفي عام ١٩٦٩ القى السيد الخميني المنفي في النجف (١٩٠٢-١٩٨٩) محاضراته حول ولاية الفقيه، او الحكومة الاسلامية. وقد تم ترجمتها إلى اللغة العربية، وطبعت لأول مرة في بيروت عام 1970 م وتم أرسالها بسرية إلى إيران، وكانت تلك هي شرارة الثورة الاسلامية التي اطاحت بنظام الشاه واقامت الجمهورية الاسلامية في عام ١٩٧٩.

الحلم يأتي ردا على واقع مؤلم يعيشه الانسان وليس استكمالا لواقع وردي يحيا تحت ظلاله الوارفة. فالحياة الصعبة وتردي الاوضاع العامة يجعلك تحلم (او تتمنى) واقعا افضل تزول فيه الصعوبات والالام والمعاناة. وقد يبدو هذا الحلم من المستحيل تحقيقه مقارنة مع السلبيات التي تسود في واقعك المعاش، لكن هذا لا يمنعك من ان تحلم بان احلامك تحققت. فما الذي يمنعك من ان تحلم؟ بل لماذا تحرم نفسك من متعة الحلم ولذته؟

في عهد صدام الدكتاتوري الاسود كنا نحلم بالحرية ردا على العبودية التي احكم صدام اغلالها علينا، وبعد ان تحررنا، لم يتمكن الذين تولوا زمام الامور من اقامة دولة قادرة على تحقيق السعادة والرضا للناس. فاخذ بعضهم، وانا من ضمنهم، يحلمون بدولة اخرى تحقق لهم ذلك. ومنذ عام ٢٠١٧ اطلقتُ على هذا الحلم اسم "الدولة الحضارية الحديثة"، محاكاة لدول تحققت فيها بعض مفردات هذا الحلم الوردي على درجات متفاوتة.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق