q
بعض العلماء ينظر ويمارس الاقتصاد والفلسفة من خلال موقف تاريخي يجعله مرتبط كثيرا بتاريخ الاقتصاد والفلسفة. علماء آخرون يرون ان الوظيفة الاساسية للاقتصاد والفلسفة هي في الاساس إعطاء تقييم نقدي بهدف توضيح ممارسات الاقتصاديين. الاقتصاد والفلسفة ايضا يتم ممارستهما كشكل جديد من الامبريالية الاقتصادية...

كان التفكير الاقتصادي منذ البدء متداخلا بعمق مع الاعتبارات الفلسفية. المفكرون الاقتصاديون الأوائل منذ ارسطو وحتى آدم سمث وجون ستيوارت مل كانوا ايضا من أبرز الفلاسفة. ورغم مساهمة الثورة الحدية وظهور الاقتصاد الكلاسيكي الجديد في نهاية القرن التاسع عشر في بناء الاقتصاد كـ "علم منفصل" قليل التفاعل مع الفلسفة والعلوم الاجتماعية الاخرى لكن العديد من اقتصاديي القرن العشرين الكبار كان لهم ايضا اهتمام بالمسائل الفلسفية.

كنز، هايك، سين او ميردال هم أمثلة لإقتصاديين (لا على سبيل الحصر) متميزين كانت لهم ايضا مساهمات في مختلف مجالات الفلسفة وكانت أعمالهم الاقتصادية يتم إبلاغها برؤى فلسفية. مع ذلك، من الإنصاف القول ان القرن العشرين شهد انحدارا متزايدا في اهتمامات الاقتصاديين بالقضايا الفلسفية، بنفس الطريقة التي اعتُبر فيها تاريخ الاقتصاد "غير ملائم" للحقل.

العدد الخاص من المجلة البحثية الفرنسية (the revue de economie politique)، عدد 2018/2 تأثّر بالصياغات المتجددة الاخيرة للأعمال الاكاديمية المرتبطة بالتداخل بين الاقتصاد والفلسفة. هذا التجديد هو علمي بالطبع، مع وجود العديد من المساهمات التي تمزج بين التحليلات الاقتصادية والتفكير الفلسفي في القضايا السوسيواقتصادية الحالية مثل الإحتباس الحراري واللامساواة الاقتصادية والفقر والشيخوخة وقضايا الصحة. ولكن التجديد هو ايضا مؤسسي، خاصة في فرنسا وبقية دول اوربا. وكتوضيح على ذلك، منذ عام 2012 جرى تنظيم ثلاثة مؤتمرات دولية لـ "الفلسفة الاقتصادية" في فرنسا (في ليل وستراسبورغ و مقاطعة اكس اين) بالارتباط مع خلق "شبكة اقتصاد- فلسفة" هدفها جمع معلومات اكاديمية ومؤسسية ملائمة تتعلق بهذا الحقل الفرعي.

العديد من المجلات البحثية العالمية حاليا تتخصص في نشر أعمال تقع في نقاط الالتقاء بين الاقتصاد والفلسفة. هذا العدد الخاص من المجلة البحثية يهدف الى عرض نماذج من القضايا الأخيرة التي تُعالج في هذا المجال، دون ان يطمح ليكون شاملا بأي طريقة.

معنى "الفلسفة والاقتصاد"

من المدهش عدم وجود إجماع بين الأكاديميين الذين يعملون عند الإلتقاء بين الاقتصاد والفلسفة بشأن الطبيعة الدقيقة ومحتوى ممارساتهم الأكاديمية. هذا النقص في الاتفاق (بدلا من عدم الاتفاق الواضح والراسخ) ايضا يحدث في المصطلح المستعمل للاشارة لهذه الممارسات: "الفلسفة الاقتصادية"، "فلسفة الاقتصاد"، الاقتصاد الفلسفي"، و"الاقتصاد والفلسفة" كلها استُعملت لتصف الأعمال التي تمزج بين الاقتصاد والاعتبارات الفلسفية.

من الواضح، ان هذه التعبيرات ليست متساوية تماما لأن بعضها قد يعطي انطباعا بأفضلية حقل على آخر. فلسفة الاقتصاد ترتبط بفكرة النظر الى الاقتصاد كموضوع يُدرس من منظور فلسفي. هذا المصطلح الاخير يشير الى ان التقاء الاقتصاد والفلسفة هو "فقط" فرع آخر لفلسفة العلوم، مجاور لفلسفة البايولوجي او فلسفة العلوم الاجتماعية. اخيرا، مع ان تعبير "الاقتصاد والفلسفة" هو الأقل التزاما، لكنه بالطبع الأكثر احتمالا ليُعرّف في كبريات المجلات البحثية للحقل بـ الاقتصاد والفلسفة، والتي تنشر أعمالا تمثل فقط نزعة واحدة –مع انها هامة– لإتجاهات تجمع بين الادوات الاقتصادية والتحليلات الفلسفية. من الواضح، لا سبب هناك للنقاش حول المصطلح الملائم. يمكن تطبيق شعار فيتجنشتاين في ان "معنى الكلمة يكمن في استعمالها"، ومن المهم كثيرا ان نقرر ما نشير لـه "مهما كان الطابع او الوصفة المفضلة" بالنظر الى ما يقوم به الباحثون في الحقل الذي يعملون به. من المفيد ان نمتلك تعبيرا عاما لنصف الشيء الذي نهتم به. وصفة "الفلسفة والاقتصاد" لها ميزة كونها عمومية وغير ملتزمة، لا تضع إحالة الى مجال معين.

هناك عدة طرق للتفكير في طبيعة ومحتوى الاقتصاد والفلسفة. بعض الوصفات التي نوقشت أعلاه، مقيدة تماما واخرى أوسع وتضم تنوعا واسعا من القضايا والطرق والاهداف. مثال على التفكير المقيد، الخصائص المقيدة للاقتصاد والفلسفة التي عرضها دون روس (2014:13). روس ينظر الى الاقتصاد والفلسفة كفرع من فلسفة العلوم مع اهتمام خاص في توحيد مختلف التخصصات في منظور يتطلع الى الامام. بكلمة اخرى، طبقا لروس، الاقتصاد والفلسفة لهما نفس المجال والحدود مع مجموعة من الاعمال التي تستجوب العلاقة بين الاقتصاد والعلوم الاخرى (خاصة علم النفس وعلم الاجتماع) في ضوء الممارسات الحقيقية للاقتصادي.

ان قضية الاهتمام الخاص في هذا المنظور هي في ازالة الحدود بين الاقتصاد والعلوم الاخرى. مثل هذا التوصيف يجعل هناك معنى في السياق الحالي لتطور الاقتصاد السلوكي والتجريبي الذي يساهم في إعادة رسم التفاعل بين الاقتصاد وعلم النفس. مع ذلك، انه ايضا يستبعد نسبة هامة جدا من أعمال الباحثين التي تمزج الاقتصاد مع الاعتبارات الفلسفية. فمثلا، ما يصفه روس بـ "التحليل المفاهيمي" (بمعنى كل الاعمال التي تدرس معنى المفاهيم المستعملة من جانب الاقتصاديين) هي خارج هذا التوصيف للاقتصاد والفلسفة. وما هو اكثر اشكالية، هو ان الدراسات الهائلة التي تستعمل الادوات الاقتصادية مثل نظرية المباراة في دراسة قضايا تعود للفلسفة الاخلاقية والسياسية لا يمكن تضمينها في حقل الاقتصاد والفلسفة كما وُصف من جانب روس.

ولهذا مطلوب التفكير بطريقة اكثر شمولية. هاندس (2016) يرى ان الادب المتعلق بالاقتصاد والفلسفة يمكن تقسيمه الى مجموعتين: المنهجية الاقتصادية، من جهة (التي تربط الاقتصاد بفلسفة العلوم) ومن جهة اخرى، الاقتصاد والاخلاق (او الفلسفة الاخلاقية). يعرض هاندس هاتين المنطقتين باعتبارهما منفصلتين بالضرورة ولكن وكما تبيّن مساهمات هذا العدد الخاص، انهما في التطبيق احيانا يتداخلان بشكل كبير. اما الكاتبان Gilles campagnolo و Jean Sebastien يقترحان في مقدمة كتابهما(2017) ان الاقتصاد والفلسفة يجب النظر اليهما كاتحاد من ثلاث مناطق متداخلة جزئيا: "الفلسفة الاخلاقية/السياسية والاقتصاد السياسي"، فلسفة الفعل ونظرية القرار"، "فلسفة العلوم والمنهجية الاقتصادية".

هذا التصنيف يوضح حقيقة انه مهما كان الموضوع الخاص لتلك التخصصات، فان المساهمات في الفلسفة والاقتصاد تتأسس على التفاعل بين كلا الحقلين. العلاقة بين الفلسفة الاخلاقية/السياسية والاقتصاد السياسي من جهة، والاقتصاد المعياري من جهة اخرى ليست جديدة بالطبع. ان إحتضان الاقتصاديين المبكر للنفعية ثم رفضها لاحقا في الثلاثينات على أساس استحالة عمل مقارنات شخصية للمنفعة يشير الى ارتباط عميق بين اقتصاد الرفاهية والفلسفة الاخلاقية. هذا الارتباط اعيد التأكيد عليه منذ الستينات في القرن الماضي مع ظهور نظرية الخيار الاجتماعي التي تسمح للاقتصاديين والفلاسفة لمعالجة عدد كبير من قضايا الفلسفة السياسية والاخلاقية.

وبنفس الطريقة، كان هناك تفاعل طويل بين الاقتصاد وفلسفة العلوم من خلال ما سمي احيانا (وربما بشكل غير ملائم) "المنهجية الاقتصادية". "المنهجية" الاقتصادية هي في الحقيقة ليست فقط حول المنهجية وانما ايضا تتعلق بطبيعة الأشياء الاقتصادية او الـ "انطولوجيا" ونوع المعرفة التي يمكن ان نكتسبها (ابستيمولوجي). العديد من اقتصاديي القرن التاسع عشر الكلاسيكيين كانوا مهتمين بقضايا المنهجية الاقتصادية وفق هذا المعنى الشمولي (جون ستيوارت مل، جون نيفل كينز). حاليا، المساهمات في المنهجية الاقتصادية تأتي في الاساس من فلاسفة وتعالج موضوعات متنوعة، بدءاً من الطريقة التي تُنتج بها المعرفة الاقتصادية من خلال ممارسة النمذجة، الى القضايا المنهجية المتصلة بصعود الاقتصاد التجريبي. ومن الملفت، ان الانفصال الذي حدث في الثلاثينات بين اقتصاد الرفاهية والنفعية كان يتأسس كثيرا على الزعم بضرورة الفصل بين أحكام الحقيقة وأحكام القيمة – وهي القضية التي تعود في الأغلب للمنهجية الاقتصادية. هذا يوضح التداخل بين هاتين المنطقتين من الاقتصاد والفلسفة.

اخيرا، مع ان الاقتصاديين أبدوا اهتماما طويلا في القضايا المتصلة بمفهوم العقلانية، فان العلاقة بين الاقتصاد (بما فيه القرار الرسمي ونظرية المباراة) وفلسفة الفعل (التي ربما نضع ضمنها فلسفة الذهن) كانت أضعف تاريخيا. هذا ربما يعود لحقيقة ان الاقتصاديين وثقوا بالأدوات الرسمية لوصف السلوك العقلاني دون ان يكونوا مهتمين بالقضايا الفلسفية الأساسية، كما في على سبيل المثال المكانة الانطولوجية للحالات القصدية (الافضليات، العقائد) التي يتم نمذجتها بواسطة نظرية الاختيار في الاقتصاد. هذا الاتجاه تغيّر كثيرا منذ ثمانينات القرن الماضي خاصة في العلاقة مع ثورتين هامتين في الاقتصاد.

لهذا فان الخصائص البارزة والتأسيسية للاقتصاد والفلسفة هي المنظور المتبادل والشامل للاقتصاد والفلسفة في مواضيع تعود لأحد الحقلين او كلاهما. من الواضح، هناك عدة طرق لعمل الاقتصاد والفلسفة. بعض العلماء ينظر ويمارس الاقتصاد والفلسفة من خلال موقف تاريخي يجعله مرتبط كثيرا بتاريخ الاقتصاد والفلسفة. علماء آخرون يرون ان الوظيفة الاساسية للاقتصاد والفلسفة هي في الاساس إعطاء تقييم نقدي بهدف توضيح ممارسات الاقتصاديين.

اخيرا، الاقتصاد والفلسفة ايضا يتم ممارستهما كشكل جديد من "الامبريالية الاقتصادية" حيث الادوات الاقتصادية والنظريات تُستعمل لتوفير رؤى جديدة للقضايا الفلسفية القديمة. كل هذه الاتجاهات لها شرعيتها ومن الواضح لا يمكن تغطيتها جميعا في اصدار واحد.

اضف تعليق