q
تنشغل وسائل إعلام كثيرة هذه الأيام، بالانتخابات التشريعية المعلَن عن إقامتها في مطلع تشرين الأول القادم بالعراق، ويتم التركيز على عدم السماح للساسة الفاشلين بالتسلق مرة أخرى إلى قبة البرلمان، وهذا مطلب جماهيري لا يجافي الحق، لاسيما إذا اتفقنا بأن الساسة أخذوا فرصتهم بما يكفي...

تنشغل وسائل إعلام كثيرة هذه الأيام، بالانتخابات التشريعية المعلَن عن إقامتها في مطلع تشرين الأول القادم بالعراق، ويتم التركيز على عدم السماح للساسة الفاشلين بالتسلق مرة أخرى إلى قبة البرلمان، وهذا مطلب جماهيري لا يجافي الحق، لاسيما إذا اتفقنا بأن الساسة أخذوا فرصتهم بما يكفي، وأثبتوا بأنهم ليسوا أهلا للقيادة، ولا يجوز تجريبهم مرة أخرى انطلاقا من تصريح المرجعية ذائع الصيت: (المجرَّب لا يُجرَّب).

تكمن أهمية تناول إعادة تدوير الطبقة السياسية في العراق، بمدى ترابطها مع الواقع المعيشي للعراقيين، فهذا الواقع في حالة انحدار منذ أن طبّق الأمريكيون ما أطلق عليها في حينه بالفوضى الخلاقة، وهي تقوم على فكرة تدمير البُنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية لدولة ما، ومن ثم يُعاد تركيب هذه البُنى على وفق أسس جديدة مختلفة كل الاختلاف عمّا سبقها.

في دورات انتخابية متعاقبة شارك فيها الناخبون العراقيون، تم إبرام عقود اجتماعية مع ما يقرب من أربع حكومات تعاقبت على حكم العراق بعد 2003، والعقد الاجتماعي سياق متعارف لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم منذ أن طرحه الفلاسفة اليونانيون وغيرهم، مثل أرسطو وأفلاطون وغيرهما.

وقد أسهم الناخب العراقي في إبرام هذا العقد مع حكومات عديدة في العهد الديمقراطي، لكن في حقيقة الأمر جميع تلك الحكومات التي خرجت من طبقة سياسية واحدة، فشلت في إدارة العراق وشعبه بطريقة صحيحة تعوّض هذا الشعب عما تعرّض له من إجحاف وحرمان، واستئصال وتخريب للحقوق والحريات في مرحلة الحكومات العسكرية الدكتاتورية.

ومع تدهور الوضع الاقتصادي للعراقيين، وتصفير الخدمات، وتصاعد نسب الفقر بحسب بيانات رسمية صادرة عن وزارة التخطيط، تبيّن فشل تلك الحكومات التي أنجبتها الطبقة السياسية ما بعد نيسان 2003، وتغوّلت ظاهرة الفساد بقوة، وانتشرت في جسد الدولة العراقية (في مؤسساتها الرسمية، ووزاراتها، ومرافقها كافة)، كأنها مرض خبيث لا يمكن مواجهته.

مما انعكس على حياة العراقيين، وظهرت مشكلات عقيمة لم يتمكن سياسيو المرحلة الديمقراطية من حلّها، وما ضاعف من خطورة هذه المشكلات السياسية والإدارية والمالية، أن الناخب العراقي ساهم في ترسيخ هذه المشكلات بطريقة أو أخرى، فكان له دور في تخريب الدولة ومؤسساتها وإن لم يقصد ذلك.

ضعف مزمن للأداء السياسي

يصرّح السياسيون أنفسهم، رئيس وزراء، ووزراؤه، وأعضاء السلطة التشريعية، وإعلاميون ومهتمون كثر، بأن مشكلة العراق الأولى سياسية، خلل من العيار الثقيل يتسبب في ما يعانيه العراق من مشكلات جمة تبدأ سياسية، ثم تنسحب على الاقتصاد فتطيح بالدولة بعد أن يطغي عليها الطابع الريعي.

ولم يسلم الاجتماع من التصدّع فيزداد خلخلةً وضعفاً، ومن مفارقات هذه المرحلة أن جميع الساسة، بمن فيهم قادة الكتل والأحزاب حينما يظهروا في وسائل الإعلام المختلفة يعترفوا بالفساد، ويعلنوا محاربته، جميع الحكومات المتعاقبة وجميع رؤساء الوزراء أعلنوا حروبهم على الفساد، ولكن بالنتيجة بقيت مسيرة بناء الدولة عرجاء، وظلّت المشكلات قائمة بلا حلول.

ومع كل ما يحدث من أخطاء كارثية، تُعاد الوجوه الحاكمة نفسها إلى السلطة، والذي يعيدها هو الناخب (الشعب) الذي تنعكس عليه اختياراته سلبا، بعد فشل السياسيين في إدارة الدولة بشكل واضح وصريح، هذا يعني أن الناخبين العراقيين يقع عليهم جانب كبير من مسؤولية الإخفاق، لأنهم يُسهمون بطريقة أو أخرى في إعادة تدوير الوجوه السياسية التي تتحكم في صناعة القرار.

لماذا يكرر الناخب في العراق خطأ الاختيار، ولماذا يتكرر ذلك في أربع دورات انتخابية؟، ما هو السبب الذي يجعل المواطن متمسكاً بنواب برلمان أثبتوا أنهم بلا كفاءة، وأنهم نفعيون أنانيون، ولماذا يصر الناخب العراقي على المساهمة في إدامة وإبقاء الساسة في مناصبهم ومسؤولياتهم، في حين ثبت بالأدلة بأنهم عاجزون عن تغيير الواقع العراقي نحو الأفضل؟؟

في الحقيقة لا يمكن أن يكون الناخب العراقي بهذه الدرجة من الغباء، ولا يمكن أن يصر على إعادة انتخاب سياسي فاشل يصنع له المشكلات بدلاً من حلّها، الذي يحدث في قضية الانتخابات، أن الطبقة السياسية نفسها تعتمد أساليب خبيثة لتضمن تأييد الناخبين وكسب أصواتهم.

يجب الكفّ عن استغلال الناخبين

هذه الأساليب توصَف بالخبث لأنها تستغل حاجة الناخب، فهناك ناخبون فقراء الحال، تقوم بعض الأحزاب السياسية باستغلال فقرهم وعوزهم، فتبادر بتوزيع مبالغ مالية تافهة، أو أطعمة بائسة، أو أجهزة كهربائية منزلية رديئة، أو أشياء أخرى، وتشترط على الناخب الفقير انتخابها، وتلزمه بذلك بطريقة أو أخرى!

وما ذكرناه هنا يمثل أسلوبا واحدا من أساليب عديدة تلجأ إليها الطبقة السياسية، لكي تستحوذ على أصوات الناخبين العراقيين دونما وجه حق، وما يزرع في الصدور غصة، أن هناك من يتم خداعه بهذه الأساليب رغم أنها مكشوفة، و واضحة وضوح الشمس، ما يعني أن الناخب يشارك بنفسه في تدوير الوجوه الفاشلة التي أثبتت أنها ليس أهلا لثقة الناخبين.

الدليل على تغوّل هذه الأساليب واستشرائها، صعود نوّاب بلا كفاءة ولا مؤهلات ولا شهادات موثوق بها، وقد صعد هؤلاء إلى السلطة التشريعية بأساليب انتخابية معروفة، وكانت بعض الأحزاب تشكل حماية ودعما قويا لمثل هذه الأساليب الملتوية، لذلك فإن اللوم الذي يتم توجيههُ للناخب يجب أن يوجّه أولا إلى السياسي (الأحزاب السياسية التي تستغل حاجة الناس).

نعم لا يمكن أن يُعفى الناخب من مسؤوليته في دقة وصحة اختيار النائب في السلطة التشريعية، ولكن هل يجوز للأحزاب وقادتها وأعضائها، أن يصل بهم الأمر إلى استغلال الناس وفقرهم من أجل الوصول إلى السلطة؟!

خلاصة القول، نؤكد على أن الناخب (المواطن العراقي)، شارك بقوة في تدوير وجوه الفساد، وساهم بطريقة أو أخرى في إعادة تدويرها، هذا أمر لا يُنكر، ولكن هناك طرف أساس هو الذي خرَّب العملية الانتخابية وأدار بوصلتها باتجاه يناسبه ويضمن صعوده للسلطة حتى لو كانت الأساليب مرفوضة سياسيا وأخلاقيا.

هذا الطرف تمثله (الطبقة السياسية) التي نطالبها اليوم بقوة بالكف عن أساليب استغلال الناخبين، كما أننا نطالب الناخب العراقي أن يعي دوره في الاختيار الصحيح، وعدم الرضوخ للاستغلال السياسي، وأن لا ينخدع مرة أخرى.

فلابد أن يفهم العراقيون جميعا، بأن مفتاح الحل يكمن في أيديهم، وأنهم يغامرون بمستقبل الأجيال الحاضرة والقادمة، فيما لو تهاونوا مرة أخرى في أداء دورهم الانتخابي بما يضمن عدم تدوير الوجوه السياسية الفاشلة مرة أخرى.

اضف تعليق