q
اليوم ومع نجاح ميقاتي، في تشكيل الحكومة بعد توافقات وتسهيلات خارجية كالعادة، في فترة حساسة يشهد فيها لبنان استعصاء وانهيار اقتصادي ومعيشي وسياسي وأمني هو الأسوأ في العالم منذ العام 1850 يتساءل الجميع عن مدى قدرته على الوفاء بتعهده الذي أعلنه عقب تشكيل حكومته بإخراج لبنان من أزماته...

لبنان الصغير بتركته الكبيرة لم يكن في تاريخه قادراً على حسم موقعه ودوره، ولم تكن أي مفردة من مفرداته السياسية حاسمة لجهة نقله من مكان لأخر بشكل حاسم ونهائي، ولعل هذا سر استمراره وبقائه كما هو، لكن هذا الاستمرار لا يُشكّل ظاهرة الدولة القابلة للحياة بشكل طبيعي لسببِ بسيط هو انعدام التوازن السياسي، الذي كان للتدخل الخارجي دوراً رئيسياً فيه، كما في ربط تطوره السياسي بالتطورات الإقليمية، فكانت نتيجة ذلك انعدام وجود أي تنمية اقتصادية حقيقية تُشكّل رافعة أساسية لتنمية سياسية فعَّالة، بل وُجدت تنمية سياسية مفاعيلها الرئيسية في ساحة الصراع الإقليمي، وبالتالي بروز ما يسمى بمذهبية الرهان على الدور الخارجي باعتباره شرطاً ضرورياً للتنمية والازدهار الداخلي.

تاريخياً، استخدم فرقاء الداخل شعارات لكسب المعارك السياسية بالنقاط لا بالضربة القاضية، وكان من نتائج هذا التعادل السلبي بروز ما يسمى بالأزمة اللبنانية بصورة لم تعد معها مجرد أزمة طائفية تظهر متواترة من خلال أداء أجهزة الدولة، وإنما أزمة هيكلية تجد مفاعيلها المؤسسية ضمن أجهزة الدولة نفسها، ولم يكن تفاقم الأزمة الاقتصادية، وتردي الأحوال المعيشية، واتساع رقعة الفقر وانفجار الشارع ضد حُكامه وساسته سوى نتاج طبيعي لهذا التعادل السلبي.

وظلت محركات الحياة السياسية اللبنانية المعاصرة قائمة على توازنات داخلية وخارجية تحت مظلة القاعدة الشهيرة "لا غالب ولا مغلوب"، وكانت معها لبنان بلد التسويات بامتياز لكافة الأزمات العاصفة بها مهما كبُرت، والمنتهية في كافة مراحلها بإشارات وتقاطعات غير لبنانية للأسف الشديد، نظراً لقوة التجاوزات والتدخلات الخارجية المتوالدة، وسط منطقة مواجهات استراتيجية إقليمية ودولية، مترافقاً مع وجود سلطة لبنانية ضعيفة وهشة، وديمقراطية طوائفية ملغومة، وتشرذم اجتماعي، وتقوقع طائفي، ساعد بصورة أو بأخرى الدول الكبرى في تحويل هذا البلد العربي إلى منطقة حروب بالوكالة، وقذفه في عين الإعصار الإقليمي والدولي.

اليوم ومع نجاح "ميقاتي"، في تشكيل الحكومة بعد توافقات وتسهيلات خارجية كالعادة، في فترة حساسة يشهد فيها لبنان استعصاء وانهيار اقتصادي ومعيشي وسياسي وأمني هو الأسوأ في العالم منذ العام 1850 بحسب البنك الدولي، يتساءل الجميع عن مدى قدرته على الوفاء بتعهده الذي أعلنه عقب تشكيل حكومته بإخراج لبنان من أزماته؟

والتحدي الرئيسي الذي ينتظر "ميقاتي"، هو طرح حلول مبتكرة وغير تقليدية للخروج بلبنان من سلسلة الأزمات المزمنة التي يعاني منها.

ويُعرف "ميقاتي" في الأوساط اللبنانية بـ "رجل المهمات الصعبة"، وهو براغماتي وسطي، يُجيد طبخ وحياكة التسويات، وأحد أثرياء العالم ينحدر من مدينة طرابلس إحدى أكثر مدن لبنان ودول شرق البحر الأبيض المتوسط فقراً.

مواقفه قريبة من مواقف حزب الله فيما يتعلق بالمقاومة وعدم التفريط بها، وله علاقات طيبة مع سورية، ومن المتوقع استئناف حكومته العلاقة مع دمشق على الأقل على المستوى التقني، من أجل تسهيل الحصول على الطاقة.

وهذه هي ثالث حكومة ينجح في تشكيلها، في لحظات مفصلية من تاريخ لبنان، متجاوزاً ألغاماً كبيرة، معززاً برغبة دولية واقليمية لفرملة الانهيار في لبنان.

تشكلت حكومته الأولى في 19 أبريل – 19 يوليو 2005، بعد شهرين من اغتيال رئيس الوزراء الأسبق "رفيق الحريري"، واُسندت لها مهمة إدارة العملية الانتخابية، والثانية في 13 يونيو 2011 – 15 فبراير 2014، وكانت أمام استحقاقات مخاضات الربيع العربي.

حكومة "ميقاتي" الثالثة:

تحتل حكومة "ميقاتي" الثالثة الترتيب الـ 77 بين الحكومة اللبنانية المتشكلة بعد الاستقلال، والحكومة الرابعة المتشكلة في عهد رئيس الجمهورية الحالي "ميشال عون".

صدر مرسوم تشكيلها في 10 سبتمبر 2021، وتم تشكيلها بعد 13 شهراً من التناحر والشلل السياسي والتجاذبات السياسية، وشهر ونصف من تكليفه بتشكيلها 26 يوليو 2021، وحصلت على 72 صوت من 118 في المجلس النيابي.

تضم 24 وزيراً، بينهم سيدة، موزعين على 3 تحالفات، بواقع 8 حقائب لكل تحالف، وكل تحالف ضم في صفوفه من كل ألوان الطيف الديني والمذهبي، وهذه ميزة فريدة في روح التسامح والتعايش.

التوليفة الحكومية كسرت حاجز الطائفية، وتجاوزت خندق تمترسات المحادل المتبلورة بعد اغتيال رئيس الحكومة الأسبق "رفيق الحريري" 15 فبراير 2005، وما رافقه من ألغام، تحوّل معها لبنان الى ساحة مفتوحة للصراعات الإقليمية، وحلبة لتصفية الحسابات الدولية.

1 - تحالف رئيس الجمهورية:

6 بترشيح مباشر من "عون"، و2 بترشيح من حلفائه بموافقته، وتم التغلب على إصراره على حيازة كل الوزارات السيادية، والمفيدة للإعداد للانتخابات البرلمانية القادمة.

التيار الوطني الحر برئاسة الوزير السابق "جبران باسيل" وهو محسوب على "عون":

الخارجية والمغتربين، الدفاع الوطني، العدل، الشئون الاجتماعية، الطاقة والمياه، السياحة.

حلفائه:

حزب الطاشناق الأرمني: الصناعة.

الحزب الديمقراطي اللبناني الدرزي برئاسة النائب "طلال أرسلان": شؤون المهجرين.

2 - تحالف رئيس الحكومة:

تيار العزم برئاسة "ميقاتي": رئيس الحكومة، الداخلية والبلديات، الصحة العامة، الاقتصاد والتجارة، الشباب والرياضة – توافقية بين "ميقاتي" و"عون"، البيئة، التنمية الإدارية – توافقية بين "ميقاتي" و"عون".

الحزب التقدمي الاشتراكي الدرزي برئاسة "وليد جنبلاط": التربية والتعليم العالي.

3 – تحالف حزب الله - أمل:

أمل: المالية، الزراعة، الثقافة

حزب الله: الأشغال، العمل

تيار المردة المسيحي برئاسة "سليمان فرنجية": الإعلام، الاتصالات.

الحزب السوري القومي الاجتماعي، وهو محسوب أيضاً على التيار الوطني الحر: نائب رئيس الحكومة

ورفضت بعض القوى المشاركة فيها كما هو حال حزب الكتائب برئاسة "سامي الجميل"، وحزب القوات برئاسة "سمير جعجع".

من مزايا هذه الحكومة عدم حصول أي طرف سياسي على الثلث "المعطل/ الضامن" كما كان سائداً في الحكومات التي تلت اغتيال رفيق الحريري 15 فبراير 2005، ما يجعلها أكثر تجانساً وانسجاماً، ما يعني عدم وجود رابح أو خاسر بين أطرافها، وهذا سيساعد "ميقاتي" في تجاوز مرحلة الانقسام السياسي الداخلي، وتسهيل مهمة التفاوض مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وتسريع وتير جلب المساعدات الأممية، ولهذا حرص على ضم حقيبة "الاقتصاد" الى تحالفه، من أجل الإمساك بملف التفاوض مع صندوق النقد الدولي.

ونجح بتطعيم حكومته بوجوه جديدة بموافقة الكتل السياسية، من أجل المزج بين هدفين متضادين، هما حكومة "تكنوقراط" وحكومة "سياسيين"، ومن بينهما تشكل فريق متجانس في حكومة "خبراء" كانت أحد شروط المانحين الدوليين، وأحد مطالب الشارع اللبناني.

ومع ذلك فهي أمام لحظة فارقة، تتطلب اتخاذ قرارات اقتصادية قاسية، وعقد اتفاقات مالية دولية لا يمكن إتمامها دون غطاء سياسي من الكتل البرلمانية كي يسهل تمرير هذه الاتفاقات في البرلمان، كما تم تسهيل تمرير الوزراء الجدد.

المهام والتوقعات:

ينتظر حكومة "ميقاتي" استحقاقين أساسيين، وما عداهما تفرعات.

أ – تسريع وتيرة التفاوض مع صندوق النقد الدولي بشأن حزمة إنقاذ، والحصول على التمويل اللازم لتوفير الاحتياجات الأساسية كالوقود والغذاء والدواء والكهرباء والمياه، ووقف الانهيار المالي الحاد والمتسارع، والعمل على الحيلولة دون الانفجار الاجتماعي الذي كاد يكون محتوماً بسبب شح الدولار.

ويشهد لبنان اهتزازات عنيفة على خليفة الاحتجاجات المطالبة بإصلاحات شاملة بالتوازي مع تداعيات تفجير مرفأ بيروت، وارتفاع معدلات البطالة والتضخم، في بلدٍ يعيش ثلاثة أرباع سكانه دون حد الفقر، وتتحدث أرقام الأمم المتحدة عن 78 % من الشعب اللبناني يرزحون تحت خط الفقر في ظلّ تضخم جامح وعمليات تسريح من الوظائف، ونقص حاد في إمدادات الكهرباء والأدوية والوقود.

وأكد "ميقاتي" أنه سيباشر فوراً الاتصالات الدولية من أجل التوصل الى اتفاق مُرضٍ مع صندوق النقد الدولي.

ب - إنجاز الانتخابات البرلمانية المتوقع إجرائها في مايو 2022، والتي يترتب عليها انتخاب البرلمان الجديد، رئيس جديد للجمهورية، حيث تنتهي ولاية الرئيس الحالي، "ميشال عون"، في نهاية أكتوبر 2022.

ومن المتوقع عدم تجاوز عمر حكومة "ميقاتي" التسعة أشهر، لانتفاء بقائها بعد الانتخابات البرلمانية.

في التفاصيل، تحدثت عدة وسائل إعلامية نقلاً عن مقربين من "ميقاتي"، أن الحكومة ستعمل على:

1 - ضبط سعر صرف الليرة ضمن سقف يتراوح بين 10 و13 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار الأميركي، وهو سقف قابل للانخفاض إلى حدود 8 آلاف ليرة فور إنجاز برنامج التفاوض مع صندوق النقد، وكانت العملة اللبنانية قد فقدت خلال الأشهر الأخيرة 90 % من قيمتها.

وهناك حديث عن وجود تعليمات أميركية للمعنيين في صندوق النقد بتسريع المفاوضات مع الحكومة اللبنانية ضمن سقف لا يتعدى نهاية العام الحالي.

كما أعلنت وزارة المالية اللبنانية أن صندوق النقد الدولي سيُسلم لبنان مبلغ مليار و135 مليون دولار أميركي.

ومن المتوقع إشراف حكومة "ميقاتي" على تدقيق مالي شامل للبنك المركزي، لأن تأمين دعم صندوق النقد الدولي سيتطلب إصلاحات فشلت الحكومات السابقة في تنفيذها.

2- وضع آلية لتوزيع البطاقة التمويلية الممولة من البنك الدولي للعائلات الأكثر فقراً.

ومن المتوقع الإسراع في إصدار وتوزيع البطاقات التمويلية بالتزامن مع رفع الدعم المرتقب عن عدد كبير من السلع الأساسية، مقابل حصر الحصول عليها بالسعر المدعوم لحاملي هذه البطاقة.

3 - إنجاز خطة مع شركات أميركية وأوربية لتطوير معامل الكهرباء.

4 – ربط قطاع الاتصالات ببرامج الخصخصة، وفق شروط صندوق النقد الدولي.

5 - مواجهة كورونا.

6 - معالجة الانعكاسات المرتبطة بانفجار مرفأ بيروت.

الوضع في لبنان بالمختصر المفيد "كارثي"، وتشكيل الحكومة لن يؤدي بشكل مباشر إلى تحسين الظروف المعيشية، بل سيُسرع من عملية رفع الدعم دون استكمال إجراءات الحماية الاجتماعية للفئات الأكثر عُرضة للتضرر من رفع الدعم، ولذا سيكون "ميقاتي" مُجبراً لاتخاذ خطوات تقشفية بمجرد مباشرة حكومته عملها.

....................................
المراجع:
1 - جنى الدهيبي، تشكيل حكومة ميقاتي.. كيف نجحت مفاوضات الساعات الأخيرة في "تعويم" الطبقة السياسية؟، الجزيرة نت، 10 سبتمبر 2021
2 - رابحة سيف علام، حكومة ميقاتي: الممكن في زمن الأزمات، مركز الاهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 11 سبتمبر 2021
3 - زيد يحيى المحبشي، لبنان ما بعد الانتخابات رهانات مفتوحة، مركز البحوث والمعلومات، 15 يونيو 2009
وكذا: لبنان 2008 لحظات بألوان رمادية، مركز البحوث والمعلومات، 2 يناير 2008
4 - شفيق شقير، الحكومة اللبنانية الجديدة: هل توقف الانهيار؟، مركز الجزيرة للدراسات، 11 سبتمبر 2021
5 - صحيفة النهار اللبنانية، تشكيلة حكومة الرئيس ميقاتي، 10 سبتمبر 2021
6 - موقع بي بي سي البريطاني، تشكيل حكومة جديدة في لبنان برئاسة نجيب ميقاتي بعد عام من التناحر السياسي، 10 سبتمبر 2021
7 - موقع عربي بوست، هل يستطيع ميقاتي انتشال لبنان من أزمته أم يرسخ مساوئ النظام السياسي؟، 13 سبتمبر 2021

اضف تعليق