q
الخطوة الأولى في مشروع وقف الانهيار وإعادة التوازن إلى المجال العربي هي إصلاح وتطوير العلاقة بين السلطة والمجتمع في الإطار الوطني والعربي. فهي مدخل وقف التراجع والتقهقر، وهي التي تمكننا من التغلب على المصاعب الاقتصادية والسياسية التي تواجه دول العالم العربي لأسباب وعوامل مختلفة. وإن هذه المصالحة...

إن طبيعة التطورات الاستراتيجية والأحداث السياسية التي تمر بها المنطقة، تتجه إلى تأكيد حقيقة أساسية في المشهد السياسي للمنطقة وهي: أن النخبة أو الفئة سواء كانت حاكمة أو محكومة التي تربط مصيرها بخارج حدود الوطن، فإن هذا لا يفضي إلا إلى المزيد من الإرباك والتدهور.

حيث أن الارتباط الهيكلي بخارج الحدود، سيزيد من فرص استخدام القهر والقوة لفرض الخيارات وجبر النقص في العلاقات الداخلية من جراء الارتهان للأجنبي.

وهذا يقود إلى تنامي مشاعر العداء والخيبة لكل ما يجري في الساحة العربية، وستشهد المنطقة من جراء ذلك حالة من عدم الاستقرار والقلق والخوف، كما سيتفاقم العنف الرمزي والمادي، لأن القهر والظلم والإذلال ينبوع دائم للإرهاب والعنف وعدم الاستقرار.

وهذا يدفعنا إلى الاعتقاد الجازم، أن الاستقرار السياسي الحقيقي والدائم في فضائنا العربي والإسلامي لا يتأتى من حالة الارتهان للأجنبي أو الانسجام المطلق مع استراتيجياته وخياراته الإقليمية والدولية. بل إن هذه الحالة، تزيد من فرص انهيار الاستقرار وتفاقم من حالات اختراق الأمن الوطني والقومي.

لذلك فإنه يخطأ من يتصور أن بوابة الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مجتمعاتنا، هي الخضوع لرهانات الأجنبي وخياراته في الغطرسة والهيمنة.

فالتجارب السياسية تثبت أن الارتهان للأجنبي، لا يجلب إلا المزيد من الصعوبات وسخط المجتمعات وفقدان ثقتها وإيمانها بنخبتها السياسية والاقتصادية.

وفي ظل الأوضاع الراهنة تزداد مخاطر الارتهان للأجنبي على مختلف المستويات. ويبقى في تقديرنا خيار تنمية مشروع المصالحة الداخلية في الفضاء السياسي والاجتماعي العربي. إذ إننا لا يمكن أن نحقق الأمن والاستقرار إلا على قاعدة المصالحة الداخلية في المجتمعات العربية بين مختلف المكونات والتعبيرات.

مصالحة بين السلطة والمجتمع، بين النخب السياسية والثقافية والاقتصادية، بين المكونات والتوجهات الدينية والقومية. بحيث يتوفر مناخ جديد يزيد من فرص الوفاق والتوافق، ويقلل من إمكانية الصدام والصراع المفتوح بين الخيارات المتوفرة في الساحة.

إننا جميعا نخبا ومجتمعات، لا نمتلك القدرة الحقيقية لإنجاز حلول جذرية لأزماتنا ومشكلاتنا، واستمرار أوضاعنا وأحوالنا على حالها، سيفاقم من الأزمات وسيوصلنا جميعا إلى شفير الهاوية.

لذلك وفي ظل أحوالنا المتردية والتحديات والمخاطر الكبرى التي تواجهنا من مختلف المواقع، وغياب القدرة الحقيقية لدينا جميعا للإنعتاق الجذري من هذه الاختناقات. لذلك كله لا يبقى أمامنا كحكومات وشعوب إلا أن نلتفت لبعضنا البعض، ونعمل بوعي وإحساس عميق بالمسؤولية لإطلاق مشروع مصالحة سياسية واجتماعية بين مختلف مكونات المجتمع، حنى نتمكن من الخروج من هذه الدائرة الجهنمية التي تراكم المخاطر وتكثف من التحديات وتزيدنا ضعفا وتراجعا وانتكاسا.

فالتطورات السياسية الأخيرة في العراق وفلسطين تؤكد أن المجال العربي بأسره عاجزا عن حماية ذاته والدفاع عن أمنه الوطني والقومي، وأن المشروع الصهيوني يتغوّل ويتضخم ويصل إلى أهدافه الخطيرة من جراء عجزنا وضعفنا. ولن تستطيع الخطب الرنانة أو الشعارات الصارخة أن تغير من أحوالنا وأوضاعنا وتزيل عن كاهلنا حالة العجز المطبق التي كلفتنا ولا زالت الكثير من الخسائر والانكسارات. كما أن استمرار الأوضاع الداخلية في البلدان العربية على حالها، يعني استمرار الأخطار والخسائر. وهذا ينذر بحدوث كوارث سياسية واقتصادية واجتماعية في العديد من المناطق والبلدان.

لذلك لا خيار حقيقي أمامنا إلا مصالحة أنفسنا وإعادة بناء عقد سياسي واجتماعي جديد على المستويين الوطني والقومي، حتى نتمكن من توفير شروط الخروج والانعتاق من هذه الأزمات الخانقة والتي تهدد وجودنا ومستقبلنا كله.

فلا أحد في العالم العربي كله يتحمل اليوم الانتقال من خسارة إلى أخرى ومن نكسة إلى نكسة أخرى أشد منها وطأة وخطرا وتأثيرا على الحاضر والمستقبل. ففي ظل الأوضاع الحالية ازدادت الأمة معاناة وتراجعا، وفي ظل النظام العربي الرسمي القائم توسع المشروع الصهيوني وأصبح يهدد الجميع أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وازددنا تفككا وتفتتا على ضوء الموقف من مشروع السلام والتطبيع.

وفي ظل هذه الظروف والأوضاع حدثت حروب ومصادمات عربية-عربية أرهقت الجميع وأدت إلى أضرار فادحة في جسم الأمة.

وخلاصة الأمر: أن جميع الوقائع والتطورات الداخلية والخارجية، تثبت بشكل لا لبس فيه حاجتنا جميعا إلى نظام وعقد سياسي جديد يضع الأمة من جديد في الطريق الصحيح من أجل تحقيق أهدافها وتطلعاتها التاريخية.

إننا أحوج ما نكون اليوم إلى رؤية وعقد جديد ينظم العلاقات الداخلية بين قوى الوطن المتعددة وبين الدول العربية مع بعضها البعض. وينمي طاقاتنا ويصقل مواهبنا ويعزز قدراتنا الذاتية والموضوعية ويحرر إرادتنا من العجز أو الارتهان والتبعية، ويشحذ كل طاقات وقدرات الأمة من أجل استعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة والتاريخية، ودحر المشروع الصهيوني من فضائنا ومجالنا السياسي والحضاري.

فثغرات واقعنا العربي عديدة وعظيمة، والتحديات والمخاطر التي تهددنا متواصلة، ولا خيار أمامنا إعادة ترتيب أوضاعنا وأحوالنا على أسس جديدة تأخذ بعين الاعتبار كل التطورات والتطلعات الداخلية، دون أن تغفل حاجتنا جميعا إلى الائتلاف والوحدة.

وهذا يتطلب من النخب السياسية في المجال العربي، اتخاذ إجراءات وخطوات عملية ملموسة لوقف الانهيار والانطلاق في بناء حياة سياسية جديدة، تؤسس لمشروع عربي جديد، يحقق نهضتنا، ويوفر لنا القدرة النوعية لمجابهة التحديات الكبرى التي تفرضها قوى الهيمنة والغطرسة في المجال العربي.

وإن الخطوة الأولى في مشروع وقف الانهيار وإعادة التوازن إلى المجال العربي هي إصلاح وتطوير العلاقة بين السلطة والمجتمع في الإطار الوطني والعربي. فهي مدخل وقف التراجع والتقهقر، وهي التي تمكننا من التغلب على المصاعب الاقتصادية والسياسية التي تواجه دول العالم العربي لأسباب وعوامل مختلفة.

وإن هذه المصالحة بما تتضمن من رؤية ونمط جديد للعلاقة والتعامل، هي اليوم أكثر من ضرورة.. إنها خيارنا المتاح للدخول في حركة التاريخ من جديد وتجاوز كل المعضلات والعقبات التي تحول دون تقدمنا وانطلاقتنا من جديد.

وما لم تقوم دول العالم العربي بمشروع المصالحة مع شعوبها ومجتمعاتها، فسيكون مستقبل المجال العربي بأسره قاتما وخطيرا على مختلف المستويات.

فلا تقدم بدون إصلاح، ومن ينشد التطور والتقدم دون القيام بخطوات إصلاحية حقيقية، فإن أغلب الخطوات التي يقوم بها ستراكم من الأزمات، وستكثف من حالات الإحباط والفشل. فالارتباط بين الإصلاح والتقدم هو ارتباط النتيجة بالسبب.

وهذا العقد الاجتماعي ـ السياسي هو الذي مصالح الجميع، وهو المرجعية العليا لكلا الطرفين. فمفتاح الخلاص للعديد من التوترات والأزمات، وجود عقد ينظم طبيعة العلاقة بين قوى الأمة ومؤسساتها المتعددة. ويحدد الأهداف المرحلية والاستراتيجية التي تسعى إليها قوى الأمة، وتبلور حقوق وواجبات كل طرف.

ومن المؤكد أن تنظيم العلاقة بين مختلف مكونات الأمة، بحاجة إلى العديد من الجهود والإمكانات، وإلى ثقافة سياسية جديدة، تأخذ على عاتقها تعبئة المجال العربي وفق أهداف واضحة وأساليب ممكنة وحضارية. وإلى إعادة تشكيل الخارطة السياسية والثقافية، بحيث نصل إلى مستوى حضاري يحكم علاقة السياسي بالثقافي والعكس.

وجماع القول: أن بوابة خلق الإجماع الوطني والقومي الجديد، هي تجديد الحياة السياسية، وتوسيع مستوى المشاركة فيها، وتنظيم قواعد التنافس والصراع فيها أيضا.

والعقد السياسي ـ الاجتماعي الجديد، هو الذي يوفر الأرضية المناسبة لتطوير مؤسسة الدولة وتحديث هياكلها الدستورية، وبناء الاقتصاد الوطني ووضع برامج النهوض في مختلف الميادين والمجالات.

فالعرب اليوم ولاعتبارات عديدة ذاتية مرتبطة بالواقع العربي وطبيعة الأداء والخيارات السياسية والاقتصادية، ومستوى العلاقة بين السلطات العربية ومجتمعاتها بكل تعبيراتها وأطيافها. وموضوعية مرتبطة بانكشاف العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه أمام التدخلات الأجنبية، والسعي الحثيث والماكر الذي تبذله كل القوى الدولية والإقليمية للاستفادة القصوى من لحظة الضعف والعجز العربي. أقول أن العرب اليوم ولهذه الاعتبارات، غير قادرين على علاج مشكلات واقعهم سواء على الصعيد الداخلي أو المستوى الإقليمي والدولي. وهذه (عدم القدرة) التي تصل لحد العجز الواضح والبين، يلقي بظلاله السلبية والخطيرة على الفضاء العربي بكل مستوياته ودوائره.والذي يزيد الأمر صعوبة وتعقيدا، هو تعدد المشاكل والأزمات التي تواجه العرب اليوم. فما يواجهه العالم العربي اليوم، ليس مشكلة واحدة فحسب، وإنما مجموعة من المشاكل والأزمات،و جميعها يهدد وبشكل أو بآخر الأمن والاستقرار العربيين..

فمن القضية الفلسطينية التي أصبحت قضايا وعناوين فلسطينية عديدة، إلى أزمة العراق التي دشنت باحتلال القوات الأمريكية لهذا البلد العربي العريق، إلى مشروع الحرب على الإرهاب والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية بعقلية الإمبراطور العالمي، الذي لا يعرف إلا أمنه ومصالحه واستقراره. ويدفع بكل الدول إلى تبني خيارات أمنية وسياسية وعسكرية، تفتح الباب واسعا أمام احتمالات المواجهات والحروب الأهلية. إلى ما يجري في لبنان، الذي لا زال يأن من وطأة مشاكله وخياراته وتناقضاته. إلى احتمالات المواجهة الأمريكية ـ الإيرانية، والمخاطر الكبرى المترتبة على هذه المواجهة..

فالعالم العربي اليوم، يعيش في وضع لا يحسد عليه في مختلف المستويات. وإن استمرار حالة العجز العربي تنذر بتداعيات ومتواليات خطيرة تهدد الفضاء العربي من محيطه إلى خليجه. وما نقوله ليس مدعاة للخضوع والاستسلام، وإنما من أجل معرفة واقعنا وحجم المخاطر التي تواجهنا، وشحذ الهمم لبلورة طرق الخروج من هذه الأزمات والمآزق. فلا يمكن أن نرفع الراية البيضاء تجاه التحولات والأحداث الكبرى التي تجري في منطقة. فالمطلوب اليوم هو:

1/ إعادة بناء العلاقة بين السلطة والمجتمع في المجال العربي على أسس المشاركة والمساواة وصيانة حقوق الإنسان.. لأن تغييب المجتمعات العربية عن الشؤون العامة وصياغة واقعه ومستقبله، أدى إلى تفاقم المشكلات السياسية والأمنية الداخلية، مما أضعف الواقع العربي داخليا وخارجيا.. ولا يمكن مواجهة مشاكل المرحلة وصعوباتها إلا ببناء علاقات إيجابية جديدة بين السلطة والمجتمع في المجال العربي.

2/ الانخراط في مشروع الإصلاح السياسي، والعمل على إنهاء نقاط التوتر القائمة في كل بلد عربي.. والإصلاح السياسي الذي نتطلع إليه، هو ضرورة للحكومات العربية لتوسيع قاعدتها الاجتماعية، وتجديد شرعيتها، وإضافة دماء جديدة إلى مؤسساتها وهياكلها. كما هو ضرورة للمجتمعات العربية حتى تنهي عقود من التغييب والتهميش، وتضبط نزعات التطرف في فضائها وتعيد صياغة أولوياتها بما ينسجم ومقتضيات الاستقرار السياسي..

3/ إعادة صياغة دور ووظيفة المؤسسات القومية العربية، وعلى رأس هذه المؤسسات الجامعة العربية.. فالعرب اليوم لا يمكن أن يديروا أوضاعهم الإقليمية والدولية، بدون جامعة عربية فعالة وتمتلك القدرة السياسية الفعلية لضبط الخلافات العربية وتطوير وتفعيل كل المواثيق والاتفاقيات العربية ـ العربية..

فالتحول السياسي المطلوب اليوم عربيا، لا يمكن أن يتحقق بدون إصلاح وضع الجامعة العربية، وإعادة صياغة أدوارها ووظائفها.. وجماع القول: إن العرب اليوم، بحاجة إلى تحولات سياسية جادة ونوعية لإصلاح أوضاعهم الخاصة والعامة، حتى يتمكنوا من مواجهة تحديات وصعوبات لحظتهم التاريخية المفتوحة على كل المخاطر والاحتمالات..

اضف تعليق