q
تظهر تجربة الهند أن الوصول إلى الإنترنت المحمولة بسرعة عالية نسبيا وأسعار معقولة يشكل أصلا بالغ الأهمية في خلق أنظمة بيئية اقتصادية جديدة يمكن من خلالها نشوء وازدهار الإبداع، ونشاط ريادة الأعمال، وخدمات المستهلك الموسعة. الآن، يستفيد مئات الملايين من الهنود بالفعل من هذه العوامل الخارجية الديناميكية...
بقلم: مايكل سبنس

ميلانو ــ على مدار السنوات الخمس الأخيرة، شهدت الهند توسعا سريعا بدرجة غير عادية في الاتصال الرقمي والقدرة على الوصول إلى الخدمات الرقمية. وقد خلف هذا تأثيرا إيجابيا على شمولية النمو الاقتصادي؛ وعلى الكفاءة والإنتاجية في قطاع التجزئة، وسلاسل التوريد، والتمويل؛ وأنشطة ريادة الأعمال.

يعود ارتباط الهند بالتكنولوجيا الرقمية إلى أواخر ثمانينيات القرن العشرين. فقد استثمرت إدارة رئيس الوزراء راجيف غاندي (1984-1989) بكثافة في علوم الكمبيوتر والتعليم. ومع توسع الوصول إلى الإنترنت في التسعينيات، أصبحت الهند موطنا للعديد من الشركات الكبرى التي نقلت أعمالها إلى الخارج في إدارة تكنولوجيا المعلومات، والعمليات التجارية، وخدمة العملاء. ولكن لأن البنية الأساسية اللازمة لتمكين الوصول إلى الإنترنت عبر الأجهزة المحمولة على نطاق واسع ظلت ناقصة، فقد تأخر التغلغل وكانت تكلفة البيانات التي يتحملها مستخدمو الأجهزة المحمولة بين الأعلى في العالم.

ثم في عام 2010، عندما كانت أكثر عروض الخدمات القائمة في الهند آنذاك لا تزال تعمل بتكنولوجيا الجيل الثاني والثالث، اشترت IBSL، وهي شركة اتصالات صغيرة، نطاقا في مزاد تضمن حقوقا في نطاقات تردد الجيل الرابع الأكثر سرعة. ثم استحوذت مجموعة الطاقة Reliance Industries التي يمتلكها الملياردير موكيش أمباني على شركة IBSL، وحصلت بذلك على حقوق نطاق الجيل الرابع.

على مدى السنوات الخمس التالية، استثمرت الشركة التابعة الجديدة Reliance Jio الناجمة عن ذلك الاستحواذ بكثافة في تشييد البنية الأساسية للألياف الضوئية لدعم الوصول إلى النطاق العريض ونظام الإنترنت الوطني عبر الأجهزة المحمولة. خلال هذه الفترة، مُـنِـحَـت شركة Reliance Jio حق استخدام ذات النطاق للخدمات الصوتية، بالإضافة إلى البيانات، مما سمح لها بتقديم هواتف ذكية بأسعار معقولة مع خطط بيانات منخفضة التكلفة للغاية. وفي عام 2016، أُطـلِـقَـت خدمات Reliance Jio للهاتف المحمول والصوت والبيانات.

نتيجة لهذا، سجل عدد المشتركين في خدمات Reliance Jio نموا هائلا (ليبلغ 400 مليون مستخدم في عام 2020) وكذا عدد مستخدمي الهواتف الذكية في مختلف أنحاء البلاد. وتحولت تكلفة البيانات في الهند من كونها بين الأعلى في العالم إلى الأقل على الإطلاق ــ من نحو 3.50 دولار لكل جيجابايت قبل Jio إلى أقل من 0.30 من الدولار لكل جيجابايت بعد دخولها وتوسعها.

أدى اقتران السرعات الأعلى بالتكاليف الأقل إلى نمو سريع في استخدام الإنترنت في قطاعات عديدة، بما في ذلك التجارة الإلكترونية، ووسائط التواصل الاجتماعي، وبث الفيديو، وغير ذلك من أشكال المحتوى الرقمي. ودخلت شركات كبرى ــ بما في ذلك أمازون، ونتفليكس، وفيسبوك ــ السوق الهندية أو وسعت وجودها هناك.

الواقع أن أسعار البيانات التي حددتها Reliance Jio عند دخولها السوق بدت غير قابلة للاستدامة في الأمد البعيد. لكن الشركة استفادت من بعض السعة الفائضة للاستثمار في البنية الأساسية للشبكة الأساسية؛ والأمر الأكثر أهمية أنها استخدمت نموها المبكر للاندماج في نطاق أوسع من عروض الخدمات المربحة على شبكتها، مما أدى إلى تعزيز عوائد الاستثمار في عروض الإنترنت المحمولة المنخفضة التكلفة.

في عام 2019، على سبيل المثال، أنشأت الشركة منصات Jio، وهي شركة تابعة مملوكة لها بالكامل وتشمل الهواتف الذكية Jio وخطط خدمات البيانات بالإضافة إلى مجموعة متنامية من الأعمال الرقمية للمستخدم النهائي. ثم في النصف الأول من عام 2020، جمعت منصات Jio نحو 20 مليار دولار من شركات عالمية رائدة في مجال الخدمات الرقمية، بما في ذلك فيسبوك (ميتا الآن)، وجوجل (ألفابيت)، وإنتل، وQualcomm، وقائمة ممتازة من المستثمرين في الأسهم الخاصة.

منذ إطلاقها، أنشأت منصات Jio قائمة طويلة من تطبيقات الخدمات الرقمية واستحوذت على حصص الأغلبية في عدد متزايد من الشركات التي تقدم خدمات مماثلة. عملت هذه الاستراتيجيات على تغذية النمو السريع في خدمات الإنترنت المحمولة في الهند، وهو ما ساعد في توسيع الفرص المتاحة للشركات البادئة ورواد الأعمال.

حتى وقتنا هذا في عام 2021، نجحت 38 شركة بادئة هندية في تحقيق مكانة متميزة (بمعنى أن قيمتها تقدر بأكثر من مليار دولار) في قطاعات مثل التجارة الاجتماعية، والتعليم، والخدمات المالية، والرعاية الصحية. وعلى الرغم من وجود عدد قليل من الاكتتابات العامة الأولية المخيبة للآمال من قِـبَـل شركات الخدمات الرقمية الهندية في الأسابيع الأخيرة، فقد تسارع التمويل الإجمالي مع تحول تدفقات رأس المال العالمية بعيدا عن الصين، نظرا لإحكام القيود التنظيمية هناك.

من المفيد هنا أن نقارن بين قصة النمو الرقمي في الهند ونظيرتها في المكسيك، حيث نصيب الفرد في الدخل (معدلا وفقا لتعادل القوة الشرائية) أعلى بثلاث مرات. استغرقت المكسيك أكثر من 16 عاما لتحقيق مستوى تغلغل الإنترنت بنحو 72%، في حين نجحت الهند في توسيع تغطيتها من 16.5% إلى 41% في غضون خمس سنوات فقط من وصول منصات Jio.

في السنوات القادمة ستتوالى الفصول في قصة الهند الرقمية. لكن الهند تقدم بالفعل دروسا مهمة لفهم وتكييف نماذج التنمية مع عصر تحل فيه الأتمتة (التشغيل الآلي) والذكاء الاصطناعي محل مصادر تشغيل العمالة التقليدية (وخاصة التصنيع).

تشكل التكنولوجيات الرقمية المستندة إلى الإنترنت عنصرا شديد الأهمية لتحقيق الشمول الاقتصادي والمالي. وتُـظـهِـر تجربة الهند أن التوسع السريع في خدمات الإنترنت المحمولة تُـنشئ الفرص لتشغيل العمالة، وخلق القيمة، والنمو بما يتجاوز عائدات المستثمرين بأشواط. ومن الممكن الحصول على بعض هذه الفوائد الإضافية من خلال الاندماج المتقدم في فرص الخدمات الرقمية التي تنفتح مع توسع وترقية الإنترنت المحمولة (من حيث السرعة).

صحيح أن الاستثمارات الأولية ضخمة، وقد لا تتحقق العوائد قبل سنوات عديدة. تُـعَـد Reliance شركة طاقة ضخمة ورابحة استخدمت مواردها لتمويل استثمارات طويلة الأجل في الإنترنت المحمولة، وهذا يمهد الساحة للتوسع السريع لمنصات Jio. لكن هذا النموذج، الذي لم يتطلب استثمارات كبيرة من جانب القطاع العام، قد لا ينجح في كل مكان.

مع ذلك، تبدو الحجة قوية للغاية لصالح توظيف دعم القطاع العام واستثماراته في الطرح السريع لخدمات الإنترنت المحمولة. وفي ظل الحوافز المناسبة، يمثل هذا فرصة كبيرة لتحقيق نمو أكثر شمولا، بفضل الفوائد الاقتصادية والاجتماعية والإنمائية الأوسع.

تظهر تجربة الهند (جنبا إلى جنب مع تجربة بلدان أخرى) أن الوصول إلى الإنترنت المحمولة بسرعة عالية نسبيا وأسعار معقولة يشكل أصلا بالغ الأهمية في خلق أنظمة بيئية اقتصادية جديدة يمكن من خلالها نشوء وازدهار الإبداع، ونشاط ريادة الأعمال، وخدمات المستهلك الموسعة. الآن، يستفيد مئات الملايين من الهنود بالفعل من هذه العوامل الخارجية الديناميكية الإيجابية.

ينبغي لصناع السياسات في البلدان النامية الأخرى أن ينتبهوا إلى هذه الحقائق. إن خدمات الإنترنت المحمولة لا تختلف عن الاستثمار في البنية الأساسية التقليدية التي تخلق تأثيرات تنموية ديناميكية إيجابية من خلال زيادة العوائد على مجموعة واسعة من الاستثمارات الخاصة. تُـظـهِـر التجربة الصينية والتجربة الهندية الأحدث عهدا أن محركات النمو الـمُـمَـكَّـنة رقميا شديدة القوة، ومن الممكن تقديمها بسرعة أكبر وبمستويات من نصيب الفرد في الدخل أقل كثيرا مما كنا نتخيل سابقا.

* مايكل سبنس، حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد، أستاذ الاقتصاد الفخري والعميد السابق لكلية الدراسات العليا للأعمال في جامعة ستانفورد. مؤلف كتاب التقارب التالي: مستقبل النمو الاقتصادي في عالم متعدد السرعات
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق