q
تصطبغ بالطابع السلبي عندما تكون هذه المفردة قريبة من الدين والعقائد، فتدفع صاحبها للاصطدام بالايمان، وبالحقائق الموجودة على الأرض، رغم ما يقرّه العقل والوجدان، مثل وجود الخالق، والإيمان بالغيب، وجدوائية الأخلاق في التعاملات بين البشر، بيد أنه يستحيل مفتاحاً للوصول الى الجانب الآخر؛ وهو اليقين...

تصطبغ بالطابع السلبي عندما تكون هذه المفردة قريبة من الدين والعقائد، فتدفع صاحبها للاصطدام بالايمان، وبالحقائق الموجودة على الأرض، رغم ما يقرّه العقل والوجدان، مثل وجود الخالق، والإيمان بالغيب، وجدوائية الأخلاق في التعاملات بين البشر، بيد أنه يستحيل مفتاحاً للوصول الى الجانب الآخر؛ وهو اليقين، عندما يقف بوجه أنماط من التفكير والقوالب الجاهزة للعيش يغلق الطرق أمام المعرفة والمزيد من الاطلاع والتحقق للوصول الى الحقيقة.

حرية التشكيك بالسلع الثقافية المستوردة؟!

في عهود الديكتاتورية السياسية كان إقناع الناس بإلغاء كلمة "لماذا" من اذهانهم من أجل ضمان الاستقرار والأمن، وتجنب الاصطدام بالسلطة ورأس النظام الحاكم والتعرض للمشاكل، فكلما قلّ السؤال والنقاش، دامت الحياة الهانئة! وهو ما تحقق للحكام طيلة لعقود طويلة في القرن الماضي، أما اليوم فنحن أمام ديكتاتوريات من نوع حديث يفرض نمطاً من العيش والتفكير على أنها تعبر عن طبيعة الانسان، منها ما يُشاع بأن الانسان حرٌ فيما يصنع بنفسه، كما أنه حرٌ في الاعتقاد والايمان، وقد غلفوها على عجل وبشكل غير مُحكم بالآية القرآنية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، مع اقتطاع الجملة التالية: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ}، والتي تؤكد وجود علم يقيني في الوسط يقطع الشكّ باليقين، فهو حرٌ في إن يختار الرشد، كما له اختيار الغيّ والضلال، او سائر الثنائيات؛ الحق أو الباطل، الصلاح أو الفساد.

هذا هو "التشكيك المنهجي"، كما وصفه أحد العلماء، المؤدي الى الحقيقة، فهو يمكّن الانسان من التفكّر والتفحّص فيما يراه ويسمعه ويغربل الافكار الشائعة وأنماط السلوك المنتشرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيترك الزبد ليذهب جفاء ويأخذ بما ينفعه وينفع الناس.

وعندما يكون الانسان حراً في تفكيره، وبيده أدوات المعرفة الحقيقية، حيئنذ يمتلك قراره في استهلاك السلع والبضائع بما يراه مفيداً له ولأسرته، مع أقل الاضرار الجانبية في الحاضر والمستقبل، هذا في الجانب المادي، وفي الجانب المعنوي ايضاً؛ في استهلاك البضائع الفكرية؛ وهي الأهم والأكثر تداولاً، بل والأكثر اجتذاباً من قبل المستثمرين بمليارات الدولارات العالم، وفي مقدمتها البرامج التلفزيونية والافلام السينمائية وبعض صحافة الإثارة صاحبة القدرة الفائقة في صياغة ثقافة حياة من نوع غير معهود وتصدرها لشعوب العالم.

فاذا كانت هذه الشعوب على معرفة تامة بعواقب الاباحية الجنسية طيلة عقود من الزمن في القرن الماضي، لما اضطرت اليوم لأن تؤسس منظمات وجمعيات مناهضة للإجهاض تنظم المسيرات الاحتجاجية ضد شرعنة هذا العمل الذي عرف العالم اليوم أنه عملية قتل لنفس بشرية كان يتم آلاف المرات كل عام ولا يشعر به أحد، وكان هذا بفضل الرسالة ذات المضامين الايجابية للإباحية الجنسية وأنها سبيل "للراحة النفسية" وتجاوز الفشل في تجارب الزواج، وبنفس المضمون تحدث ذات مرة رئيس تحرير المجلة الاباحية المعروفة في العالم والتي تصدر من الولايات المتحدة منذ خمسينات القرن الماضي، عندما امتدح نفسه بأنه إنما يُسدي خدمة للبشرية من خلال نشر المحتويات الجنسية لبعث السعادة والارتياح في النفوس!

الشجاعة في مواجهة المسلّمات الكاذبة

يتحدث المفسرون عن طريقة توصل النبي ابراهيم، عليه السلام، لحقيقة الخالق للكون والوجود، وكيف أنه مرّ بمواحل تشكيكية بما كان يُعد في ذلك الزمان من المسلّمات الفكرية والعقدية، فكان ابناء قومه يتخذون من النجوم والشمس والقمر رموز للعبادة والتكهّن، وقد بيّن القرآن الكريم هذه المراحل في سرد جميل، فكان ابراهيم، عليه السلام، يبحث عن ربه، فلاحظ كوكباً في البداية تصور أنه الرب، فلما أفِل تحول الى القمر، وحصل الشيء نفسه، حتى وصل الى الشمس، {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}، و "الابداع الرسالي" في مهمة النبي ابراهيم السماوية أنه نقل هذه التجربة التشكيكية الى ابناء قومه لعلّهم يرشدون ويستفيدون مما توصل اليه، وذلك في قصة تحطيم الاصنام وتعليق الفأس في رقبة الصنم الكبير، ودعوتهم لاستنطاق هذا الصنم لمعرفة من الذي دخل المعبد وحطم الاصنام؟ فاسقط في ايديهم، لكن المشكلة أنهم {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، وكان من الصعب جداً تجاوز الحجب المتراكمة على قلوبهم ونفوسهم.

وفي وقتنا الحاضر، حيث التراكم التاريخي للتجارب البشرية، وتطور الوسائل، والافكار، ثم تطور حياة الانسان بشكل كبير ومستمر؛ كل هذا يدعونا لخوض هذه التجربة فهي تستحق العناء عندما توصلنا الى مرحلة اليقين والايمان بالاحتكام الى العقل بعيداً عن الرغبات النفسية، عندها يشعر الانسان بحالة من الارتياح والرضى والاطمئنان بأنه مصون –بنسبة كبيرة- من عمليات الخداع والتضليل من جهات مختلفة، وهذا ممكن من خلال ثلاث خطوات:

الخطوة الاولى: التفكّر في الخَلق

تطورات العالم الحديث أفادت كثيراً في إضاءة حقائق يقينية عن مصدر القدرة الكبرى في العالم والكون، وأن الانسان محكوم بقوانين وسُنن، وليس كما يتصور البعض بانه على كل شيء قدير، فأضحى من السهل والمتاح للجميع رؤية مراحل تطور الجنين من أول لحظة تلقيح بويضة المرأة من نطفة الرجل، وحتى الاسابيع ثم الأشهر الاخيرة من تكوين الطفل في رحم الأم، كما يعود الفضل لبلورة هذه الحقيقة لوكالات الفضاء العالمية ليرى الانسان حجم الكرة الأرضية والانسان الضئيل الساكن عليها بين آلاف المجرات والكواكب في الفضاء اللامتناهي.

وطالما دعا القرآن الكريم الى التفكّر في خلق السموات والأرض، ليعرف الانسان حقيقة نفسه وحجم قدراته، بعد أن عرف ربه وأن ثمة خالق للوجود، فهذه الدعوة ليس فقط لمعرفة الرب، والايمان بوجود الخالق، وهو ما توصل اليه الانسان اليوم، إنما المهم في معرفته بانه جزء من المنظومة الكونية، وله قوانين يسير وفقها، كما للكون قوانين دقيقة لا تتغير، وليس بوسعه التطاول والادعاء بالهيمنة لسبب بسيط وهو؛ الموت الذي يلاحق الجميع ويرمي بكبار القادة والفاتحين الى حفر القبور أسوة بسائر البشر، أو يحرقوا فيستحيلوا رماداً في وقت مبكر جداً قبل ان أصحاب المقابر!

الخطوة الثانية: مراجعة تجارب الماضين

شهدت الارض تجارب أمم سادت ثم بادت بشكل مريع عندما استكبرت على القوانين الالهية فكانت بين خسف وغرق وتدمير نكالاً لظلمهم وطغيانهم وفسادهم، كما تشير تلكم التجارب الى {إنّ العاقِبَةَ للمُتّقين}، وأن النصر الحقيقي والمستدام في الصراع بين الحق والباطل لا يكون لاصحاب القوة الظاهرة، وإنما للصالحين والاخيار، وأن الدم ينتصر على السيف، ولو بعد حين.

وإن تحدث البعض عن قوى اقتصادية وسياسية كبرى في عالم اليوم تتحكم بمصائر الشعوب، ولا مكان للوعظ والارشاد والحديث عن المعنويات، فلابد من التذكير بأن الفراعنة في مصر والآشوريون شمال العراق والبابليون في جنوبه، كانوا في زمانهم يعيشون وهم يحملون آمال استمرار حضارتهم الى يومنا هذا لما كانوا يمتلكونه من وسائل العمران، والعلوم والفنون وطرائق العيش التي كانت في نظرهم آنذاك ابداعاً منقطع النظير، ولكن؛ فاتهم أن الحضارة المستدامة مشروطة بضم جميع افراد الأمة بين جناحيها، بل وجميع أهل العالم، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وليس لفئة معينة من الحكام والمقربين منهم، بمعنى أن الرفاهية في مصر الفرعونية كانت في القصور فقط، وهكذا سائر الحضارات التي قامت على القوى الثلاث: المال والسلاح والخداع.

الخطوة الثالثة: فصل العلم عن النظرية

من أعظم منجزات الانسان الحديث ارتقائه مدارج العلم من خلال احتكاكه بالطبيعة، فاستخرج نظريات علمية في الكيمياء، والرياضيات، والفيزياء، بيد أن عليه التريث عندما يتعلق الأمر بالعلوم الانسانية مثل؛ الاجتماع والاقتصاد، والتاريخ، فالعلوم الطبيعية حقائق ثابتة لا تتغير، كما هي قوانين الطب، والجاذبية، والمعادلات الرياضية، بينما "العلوم الانسانية تتأثر بخلفية المنظرين، لذا لزم فصل المعلومات الحقيقية عن النظريات"، (الشك، مفسدة في الفؤاد ومنغصة في العيش، السيد سجاد المدرسي).

فعندما يكون الاندماج الى حدّ التماهي بين التنظير والعلوم الانسانية علينا توقع الآثار الكارثية من خطأ هذه النظرية أو تلك، او اكتشاف الفشل بعد سنين وعقود تخللتها حروب وصراعات وأزمات أودت بحياة الملايين من البشر، وجعلت عيشهم نكداً تنفيذاً لنظريات مثل التفوق العرقي والقومي، او تحديد النسل، او الملكية العامة واقتصاد الدولة (الاشتراكية).

ان التوقف ملياً أمام الانماط الجاهزة المستوردة بدعوى التفوق العلمي، وبعض المظاهر القشرية مثل الحرية الفردية، وتحكيم القانون الصارم في كل شيء، يمهد للوصول الى الحقائق المغيبة، والتي نلاحظ استعادتها من قبل الغرب في الوقت الحاضر، وبشكل هادئ لا يسمع بهم أحد! فأعادوا القيمة لمفاهيم مثل الضمير، والعاطفة، والأخلاق وضرورة وجودها في الحرية والقانون لتبعث فيها المصداقية، وتجعلها في خدمة الانسان على طول الخط.

اضف تعليق