q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

كيف نصنعُ حضارتنا؟

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

من يجلس في بيته ويقول أنا غير مسؤول عن التطور والبناء، وهذه ليست مهمتي بل مهمة الآخرين، والآخر يقول الشيء نفسه، وحين تصبح مثل هذه التبريرات الفاشلة ظاهرة اجتماعية، فإن البناء يصبح مستحيلا، وأن بلوغ الحضارة الأصيلة لن يكون مقدورا عليه، لأن أسباب الفشل موجودة في نفوس الناس وأفكارهم...

(إذا أردنا أن نصنع حضارة بالتمنيات فإننا سنكون واهمين) الإمام الشيرازي

كل أمة تحتاج إلى أن تبني حضارتها بشكل مستمر، فطالما حياة الأمة لابد من ديمومة العمل والسعي لتطوير حضارتها، كونها تمس حياة الناس، أفرادا وجماعات، وحسب المصادر فإن الحضارة نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي، وتتألف الحضارة من أربعة عناصر هي الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخُلقية، ومتابعة العلوم والفنون؛ وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه إذا ما أمِنَ الإنسان من الخوف، تحرَّرت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء.

تعرَّف الحضارة على أنها النتاج الفكري والثقافي والمادي المتراكم لأمةٍ من الأمم، والتي تمنحها خاصيةً مميزة عن الأمم الأخرى.

كلمة الحضارة في اللغة العربية مشتقة من الفعل حضر، ويقال الحضارة هي تشييد القرى والأرياف والمنازل المسكونة، فهي خلاف البدو والبداوة والبادية، وتستخدم اللفظة في الدلالة على المجتمع المعقد الذي يعيش أكثر أفراده في المدن ويمارسون الزراعة، التعدين، التصنيع على مستوى مصغر، والتجارة.

المجتمع الذي يعيش مظاهر التمدّن يكون أكثر تعقيدا من سواه، لذلك هو يحتاج إلى التنظيم والتعاون والسير وفق قيم وثوابت تؤطّر علاقاته بمختلف مسمياتها ومجالاتها، ولذلك لابد أن يتعاون الأفراد ومكونات المجتمع لكي يبنوا حضارتهم باستمرار، وهذا ما يجب أن يتطلع له المجتمع حتى يتم ضمان التنظيم الجيد، وترسيخ القيم في العلاقات الاجتماعية وسواها، والنتيجة سوف تصب في بناء مستقبل مشرق للأجيال القادمة، وهذا هدف يجب أن تضعه أجيال الحاضر نصب أعينها، لكي تؤمّن الحضارة المناسبة للقادمين.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد على هذه النقطة في كتابه القيم، الموسوم بـ (الصياغة الجديدة) فيقول:

(إننا نتطلع إلى مستقبل مشرق، وهذا المستقبل يتطلب منا الوحدة والتعاون والتنسيق بين طاقاتنا الفكرية وقدراتنا المادية).

هذا الهدف العملاق لبناء حضارة الأمة لن يتحقق إلا وفق شروط غايةً في الصعوبة، أولها الصبر، وثانيها الرؤية البعيدة، والتطلعات السامية، وبناء الشخصية القيادية القادرة على تجميع الطاقات بأنواعها، لاسيما البشرية منها لكي تلتف حولها وتؤمن بقيادتها، ومن ثم تعمل برؤية القيادة، والخطوات التي تضعها ضمن تخطيطها وتطلعاتها.

الطريق للحضارة ليس مفروشا بالورود

الصبر له أهميته في البناء، فالدروب إلى الحضارة لن تكون مفروشة بالورد، ولا بالسهولة، بل بالتحديات الصعبة والخطيرة أيضا، لذا يجب أن يشمر الجميع عن سواعدهم، وقادة النخب يشمّروا عن طاقاتهم وعقولهم وقدراتهم القيادية المتميزة، معنويا وفكريا وماديا، على أن تكون الأهداف من طراز يليق بمكانة الأمة وبتاريخها وحاضرها ومستقبلها.

يقول الإمام الشيرازي:

(لتكن نفوسنا صبورة ورؤانا بعيدة، ولتكن أهدافنا وتطلعاتنا سامية، حتى تكون شخصيتنا قادرة على استيعاب المجموع وتجميع طاقاته وقدراته).

هناك من يعتقد أن بلوغ الحضارة مسألة وقد لا أكثر، وبعضهم يؤمن بأن النمو أمر طبيعي يكون من حصة جميع الأمم، وهؤلاء يؤمنون بأن التطور لا يحتاج إلى سعي وإنما يصيب البشر وهو جالس في بيته، هؤلاء هم أنصار الأمنيات الفارغة، والخيال بلا سعي واعتماد الأحلام دونما تخطيط لتطبيقها، لذلك تكون الحضارة والبناء السليم أبعد ما يكون عن أمة أو مجتمع من هذا النوع، أفراده وقياداته يؤمنون بالخيال والأوهام كسبيل نحو الحضارة والبناء.

يقر أصحاب التجارب الخلاقة في بناء الحضارات، بأن العمل المدروس المتواصل والمخطط له، هو السبيل الأهم وقد يكون الأوحد، لبلوغ مشارف الحضارة، والدخول في هذه المملكة المسوّرة بالمصاعب الجمة، وحين لا يوجد عمل ولا تنسيق ولا تخطيط ولا إرادة ولا رؤية خلاقة ولا صبر، فإن عملية البناء بكل أنوعه تكون في خبر كان، وتبقى قيد التمنّي والخيال والحلم، ولا تتحول إلى واقع حال يلمسه الناس بأيديهم وبصائرهم.

الإمام الشيرازي يركّز على هذه النقطة فيقول:

(إن الخيال والحلم والتمني لا يصنع شيئاً، إننا إذا أردنا أن نصنع حضارة بالتمنيات فإننا سنكون واهمين، لأن صنع الحضارة ليس بالحلم والتمني، فالإنسان لا يستطيع أن يصنع بالتمنيات والحلم حضارة أو دولة وإنما يكون صنع الحضارة وبناء الحكم بالمساعي والعمل الجاد من أجل بلوغ الأهداف).

الحضارة وسلسلة الإنجازات الجبارة

كل أنواع التطور والبناء الذي بلغته الأمم الناجحة، حصل كنتيجة لسلسلة من الإنجازات الجبارة، والأعمال الخالدة، والأفكار البناءة، جهود أجيال متلاحقة في حقب متعاقبة، مع إصرار وتخطيط وإرادات عظيمة وحرّة، تمكنت من صنع قيم صالحة تجمع بين أفراد الأمة ومكوناتها، وتجمع الطاقات صغيرها وكبيرها في بوتقة واحدة لتبني نفسها وحضارتها.

من يجلس في بيته ويقول أنا غير مسؤول عن التطور والبناء، وهذه ليست مهمتي بل مهمة الآخرين، والآخر يقول الشيء نفسه، وحين تصبح مثل هذه التبريرات الفاشلة ظاهرة اجتماعية، فإن البناء يصبح مستحيلا، وأن بلوغ الحضارة الأصيلة لن يكون مقدورا عليه، لأن أسباب الفشل موجودة في نفوس الناس وأفكارهم مما يدمّر إرادتهم ويدفع بهم نحو العجز والتهرّب من المسؤوليات، واعتماد الفردية والعزلة المدمِّرة.

هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله:

(أما أن نجلس في بيوتنا ونقول: بأننا نستطيع تحقيق أهدافنا، فإن ذلك ما لا يقبله العقل ولا ينتهي إلى نتيجة).

يجب أن يكون هناك إعداد مستمر للبناء بكل أنواعه، فالنجاح في البناء الاجتماعي وتدعيم منظومة القيم الصالحة، سوف يقود إلى نجاحات حتمية في البناء السياسي والاقتصادي وسواهما من أنواع البناء، لذلك يجب أن يبدأ الشعب ببناء نفسه منذ الآن وإلى عقد قادم من السنوات، وهذا أفضل للشعب من التأجيل وعدم الشروع في عملية البناء والإعداد لها، فكلما كان الشعب مبكِّرا في إعداد نفسه، ومواصلة استعداداته للبناء الحضاري، كان ذلك أفضل بكثير من العجز والتكاسل والتأجيل بحجج واهية.

إذا توافرت إرادة البناء الحضاري منذ اللحظة، هذا سوف يكون أفضل مما لو تم تأجيل ذلك إلى توقيتات لاحقة، وهذه بالطبع مهمة قادة المجتمع بالنخب كافة، نعم كل فرد مسؤول عن المشاركة ببناء المجتمع الناجح، لكن دور القادة والعلماء والمفكرين ورجال الدين والمثقفين ونخب المجتمع هم (المسؤول الأول) عن البناء الحضاري للشعب والأمة.

يقول الإمام الشيرازي:

(الشعب الذي يعد نفسه للانتصار من الآن أفضل من الإعداد بعد عشر سنوات، لأن الإعداد اليوم سوف يعطي النتائج بعد فترة زمنية لا تتعدى فترة الإعداد بعد عشر سنوات بإذن الله تعالى).

لذلك يطالب الإمام الشيرازي بوجوب التربية على المفاهيم والقيم الصالحة، والسعي الدؤوب لنشرها وتركيزها في تعاملات المجتمع، ودعم البنية الاجتماعية بهذه القيم، كونها الطريق الأكثر ضمانا في بلوغ ناصية التحضّر، ومواكبة ما يجري من مستجدات سريعة في العالم.

لهذا يؤكد الإمام الشيرازي رؤيته في هذا الجانب، فيقول بوضوح:

(لو أننا ربينا أنفسنا ومجتمعنا على المفاهيم والقيم الصالحة، فإننا سوف نجني ثمرة هذه التربية إن شاء الله تعالى).

هذه هي السبل والخطوات التي تقود الأمة نحو التحضّر، وتجعلها في إطار الحضارة العالمية الأكثر نجاحا، ومن الأهمية بمكان أن يتم التخطيط الجاد لهذا الهدف من قبل الجهات والمؤسسات والقيادات المسؤولة عن البناء الحضاري للمجتمع، بعيدا عن التأجيل والتمني والبقاء في حاضنة الخيال والأمنيات التي تعزل الأمة عن الحضارة الإنسانية.

اضف تعليق